الإسراف في التقنين .. عامل مؤثر في وجود الفساد الإداري

  • — الثلاثاء مايو 12, 2015

[بقلم : معالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين (رحمة الله)]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه..

خلال مدة تزيد عن خمس وخمسين سنة كانت صلتي بالقانون دراسة، وتدريساً، ومستشاراً قانونياً في الإدارة العامة، ومشاركاً في كتابة عدد من الأنظمة ومشرفاً على تطبيقها، ومن كل ذلك وجدت لدي فكرة ظلت مع الزمن و تكرر الوقائع ترسخ في ذهني حتى أصبحت لدي حقيقة يمكن إقامة الدليل عليها بأكثر من مائة دليل ودليل.

هذه الحقيقة تتلخص في أن لدى رجل الإدارة في وطننا الحبيب غراما غير عادي بسن الأنظمة، في الواقع، عندما يواجه رجل الإدارة مشكلة في الإدارة، فإن أول ما يخطر في ذهنه سن الأنظمة، التي يسميها بعض الأحيان الضوابط، باعتباره الحل الوحيد والسحري للمشكلة ولكن هذا الغرام الشاذ الذي ينتج الإسراف في التقنين –أعني سن الأنظمة- وفي بعض الأحيان إساءة استعمال التقنين يقيم عاملا بالغ التأثير في تهيئة البيئة المناسبة للفساد الإداري وبالتالي في العجز عن اجتياز حاجز التخلف.

إن وجود القواعد المنظمة ضرورة للمجتمع في كل زمان ومكان، لأن البديل له الفوضى وفساد الحياة، ولكن سن القواعد القانونية المنظمة للمجتمع يقتضي كمطلب أساسي أن تكون القاعدة القانونية (حكيمة) و(عادلة)، حكيمة بأن تكون ظاهرة النفع، وعادلة بحيث تطبق –وبدرجة متساوية– على الكافة.

وأضرب مثلاً لذلك :

القاعدة القانونية التي تفرض على سائق المركبة عدم تجاوز إشارة المرور الحمراء ظاهرة النفع واضحة الحكمة، وعادلة لأنها تطبق على الكافة مهما اختلفت أوضاعهم وحاجاتهم لسرعة الوصول للمكان الذي يقصدونه.

ولو خالف شخص هذه القاعدة القانونية (قطع الإشارة) لواجه من ردود الفعل المنكرة الغاضبة من قبل الجمهور أبلغ مما يواجه من رجل المرور المسؤول عن متابعة تنفيذ هذه القاعدة.

مرة، كان أحد الإخوة يردد الشكوى التي نسمعها دائما أن الناس في بلادنا لا يحترمون القانون، في حين أن رجل الشارع في البلد الأوربي الفلاني لا يلتزم فقط بإطاعة القانون، بل إنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن متابعة تنفيذه، فقلت السبب أن القوانين في البلد الأوربي الذي ذكرت حكيمة وعادلة، أما في بلادنا فقد لا تكون حكيمة، أو لا تكون عادلة، أو لا تكون لا حكيمة ولا عادلة.

كيف يكون الإسراف في التقنين عاملاً مؤثراً في وجود الفساد ؟

الجواب:

الأدوية مضادة الحيوية ضرورية لعلاج الأمراض، ولكن لها آثاراً جانبية سيئة قد تكون مدمرة، فإحسان استعمالها يقتضي أن لا يصفها الطبيب إلا في حالة الضرورة وحيث لا يوجد بديل أسلم، ووصفها بقدر الحاجة لا زائداً عنها، وبعد الموازنة بين أثرها الإيجابي المطلوب وآثارها الجانبية السيئة.

أذكر قبل مدة (أكثر من أربعة عقود) أني قرأت تقريراً صدر عن شخص أو منظمة (أنساني طول الزمن) من المهتمين بالصحة العالمية يقارن فيها بين استعمال البلدان للمضادات الحيوية، فذكر أن وصف هذه الأدوية في ألمانيا يأخذ 4% من ميزانية الدواء في حين أنه في بلد أفريقي (أحتفظ باسمه) يأخذ 40% من ميزانية الدواء.

أهم عامل في وجود هذا الفارق هو إساءة استعمالها في البلد الإفريقي والقصور في متابعة تنفيذها والتأكد من حسن استعمالها.

