«مؤشرات مضللة»

  • — الأحد ديسمبر 04, 2022

(إذا كانت المقاييس التي تعتمد عليها مضللة فلن تتمكن من إدارة أعمالك بشكل صحيح!)

صدر كتاب بعنوان“ مؤشرات مضللة Misleading Indicators ”للمؤلفين“ فيليب جرين ”و“ جورج غابر ”حاولا فيه إماطة اللثام عن الطبيعة الخفية لعملية قياس الأداء التي يمكن أن تكون مؤشرات مضللة تؤدي فشل العمل، وقد بين المؤلفان كيفية القياس بشكل محدد ودقيق، وما هي المعلومات التي يتم قياسها ويمكن أن تعتمد عليها المنظمات، وأوضحا كيفية تحديد أدوات القياس التي يمكن الوثوق بها، وأيها قد تكون مضللة.

يعتمد المديرون في عصرنا الحاضر كثيراً على أدوات القياس والمؤشرات، وتجري المعاملات التجارية وبشكل متزايد من خلال التعاملات الإلكترونية بشكل أكبر من العلاقات الشخصية؛ وتقوم المؤسسات والشركات باستبدال الموظفين بالتقنية وبشكل مستمر لمتابعة المكاسب الإنتاجية لها، واستجابةً لهذه التوجهات الحديثة، فإن المكاتب الاستشارية ومؤسسات البرمجيات التي تركز على أدوات القياس وتنتج المؤشرات آخذة في الانتشار، ويعمل في نفس الوقت عدد من أساتذة الدراسات التجارية والمستشارين والمحاسبين والمؤلفين لابتكار أساليب جديدة لقياس أداء الأعمال، ومع الأسف فإن الكثير من هذه المنهجيات تعتبر- إلى حد كبير- مضللة[!!!]

إذا كانت المقاييس التي تعتمد عليها مضللة فلن تتمكن من إدارة أعمالك بشكل صحيح، وهناك اعتقاد خاطئ لدى الكثير من الناس بأنه: إذا استطاعوا قياس الشيء”، ”يمكنهم إدارته”… بيد أنهم يتجاهلون درساً قديماً مفاده: مجرد حصولك على أرقام من عملية القياس لا يعني أن الشيء الذي تعتقد أنك تقيسه موجودا فعلياً. فماذا تدير إذاً؟!

ما هو المؤشر المضلل؟

المؤشر المضلل هو أداة قياس يتم من خلالها استنتاج غير منطقي، أو غير مبرر، أو خطأ واضح بشكل صريح أو ضمني، ولعل أسهل طريقة لتجنب مثل هذا الاستدلال، التمييز بين ما ينبغي فعله وما يمكن قياسه، وما لا ينبغي أو لا يمكن قياسه. الناس عادة يديرون معظم جوانب حياتهم دون اللجوء إلى أدوات القياس، سواء كان ذلك يخص مشكلات أطفالهم في المدرسة، أو علاقتهم بزوجاتهم أو رؤسائهم أو اختياراتهم لمشروباتهم، ويطلق رواد الأعمال مشاريع تجارية جديدة رائعة بناء على حدسهم ورؤيتهم الخاصة دون قياس؛ وقد ألهم القادة العظماء أتباعهم بمآثر لا توصف دون اللجوء للقياس.

كتب “بيتر دراكر Peter Drucker” أن المشكلة الرئيسية للمديرين تتمثل في كيفية تحقيق التوازن الصحيح بين القابل للقياس وغير القابل للقياس، ومن الخطأ الاعتماد بشكل كبير على التقدير الكمي والتغاضي عن المعلومات التي هي حيوية vital ولكنها غير قابلة للقياس، فقليل من رجال الأعمال يقومون بذلك، ويوضحون بعناية ما يريدون قياسه ولا يسألون أنفسهم عن المعلومات غير القابلة للقياس والتي ينبغي عليهم الاهتمام بها!!

