عندما يكون الصندوق هو الحد

  • — الإثنين ديسمبر 03, 2018

حظيتُ مؤخراً بفرصة لإجراء مقابلة مع السيد والتر فاندرفيلد Walter Vandervelde، مؤلف كتاب جديد وجذاب تحت عنوان: عندما يكون الصندوق هو الحد When the Box is the Limit.

حيث يعتقد والتر أن الإبداع في حقيقته عبارة عن عقلية، الإبداع مهنته، يعشق إلهام الآخرين ومساعدتهم على تطوير قدراتهم الإبداعية، سواء كانوا ذئاب شابة وجائعة (طلابه) أو الاختصاصيين ذوي الخبرة والذين هم في أمس الحاجة إلى التألق الإبداعي.

وعلى حد قول السيد Walter، فإن القيود التي يواجهها المرء تحفز عملية الإبداع والابتكار، وعندما يكون الصندوق هو الحد، فغالباً يأتي الإبداع تلقائياً الى السطح كحل طبيعي، ويجب ألا تكون القيود أبداً سبباً لعدم الابتكار، بل يجب أن تكون محفزاً ومحركاً وقوة دافعة وراء الابتكار.

وحتى لا أضيع وقتكم في المزيد من اللغط، إليكم نص المقابلة:

شخصياً، أحب هذا الاقتباس – “إذا لم تتمكن من العثور على الحل داخل الصندوق، فلعلك لم تقم بعد بالبحث في جميع زوايا الصندوق” – أرجو أن تحدثنا عن الفلسفة الكامنة وراء هذه العبارة.

عندما نتحدث عن الإبداع، هناك العديد من الأمور التي عادة ما يساء فهمها، ومن بين هذه الأمور أن الإبداع يحتاج إلى سقف غير محدود من الحرية، وهناك عبارات شائعة من قبيل “السماء هي الحد” و “التفكير خارج الصندوق“، حيث يتم استخدام أي شكل من أشكال القيود كذريعة لتجنب بعض التحديات، فنحن نحتاج دائمًا إلى المزيد من الوسائل، والمزيد من الوقت، والمزيد من الإحصاءات، والمزيد من المساحة، وما إلى ذلك. هذا لا يدعو إلى الشفقة وحسب، بل هو ببساطة منطق لا يستقيم ولا أساس له، فقد أثبتت العديد من الدراسات أن الإبداع، الذي يتمثل في أن الأفكار الأصلية والقيّمة غالباً ما تولد من رحم المعاناة أو القيود.

لذلك، يجب ألا تكون الصعوبات أو القيود ذريعة لعدم طرح الأفكار الإبداعية كقوة دافعة للتغيير والابتكار. وما قصدته من تأليف هذا الكتاب هو أن أعطي الناس إلهام وبعض الأدوات – في شكل تقنيات- على كيفية استخدام القيود كأداة تحفيز وإشعال لإبداعاتهم، وبعبارة أخرى: أحاول مساعدتهم على البحث في جميع زوايا “صندوقهم الخاص” من أجل التوصل إلى أفكار وحلول مدهشة.

هلا حدثتنا عن التفاعل بين الإبداع والأفكار والمفاهيم.

المفاهيم هي ثمرات الأفكار التي يتمخض عنها الإبداع، وبالتالي، يبدأ الأمر بالإبداع، الذي هو القوة الدافعة وراء الابتكار والتغيير، فلأبداع بالنسبة لبعض الناس يأتي كموهبة فطرية، يحالفهم الحظ فقط لأنهم ولدوا بالكثير من الإمكانات الإبداعية، وعلى هؤلاء أن يتعلموا كيفية استخدام تلك الإمكانات في خدمة أهدافهم، يمكنهم أن يأتوا بأفكار فريدة ومفاجئة، لكن بطريقة أو بأخرى، يجب أن يتم تعديل هذه الأفكار وتصنيفها قبل أن تصبح مفاهيم قابلة للاستخدام.

وهناك آخرون ربما يكونون أقل موهبة من السابقين في قدراتهم الإبداعية، ولكن مع التدريب المناسب، يمكنهم تعلم وإتقان بعض المهارات لتعزيز قدراهم الأساسية، ولعل هؤلاء هم الذين يمكنهم أن يستفيدوا كثيرًا من التقنيات والأدوات التي أقدمها في كتابي.

بيد أنني على قناعة تامة بأن الإبداع هو عقلية في المقام الأول، ففي السياق المهني، وكذلك في السياق الخاص، فإن الإبداع هو الطريقة التي تنظر بها إلى الأشياء، الطريقة التي تتبعها لمواجهة التحديات، ولا تشعر بالرضا عن الفكرة الأولى التي تتبادر إلى ذهنك، تدفعك دائماً إلى التعمق، فتصبح فضوليا في الغالب الأعم، وعندما تقوم المنظمة بتنشيط وإرساء هذا النوع من العقلية لدى منسوبيها، يمكنها المساعدة في ازدهار الأفكار والمفاهيم بطريقة طبيعية، تماماً كما تزهر الأشجار في المروج عند دخول موسم الربيع.