تماما مثل الأدوية المضادة الحيوية في علاقتها بجسم الإنسان، وتأثيرها عليه إيجابا أو سلبا، والسياسة الرشيدة التي يجب أن تحكم وصفها كذلك القواعد التنظيمية في علاقتها بالإدارة والمجتمع، وتأثيرها عليهما إيجابا أو سلبا والسياسة الرشيدة التي يجب أن تحكم إصدارها.

فيجب ألا توجد إلا عند الحاجة، حيث لا بديل غيرها لمواجهة مشاكل الإدارة والمجتمع، وأن توجد بقدر الحاجة لا زائدة عليها، وأن يكون إصدارها بعد الموازنة بين آثارها الإيجابية وآثارها السلبية سواء على الإدارة أو المجتمع.

فيكون إصدارها نتيجة الموازنة بين المصالح والمفاسد لوجودها وبعد اعتبار كل العوامل المؤثرة، مأخوذا في الاعتبار أن وجودها يستلزم دائما التجاوز على حرية الإنسان وتقييد قدرته على التصرف.

ولابد من المتابعة الدقيقة Auditing بضمان تنفيذها، وأن يتم تنفيذها على وجه يتأكد به العدل والجودة في الأداء، وتحييد أثارها السالبة على الوجه الممكن، ولكن المشكلة الرئيسية في إدارتنا الوطنية هي قصور متابعة تنفيذ القواعد التنظيمية أو انعدامها.

ينتج عن قصور المتابعة أن رجل الإدارة المسئول عن تطبيق القواعد التنظيمية يجد نفسه في وضع يتيح له نوعا من السلطة المطلقة، فهو يطبق هذه القواعد إذا شاء ويتوقف عن تطبيقها إذا شاء، آمنا من أن لا أحد وراءه يتابع سلوكه أو يسأله عما يفعل، والسلطة المطلقة كما هو معروف أساس الفساد الإداري، إذ هي توجد الإمكانية للفساد والإغراء عليه.

وحتى لو وجد الاهتمام بالمتابعة فإن تزايد إصدار القواعد التنظيمية يوسع مجال الانتباه Attention Span وحسب القانون الطبيعي فإن مجال الانتباه كلما اتسع صار على حساب جودة الانتباه، وحين توجد غابة من القوانين فإنه حتى المختص يصعب عليه الاهتداء فيها، ويزيد الأمر صعوبة أن تزايد وجود القواعد التنظيمية يوجد فرصة لتعارضها مما ييسر مهمة رجل الإدارة الفاسد، ويصعب مهمة الإداري الصالح.

وفي مجال آخر، فإن المواطن الصالح الذي تقيد بالقواعد التنظيمية يرى نفسه في وضع غير منافس مع المواطن الآخر الذي يتيح له قصور المتابعة حرية التصرف والعمل، دون خوف من الملاحقة.

ومن ناحية أخرى، فإن المواطن الصالح الذي يرى نفسه –بفضل القواعد التنظيمية التي تتبارى في إصدارها عدة جهات إدارية تتناول مسئوليتها مشروعه التجاري- مكبلا بالقيود التي تخلقها القواعد التنظيمية، لا يجد فرصة للوصول إلى هدفه المشروع إلا بمحاولة التفلت من أسر القواعد التنظيمية، ولو بوسائل غير مشروعة، وبذلك تكون مخالفة القوانين هي القانون السائد في المجتمع.

وخير عبرة نجدها في سياسة التشريع في الإسلام، الدين الذي مِنْ أظهر سماته الاقتصاد في القواعد الآمرة (الإيجاب والتحريم والطلب والنهي).

الله يمن على أمة الإسلام بأنه ما جعل عليهم في الدين من حرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج:78}، وأنه يريد بهم اليسر (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) {البقرة:185}، ويريد التخفيف عنهم (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) {النساء:28}.

ويصف القرآن القواعد الآمرة التي حملت بها الأديان قبل الإسلام بـ”الآصار” و”الأغلال” التي وضعها الإسلام عن أمة الإسلام (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) {الأعراف:157}.