هل فعلاً نقوم بقياس ما نعتقد أننا نقوم بقياسه؟

نحن نقيس أحيانا أشياء تبدو سخيفة، ونادراً ما نتساءل عما إذا كانت استنتاجاتنا حول بعض الخصائص الأساسية المفترضة أن لها ما يبررها، وما إذا كانت الخاصية موجودة في شكل محدد وبما يكفي لتكون قابلة للقياس أم لا،
معظم مؤشرات قياس الأداء نسبية، وليست مطلقة، ويعبر المستر “فيل روزنزويغ Phil Rosenzweig” عن هذا الموضوع بقوله: “يمكن للمؤسسة أن تحقق تحسناً، كما يمكن أن تسجل تراجعاً كبيراً في نفس الوقت” ويمكن لمؤشر قياس أداء التحسن في الوقت المحدد محدوداً إذا لم يقس أداء منافسيك الذين يحققون تحسناً أفضل وأسرع، فستظهر حينئذ أنك متراجعاً في نظر زبائنك أو الجهات التي تقيم أداءك.

وهناك بعض الأمثلة ذكرها المؤلفين في الكتاب لتوضيح هذا الأمر:

1) مؤشر قياس السعادة والإنجاز
وصفت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في مقال نشرته تحت عنوان“ شركة السعادة Happiness Inc.”، كيف يطور الباحثون تقنيات جديدة لقياس“ السعادة أو الإنجاز”، وكيف تتكيف المؤسسات مع البحث لإيجاد أفضل طريقة لتسويق منتجاتها، أما المحامون فيفكرون في كيفية في استخدامه لقياس“ فقدان السعادة ”وبالتالي حساب الأضرار التي تقع في إجراءات الطلاق مثلاً. وقد أعلن الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” في عام 2009 مع مجموعة من كبار الاقتصاديين أن الدول بحاجة إلى إيجاد طريقة لقياس السعادة وكذلك الأرقام الاقتصادية الأولية مثل النمو؟!!
فهل حقاً هناك خاصية أساسية تسمى السعادة موحدة بشكلٍ كافٍ في سلوكها بحيث يمكن قياسها؟! أم أن هؤلاء الباحثين يقيسون فقط شيء ما يتعلق بالسعادة، ثم يصفونه بأنه“ السعادة”؟! وهل يمكن بالفعل استخلاص استنتاجات من أدوات القياس هذه حول السعادة؟!

2) مؤشرات قياس التضخم
تقوم الحكومات وبشكل منتظم بتغيير الطريقة التي تتبعها في قياس التضخم؛ ومنذ أن نشير جوزيف لوي Joseph Lowe اقتراحه لقياس التضخم في عام 1822، قام بعض النقاد باتهام الحكومات باستخدام قياسات التضخم بهدف إخفاء انخفاض القيمة الحقيقية للمال عن الجمهور.

3) مؤشر أداء لقياس التسليم في الوقت المحدد
مثال آخر، تستخدم العديد من المؤسسات مؤشر أداء لقياس التسليم في الوقت المحدد، وهو يمثل مشكلة مهمة للزبائن، وذُكر في الكتاب بأن رئيسا تنفيذيا لإحدى الشركات زار أحد كبار العملاء وهو يحمل مخططاً لمؤشر أداء رئيسي مثيراً لإعجابه وخاص بشركته وهو عن التسليم في الوقت المحدد. فلم يصدق العميل أدوات قياس الشركة، حيث أظهرت أدوات القياس الخاصة بالعميل أن عمليات تسليم الشركة كانت متأخرة في أغلب الأحيان، مما تسبب بخسائر كبيرة بسبب تأخير الإنتاج، وقام العميل بإلغاء عقده مع الشركة، وأمر الرئيس التنفيذي بالتحقيق وهو يشعر بالاستياء والغضب نتيجة لهذا الحدث، فوجد أنه عندما كان تسليم الطلبيات يتأخر في شركته، كان المشرفون على العمل يقومون بإعادة جدولة تلك الطلبيات، ثم يقوم البرنامج الإلكتروني باستخدام التاريخ الجديد لحساب التسليم في الوقت المحدد، مما يجعل عمليات التسليم المتأخرة تظهر في الوقت المحدد في مؤشر الأداء، ولم تكن شركته تقيس الأداء في الوقت المحدد، بل كانت تقيس شيئًا أسمته “الأداء في الوقت المحدد” وقد افترض المديرون أن هذا هو ما قالوا إنهم يقيسونه!!!