كيف يمكن تشجيع الفرق على تبني فكرة أن “الإبداع يحب القيود” و “تجاهل المستحيل”؟

لعلك تشير إلى اقتباس من ماريسا ماير Marissa Mayer، المدير التنفيذي لشركة ياهو. فالإصرار على أن الأفكار الإبداعية تنبع من القيود فقط، غير صحيح بالطبع. فالقيود ليست كلها محفزة، ولكني أحث الناس على أن يعملوا عقولهم الخلاقة على الأقل في البحث عن الحلول والأفكار في حدود صندوقهم الخاص.

شخصياً لست من كبار المؤيدين للمنهجيات الشاملة cross-cutting methodologies، فمثل هذه الهياكل غالباً ما تحتوي على عدد قليل من “الفجوات” كما هو الحال في جميع المنهجيات التي تسعى لتحويل أي نوع من القيود إلى فكرة أو أي شكل آخر من أشكال الحلول الإبداعية، لهذا السبب بالضبط اخترت تقديم خمسة أساليب مختلفة، وكل أسلوب من هذه الأساليب لديه خصوصيته، بالاعتماد على التحدي الذي أمامه، وبالتالي، أقدِّم بعض الاقتراحات في هذا المجال، لكني أرفض بشكل متعمد إعطاء تعليمات صارمة للغاية أحدد فيها استخدام تقنية بعينها. أريد أن يقوم المستخدمون باكتشاف ذلك بأنفسهم، فمن غير الملائم أبداً وضع الخيارات جانباً، فإذا وجدت أن إحدى التقنيات لا تنجح في معالجة التحدي الذي تواجهه، جرّب طريقة أخرى، أو استخدم تقنيات مختلفة، من القائمة التي بحوزتك، للحصول على مجموعة كاملة من الأفكار الجديدة والمفاجئة.

لقد تناولت في كتابك بعض ما أشار إليه السيد نافي رادجو Navi Radjou (مؤلف كتاب الابتكار المقتصد Frugal Innovation)، فهلا حدثتنا عن المزيد من أدواتك في مجال الابتكار المقتصد.

الأدوات التي عبرت عنها مباشرة وسهلة الاستخدام، من خلال قراءة العديد من قصص الابتكار المبنية على مبادئ مقتصدة، اكتشفت نمطًا في الآليات التي دائماً تعود إليها، فقمت باختيار اثني عشر من هذه الآليات وأدرجتها في تقنية أسميتها المقتصدة “The Frugalizor“.

هذه التقنية جرى تطويرها للاستخدام في نوع واسع من التطبيقات، وذلك بشكل أساسي لتحسين المنتج أو الخدمة أو العملية أو أي موضوع آخر تعمل عليه، حيث ينصب التركيز على المقتصد، مما يعني أنك قد تفكر في جعل موضوعك متاحًا ومتوفرًا بشكل أكبر لمجموعة كبيرة مستهدفة بموارد محدودة.

لقد قمتُ بتسمية كل واحدة من الآليات الاثني عشر بطريقة تجعلها ذاتية التفسير، فعلى سبيل المثال: آلية Defeaturing، مما يعني التخلص من أكبر عدد ممكن من العناصر والميزات، أو آلية Useraizing، حيث تحاول استهداف أكبر عدد ممكن من مجموعات المستخدمين والملفات الشخصية للمستخدمين، أو آلية Robusting، حيث تهدف إلى جعل منتجك أو خدمتك أكثر قوة ومتانة وموثوقية.

أنا في الواقع مفتون بمفهوم “شجرة التجارة Tree of Trade“، فهلا أخبرتنا عن المزيد حول كيفية عمل هذا الجزء.

هذه يمكن تسميتها بتقنية “البحث والاستبدال” find & replace’ technique، ولعل السبب الذي يجعل القيود من المحفزات القوية في كثير من الأحيان، هي لأنها تجبرنا على التفكير في البدائل، وهذه واحدة من المهارات الأساسية للإبداع، ففي تقنية “شجرة التجارة Tree of Trade” ، يمكنك استخدام هذه المهارة من خلال عملية تتكون من ثلاث خطوات: أولاً تبدأ بإدراج العناصر الأساسية في طبيعة التحدي الذي تواجهه، ثم ثانياً تنظر إلى الاحتياجات التي تقوم بتلبيتها، وتحاول إيجاد بدائل يمكن من خلالها تلبية نفس الاحتياجات. وثالثاً وأخيراً، “تقوم بترجمة” الأفكار – التي غالباً ما تكون جنونية تماماً – إلى حلول مفيدة فعلاً.