وقد جاء في صريح القرآن النهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيجاب والتحريم قبل أن يبتدئ النبي البيان في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) {المائدة : 101}، ووردت السنة بالتشديد على مثل هذا النهي، والعلة ظاهرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل أجاب، وجوابه قاعدة تشريعية آمرة، ومقصود الشارع الحكيم الاقتصاد في الأوامر والنواهي.

هنا الكلام عن قواعد تشريعية صادرة عن العليم الخبير العزيز الحكيم، فما الشأن في القواعد التنظيمية التي تصدر عن الإنسان العجول الظلوم الجهول.

الاقتراح :

إن الغرام الذي يجاوز الحد لرجل الإدارة في وطننا بإصدار القواعد التنظيمية مرض مزمن، مزمن لدرجة إن الناس صاروا يعتبرونه ظاهرة صحية، وقلَّ أن يوجد من ينتبه إلى آثار هذا المرض المدمرة على الإدارة والمصلحة العامة للمجتمع.

وأثناء عملي في الحكومة، عانيت أشد المعاناة في إقناع رجال الإدارة بمنافاة سلوكهم للسياسة الرشيدة في هذا الصدد، وغالبا ما تنتهي هذه المعاناة بالفشل.

لذا، أقترح أن تُعنَى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بدراسة الظاهرة مستخدمة عدة وقائع حالات دراسية. وينبغي أن لا نغفل تجارب محلية تثبت أن المسألة ليست فكرة نظرية، بل واقعية.

مثال ذلك تجربة الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر (رحمه الله) عندما كُلّف بإصلاح الجمارك، وكانت الجمارك في المملكة حينذاك أسوأ جمارك في الشرق الأوسط، وكان الفساد مستشريا فيها، ربما أكثر من أي إدارة حكومية أخرى، وبعد مدة قصيرة من العمل تحولت إلى أفضل جمارك في الشرق الأوسط، وانتفى منها الفساد كليا.

والذي ركز عليه الأستاذ فهد هو اختصار القواعد التنظيمية الإجرائية، والملفت للنظر أنه لم يَطرد موظفا واحدا من الفاسدين، لأنهم أنفسهم تركوا الجمارك مختارين بعد أن اختفت البيئة الإدارية التي تتيح لهم الفساد، وهم إنما كانوا يعملون في الجمارك لا لأجل الوظائف التي يشغلونها وإنما لما تتيحه لهم من كسب وثروة ناتجة عن بيئة الفساد.

ينبغي أن نتذكر أن المديرين العامين للجمارك لم يُتّهموا بالمشاركة في الفساد، ولم يتهم بذلك الخبيران المصريان في الإدارة اللذان كانا من أفضل الخبراء علما وتجربة، حيث كان المسؤول الأول عن الفساد السلسة المفرطة في الطول من إجراءات التخليص الجمركي.

وسوف تكشف الدراسة أن كثيرا من القواعد القانونية صدرت لا لظهور الحاجة لمواجهة ظاهرة عامة ولكن رد فعل لحادثة فردية أو حالات محدودة، كما ستكشف أن كثيرا من هذه القواعد صدر لجلب مصلحة صغيرة أو درء مفسدة ولكن نتج عن صدورها تفويت مصلحة كبيرة أو ارتكاب مفسدة أو مفاسد أسوأ أثرا.

وحينئذ سيكتشف أن القاعدة القانونية صدرت بدون موازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة عليها، وبدون اعتبار للموجبات والموانع، وهي المعيار الذي لا يغفل عنه كل مشرع حكيم.

وستكشف الدراسة أيضا أن عددا من القوانين صدرت قبل تهيئة الوسائل للمتابعة وضمان التطبيق العادل للقاعدة القانونية.

وقد يكون من خير الأدلة (Guides) في هذه؛ أن تجرى المقارنة بين بلادنا والبلدان الأخرى في هذا المجال، ولا شك عندي أن مثل هذه الدراسة ستكشف أن رجل الإدارة والمواطن العادي مكبلان بقيود فاضحة عديدة لا يوجد لها مماثل في أي بلد من بلدان العالم بدون موجب جدي يقتضي شذوذنا في هذا الأمر الخطير.

إن اكتشاف المرض والعزم على علاجه هو أول خطوة في طريق العلاج.

وبالله التوفيق،،،