4) مؤشر قياس إجراءات أداء الصحة والسلامة الصناعية

– مؤشر المصنع الآمن: بعض إجراءات قياس أداء الصحة والسلامة الصناعية يمكن أن تكون مضللة، فعادةً ما تقوم المؤسسات والشركات بحساب عدد الإصابات والأمراض التي تؤدي إلى إقالة العمال عن العمل، مسببةً ما يسمونه“ الوقت الضائع”. وللمساعدة على عقد المقارنة بين المصانع والمستودعات ومواقع البناء المختلفة وما إلى ذلك، يتم قياس الأرقام وفقًا لصيغة بسيطة، بحيث تمثل الأرقام تقريبًا عدد الإصابات والأمراض التي يعاني منها مائة شخص يعملون بدوام كامل لمدة عام. يستخدمون هذا المؤشر للتوصل إلى استدلالات (غالبًا ما تكون غير معقولة) حول المصنع الأكثر أمانًا، والمصنع الذي في طريقه للتحسن ليصبح أكثر أمانًا وأيهما الأقل أمانًا.

– مؤشر قياس إجراءات السلامة والإصابة: تقدم بعض الشركات في كثير من الأحيان جوائز ومكافآت للعاملين من أجل تحسين الأداء في إجراءات السلامة. فعلى سبيل المثال، قد يقدمون سترات جديدة لجميع الموظفين داخل المصنع كلما أكملوا بشكل جماعي 500000 ساعة من العمل دون إصابة أو مرض مرتبط بالعمل يؤدي إلى فقدان الشخص المصاب الوقت اللازم للعمل. وتخيل العامل المسكين الذي يصيب نفسه في العمل بعد 499999 ساعة؟!! إذا قام بالإبلاغ عن هذه الإصابة، فإن زملائه الآخرين لن يحصلوا على السترات الموعودة[!!!]

وبالتالي فمن الأفضل في هذه الحالة أن يقوم بإخفاء الإصابة والتستر عليها والذهاب إلى قسم الحالات الطارئة في طريق عودته إلى المنزل من العمل. ولك أن تتخيل مدير المصنع الذي يتسم بالجدية المفرطة، والذي يقوم باتخاذ إجراءات تأديبية قاسية كلما كانت الإصابة ناجمة عن عدم مراعاة الإجراءات، في ظل هكذا ظروف، لا يتم الإبلاغ عن جميع الإصابات عدا تلك الأشد خطورة، وفي أحد المصانع، ارتفع معدل الإصابات أثناء العمل بعد أشهر من تقاعد الرجل القوي واستبداله بمدير مصنع جديد، وقد خلصت إدارة المصنع إلى أن الأداء في إجراءات السلامة لدى المدير الجديد لم يكن جيدًا مثل سلفه الذي حل محله، بيد أن ما حدث في حقيقة الأمر هو أن العمال لم يعودوا يتسترون على الإصابات التي يتعرضون لها خوفاً من بطش مديرهم الذي رحل.

5) مؤشر قياس الانهيار
يقول “دراكر” أن بعض الأشياء التي يكون لها تأثير أكبر على الشركات، لا يمكن قياسها إلا بعد فوات الأوان لاتخاذ أية معالجات تجاهها، فقد ذكر مسؤولاً تنفيذياً في شركة Tennessee Eastman، وهي إحدى الشركات التي كانت تابعة لشركة كوداك Kodak في ذلك الوقت، أنه عندما كان مديرًا لمصنعهم الكيميائي الكبير يراقب الموظفين سراً وهم يأتون ويذهبون من وإلى العمل من خلال بوابة المصنع عند تبديل مناوبات العمل، كانوا يأتون وهم يجرجرون أقدامهم ويغادروا وهم يتقافزون في قمة النشاط، كان يدرك حينئذ أنهم يأتون إلى العمل مكرهين، بينما يكونون سعداء عند انتهاء ساعات العمل، وهو ما يشير إلى وجود مشكلة بعينها، وقد وصف “دراكر” الوضع بأن كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة كانوا على علم بأن الشركة سيكون مصيرها الانهيار ما لم تتمكن من استقطاب الأشخاص قادرين والاحتفاظ بهم.