ماذا يمثل ضغط الوقت بالنسبة للإبداع.. هل هو الماء أم النار؟

كغيره من الأمور الأخرى، تكمن الحقيقة في الوسط في مكان ما بينهما، أي بين الماء والنار. حيث تشير الأبحاث في هذا المجال إلى ثلاثة أشياء مهمة. أولاً، يمكن لضغط الوقت – وبالتالي التوتر – أن يكون محفزاً للإبداع، طالما أنه يُنظر إليه على أنه مفيد ومهم للوصول إلى الهدف النهائي للمهمة. وثانياً، الفترة الطويلة جداً من التركيز المخصص لمهمة واحدة ستؤدي في النهاية إلى إعاقة الإبداع، ولعل الفترات المنتظمة التي تنتقل فيها من مهمة إلى أخرى أفضل بكثير. وثالثاً، عندما يُمنح الناس الحرية التامة في الوقت المحدد لجدولة مهامهم الإبداعية، فإن الإبداع سيقل أيضاً أو حتى قد يتلاشى بعد فترة معينة، وبالتالي فإن الكلمات الرئيسية هي: المعنى، الهيكل المتوازن والتباين meaning, balanced structure and variation.

في واقع الأمر، هناك اختلاف أيضًا من شخص إلى آخر، فوفقا لتجربتي الشخصية، الأشخاص الذين لديهم عقلية إبداعية يعتبرون ضغط الزمن حافزاً لهم أكثر من كونه مثبطاً أو أداة كبح لإبداعهم، طالما أن ضغط الوقت لا يدوم طويلاً أو يصبح روتيناً يومياً بطبيعة الحال.

أنا معجب بأداة المروحة Propeller، ما الذي يمكنك قوله حول كيفية عمل هذه الأداة؟

هذا من الأدوات التي أحبها شخصياً: فهي أداة حقيقية لحل المشكلات، قد تتساءل أيضًا لماذا يكون حل مشكلات الآخرين أسهل كثيرًا بالنسبة لك من حل مشكلاتك الخاصة؟ والسبب هو لأننا بكل بساطة عميان ونتخوف من القيود التي تحيط بمشكلاتنا، ويبدو الأمر وكأن هذه المشكلات لا مفر منها، وكأننا في متاهة ولا يمكننا العثور على مخرج لأننا نقف في وسط هذه المتاهة. في مثل هذه الحالة، نحتاج بالفعل إلى تجاوز جميع العقبات التي تحول دون وصولنا إلى المخرج، وهذا جزء واحد من المروحة.

أما الجزء الآخر فهو عكس ذلك: فمن خلال طرح الأسئلة من قبيل “لماذا” بشكل متعدد، فإنك تصل إلى جوهر المشكلة. لماذا أصبحت هذه عقبة؟ وما الذي تعيقه هذه العقبة بالضبط؟ لذلك يمكنك أن تتعمق أكثر فأكثر، ومع كل إجابة تتوصل إليها قد تأتي بحلٍ أفضل.

ولعل جمال هذه الأداة يكمن في التوازن بين الملخص والتحليل، وبين الطيران إلى علو مرتفع والحفر أسفل إلى العمق. تصميم هذه الأداة يمنحك صورة عامة جيدة ويساعدك على التعامل مع “عقبات” مختلفة في نفس الوقت. أوصي بشدة باستخدام هذا الأسلوب في جلسة جماعية، لأنها تتطلب بعض الطاقة الإبداعية والمثابرة. لكن نتائجها مذهلة.

كيف يمكن للقيود الراديكالية أن تتمخض عن ابتكارات راديكالية؟

كلنا نعرف المقولة الشهيرة للسيد هنري فورد Henry Ford “لو أنني سألت الناس عما يريدون، لقالوا خيولًا أسرع”. إن ما فعله فورد Ford بشكل أساسي هو إبعاد الجوهر، لأن السؤال الذي طرحه بنفسه – سواء كان ذلك عن وعي أم لا – ربما كان: “كيف يمكنني أن أصنع عربة تجرها الخيول دون أن تكون لدى الخيول التي تجرها؟” هذا هو القيد الراديكالي، أليس كذلك؟

وهناك العديد من الأمثلة الرائعة في عالمنا الحالي، خذ موقع أمازون على سبيل المثال، فقد بدأ جيف بيزوس Jeff Bezos – الذي يعتبر الآن أغنى رجل في العالم – متجرًا افتراضياً لبيع الكتب دون أن يكون لديه محلا يبيع فيه، ولديك أيضاً دايسون Dyson الذي طور مكنسة كهربائية بدون كيس غبار ومروحة وبدون شفرات، وهناك سيرك بدون حيوانات؟ وتأمل كيف تعامل سيرك دو سولي Cirque du Soleil مع هذا التحدي، وكذلك Airbnb (وهي سلسلة فنادق بدون أن يكون هناك فندق)، وكذلك أوبر (شركة سيارات أجرة بدون سيارات)، … هؤلاء جميعاً قاموا بابتكار أسواق بشكل جذري من خلال التعامل مع القيود الجذرية.