فماهي المبادئ الأساسية للحصول على أدوات قياس موثوقة؟

التعريف التقليدي لمصطلح القياس، يشير إلى أنه يعني التأكد من بعض الخصائص المادية من خلال مقارنتها بمعيار معين، مثل مقارنة وزنك بالكيلوغرام القياسي. وهناك طريقتان أخريان للقياس، حيث يمكن للمرء أن يقوم بالعد التقليدي، وهو أبسط أشكال القياس؛ أو يمكن للمرء أن يسجل الدرجات أو يقوم بالترتيب أو تحديد الدرجة، وهو نوع القياس الذي يراه المرء في استطلاعات رضا العملاء، وفي فعاليات التزلج لتحقيق الرقم القياسي الأوليمبي، وفي اختبارات القياس النفسية، وعلى بطاقات التقارير المدرسية.
وهناك مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأساليب لتحديد وقياس مؤشرات الأداء بناءً على الخصائص الحيوية الفيزيائية، وعلى أساس العدد، والتصنيفات، وسنواجه دائمًا تحدياً في تحديد الاستدلالات التي يمكنك استخلاصها منها بشكل معقول.
واليوم يٌستخدم مصطلح القياس بشكل فضفاض إلى حد ما، وغالبًا ما يعني تحويل أي شيء مهم إلى رقم يُزعم أنه يؤدي إلى القضاء على الحكم المسبق والعاطفة في الأعمال التجارية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الأحداث، مع الإشارة إلى عدم وجود معيار أو حتى مستوى يقين معقول بأن الشيء الذي يجري قياسه موجودا بالفعل.
وقد أوضح المؤلفان في الكتاب أن هناك أربعة مبادئ تساعد في التوصل إلى استدلالات منطقية ومعقولة باستخدام مؤشرات القياس، لو تمكننا من فهمها، فسنكون قادرين على طرح الأسئلة الصحيحة وتحديد ما إذا كان المؤشر مضللاً أم لا.

المبادئ الأربعة هي كمايلي:

المبدأ الأول: هناك قدر كاف من المعلومات الأساسية لتحديد ما تقوم بقياسه.
المبدأ الثاني: هناك طرق قياس دقيقة ومحددة بما فيه الكفاية للتوصل إلى الاستدلالات التي ترغب في رسمها.
المبدأ الثالث: استخدام منطق قوي للتوصل إلى استنتاجات معقولة استناد إلى أدوات القياس والمعلومات الأساسية.
المبدأ الرابع: إن تكون الاستنتاجات متوافقة مع الواقع.
ويجب تطبيق جميع المبادئ الأربعة السابقة، ففي حال إهمال أي منها، فمن المحتمل جداً أن تكون ضحية لمؤشرات مضللة تتسبب المؤشرات في تضليلك، أو حتى لا تتعرض شخصياً للتضليل على يد شخص آخر.

وتذكر دائماً أن:
– لا تفترض أن أداة القياس أو المؤشر الذي يقوم بقياس ما يقول الناس إنه أداة قياس.
– لا تصدق المقولة الشائعة التي مفادها:“ إذا لم تستطع قياسه، لا يمكنك إدارته”، هناك أشياء كثيرة في العمل وفي الحياة يمكنك إدارتها دون قياسها.
– التمييز بين الأشياء التي يمكن ويجب قياسها مقابل المعلومات الحيوية ولكن غير القابلة للقياس.
– يجب أن تشكك في أي قياس لم يثبت نفسه من خلال التجربة.

وأخيراً، القياس هو عبارة عن عملية قابلة للتعلم، وغالبًا ما تتعارض استنتاجاتك مع إدراكك للواقع بطريقة أو بأخرى، ويجب أن يقودك هذا التعارض إلى التشكيك في المعلومات الأساسية التي لديك وطريقة القياس ومعتقداتك وإدراكك للواقع وسلامة المنطق الذي استخدمته للتوصل إلى الاستدلال، كما يجب أن يقودك التعارض إلى السؤال عما إذا كان الاستدلال صحيحًا في ضوء المعلومات الأساسية وطريقة القياس والمنطق، ويكون فقط من خلال طرح الأسئلة دون تردد، وستعرف ما إذا كان الاستدلال الذي توصلت إليه معقولًا أم لا، وبالتالي ما إذا كان لديك مؤشر مضلل أم لا.

(هذا تلخيص سريع ولا يغني المهتمين عن قراءة الكتاب، فهو كتاب قيم ويحوي معلومات كثيرة ومفيدة حول الموضوع)