لماذا يعتبر العمل الجماعي والقيود والمنافسة من العوامل المفيدة لخلق الأفكار المدهشة؟

أقوم منذ عدة سنوات بدعوة المتدربين والطلاب بممارسة تمرين أسميه “ملائكة وشياطين”، هو باختصار عبارة عن فريقين يلعبان ضد بعضهما البعض، كل واحد منهما يجب أن يأتي بـ 26 كلمة تبدأ بأحد الحروف الأبجدية، يتم إعطاء نفس الواجب للأفراد الذين ليسوا أعضاء في أي فريق ولا يتلقون الأبجدية كإطار إلزامي، تلاحظ بوضوح أن الجمع بين العمل الجماعي والمنافسة وفرض قيود (الـ26 حرفًا من الحروف الأبجدية في هذه الحالة) يزيد بشكل كبير من الإبداع والسرعة، مرة بعد أخرى.

إن الحقيقة التي مفادها أن العمل الجماعي يعزز السرعة والإبداع صحيحة تمامًا: فهناك العديد من الأشخاص المشاركين ويمكنهم البناء على أفكار بعضهم البعض، حيث أن عامل المنافسة يتعلق بضغوط الوقت وكما قلت من قبل، يمكن أن يكون محفزاً للإبداع في ظل الظروف المناسبة. العامل الثالث قد يكون الأكثر إثارة للدهشة، لكنه واقع أن التقييد الذي يبدو وكأنه عقبة في البداية، يصبح بسرعة إطارًا منظمًا يسمح للناس بالتوصل إلى الأفكار بشكل أسرع وتحقيق قيمة إبداعية أعلى.

هذه النتائج هي أساس لتقنية أخرى في الكتاب، تسمى “مسابقة القيود غير الاعتيادية The Casual Constraint Contest”. وهي في الواقع، عبارة عن لعبة تفاعلية للغاية لتوليد الأفكار بناءً على القيود العشوائية.

أداة النهر التي ذكرتها في كتابك أسلوب مثير للاهتمام لجعل الناس يتعاملون مع المشكلة من زوايا مختلفة، فلماذا تنجح هذه الأداة؟

من المدهش أن يستمر الناس في استخدام نفس النمط في التفكير مرارًا وتكرارًا، وذلك بالرغم من أنهم يعرفون أنه لن يوصلهم إلى حلول جديدة، فالناس عادة لا يحبون المخاطرة، في حين أن الإبداع يتمثل في الجرأة على الخروج من منطقة الراحة الخاصة بك.

يصف كتابي على سبيل المثال، بضع حالات كان فيها القبح أو الجودة المنخفضة من العوائق الرئيسية، في كل هذه الحالات، بدلاً من محاربة هذا القيد، قام الناس بالعكس تماماً، حيث قبلوا بالقيد وقاموا باعتماده. إن الأفكار التي خرجت من هذا النهج لم تكن مبدعة بشكل مذهل فحسب، بل أصبحت في كثير من الأحيان ميزة حقيقية في السوق.

هذه الطريقة في التفكير كانت ملهمة بالنسبة لي لتطوير اداة النهر، وهو وجهة نظر مجازية تتعلق بوجود عقبة، تخيل أنك تتجه نحو هدف محدد جيدًا ، ولكن فجأة يعترض مسارك نهر واسع، ما هي الخيارات؟ حسنًا، سأعرض عليك ستة خيارات: يمكنك السباحة، أو بناء جسر، أو وضع المتاريس، أو الالتفاف حوله، أو الإبحار عبره، أو صيد السمك فيه، ثم دعنا فقط نسلط الضوء على واحد من هذه الخيارات: الصيد في النهر كان الخيار الذي اختاره الناس في المثال أعلاه للقيد القبيح، كان لديهم عقلية ذكية ومبتكرة لقبول النهر كما جاء والحصول على أفضل النتائج، وتفسير كل خيار من الخيارات الخمسة قد يستغرق منا وقتًا طويلاً جدًا، ولكن على أية حال، فهي جميعها عبارة عن صور مجازية عن طرق محددة يمكن طرحها للتعامل مع مشكلة بعينها.

المصدر : www.innovationexcellence.com