إصلاح مواسير الأجهزة الحكومية ( 1- 4 )

  • — السبت يوليو 27, 2019

تعدَّدت الأعراض والداء واحد

تبدو المشكلات التي تصیب أداء الأجهزة الحكومية كأنھا حواجز یصعب تخطِّیھا، وتتمثَّل في :

❂ زیادة النفقات.

❂ تخفیض المیزانیات.

❂ إخفاق مشروعات تقنیة المعلومات.

❂ ارتكاب أخطاء فادحة.

❂ انخفاض الروح المعنویة.

❂ الصراع الدائم بین الموظفين والمدیرین.

❂ قوائم انتظار لا تنتھي من العاطلين.

❂ تراكم المھمات والمشروعات غیر المُنجزة.

فكیف عسانا نحل كل ھذه المشكلات؟

یتحقَّق ھذا حین ندرك أن كل ھذه المشكلات ھي أعراض لداء واحد، ألا وھو : ضعف أو انعدام الكفاءة، إذ إن معظم الأجهزة الحكومية تفتقر، بكل بساطة، إلى الكفاءة لعمل كل ما یجب علیھا عمله، وكل ما یحتاجُ إلیه المواطنون والمقیمون والزائرون، فالمطلوب منها یفوق احياناً قدراتھا، والعجز في میزانیتھا، ما یتمخَّض عن قوائم طويلة للانتظار، وخفض الروح المعنویة، وغیره من المشكلات.

لتوضیح ھذه الفكرة دعونا نتصوَّر عملیات إدارة المؤسسات الحكومية التي تشبه شبكة من مواسیر المیاه، فعلى سبیل المثال: توزع إحدى المواسیر تصاریح البناء، وتنظم الأخرى حركة المرور، وتشرف الثالثة على افتتاح مزید من الفصول الدراسیة، وتصدر الرابعة جوازات السفر، وتنفذ الأخیرة قوانین المحافظة على البیئة. ھذا یعني أن ھناك أنبوباً أو ماسورة مخصصة لضخ وتوصیل كل خدمة، ومن المؤكد أننا سنرى لكل ماسورة صنبوراً في أحد أطرافھا.

ھذا الصنبور أو المفتاح یمثِّل الطلب أو الحاجة التي تخص أحد المتعاملین (المستفيدين)، وحین یُفتح الصنبور، تتدفَّق منه المیاه لیجد المتلقي الكمیة المناسبة من المیاه في الوقت المناسب، ولھذا فإن عمل الحكومة یشبه شبكة المواسیر.

ما یحدث في العصر الحالي سھل الفھم، فما زالت مواسیر الحكومة بنفس الحجم أو ربما أصبحت أضیق. لكن الأطراف صارت أكثر وأوسع، فما النتیجة؟ ستفیض المیاه المضغوطة في كل ماسورة، فیزید الضغط وتبدأ بعض المیاه أو (الموارد) تتسرَّب من الشقوق والثقوب.

لكن ھناك طریقة أفضل لإنجاز مھام الحكومة الأساسیة، وبسرعة تزید عن ضعف السرعات الحالیة، وبتكالیف أقل، إلا أن ھذه الطریقة تحتاج إلى تحول جذري في تفكیر أجهزة الحكومة.

إصلاح وتقويم وتقصير مواسير الأجهزة الحكومية

المواسیر في أفضل حالاتھا مستقیمة وبسیطة نسبیاً. ولتوضیح ھذا الأمر، نسوق مثالاً لذلك المستشار أو المتعھد الذي ینتظر أن تسرع الحكومة في سداد مستحقاته، ویقدم المتعھد مطالبةً تمر في ماسورة قصیرة ومستقیمة، وسرعان ما یتسلَّم شیكاً یغطي كل مستحقاته، لكن المواسیر لیست مستقیمة في الواقع، فبدلاً من أن تكون قصیرة وسلسة، نجدھا طویلة وملتویة، ومن ثم تندفع المیاه عبر أكواع ومنحنیات، ومصدَّات، كما أن بعض المواسیر یملؤھا الصدأ، وبدلاً من أن تستغرق دورة المستندات ثلاثین ثانیة، نجدھا تستغرق ثلاثین یوماً، أو ثلاثة أشھر، وقد تستغرق أعواماً في بعض الأحیان، ولا تسد المواسیر فلا تسدد المستحقات أبداً، رغم أن الحكومة تبني مزیداً من خزانات المیاه وتمدد مزیداً من شبكات الضخ والتورید، لكن الانسداد یطول، ویطول.

تتمثل المشكلة إذاً في الكفاءة، لكن أصابع الاتھام تشیر إلى المواسیر، فما الحل؟ كیف نجعل مزیداً من المیاه یتدفق في المواسیر لتصل إلى مستحقیھا مباشرةً، ومن دون عملیات تسلیك غیر مشروعة؟

الإجابة بسیطة : یجب تقویم المواسیر، فحین تستقیم المواسیر، أو الأنھار، أو القنوات، یزید التدفق، وكلما زادت سرعة المیاه في المواسیر، أُنجز مزید من المھمات، وبتكالیف أقل.

المواسير الحكومية ومتلازمة الصدأ

المواسیر المتشابكة داخل المنظومات الإدارية، ھي برامج، وأقسام ومناھج نستخدمھا في إنجاز المھام، وتتمثل المنظومات في العملیات، والسیاسات، واللوائح، والمھارات التي نستخدمھا كي نؤدي أعمالنا.

نعم؛ المنظومات ھي المواسیر.

یتفشَّى الصدأ في مؤسسات الحكومة، لكنه صدأ داخلي ولا نراه بالعین المجردة. لقد قمنا بطلاء الجدران بالخطط، وزیَّناھا بالأھداف، وعلَّقنا علیھا سیاسات خدمة المتعاملین، ولوحات كُتِب علیھا اسم موظف الشھر، والإدارة الفائزة بجائزة التمیز، لكن الصدأ موجود. إنه یُفسد ھواء بیئة العمل، ویخنق الموظفین والمتعاملین، ویقلِّل من قوة اندفاعات طاقاتنا ونحن نؤدي الخدمات العامة المنوط بنا أداؤھا.

یمكن للصدأ أن یعشِّش في كل مكان. إنه یتمثل في الأفكار البائدة عن الناس والمحفزات، وتجاھل المسرعات، بل قد نتصور أن المشكلات التي تواجه الحكومات ھي ”مشكلات یصنعھا الناس“، وربما نعتقد أیضاً أن موظفي الحكومة كسالى، ویحتاجون إلى تحفیز دائم كي یؤدُّوا مھامھم على أكمل وجه. لكننا لا نعبر عن الأمر بھذه الطریقة، بل نقوم بتقییم الأداء ومكافأة من أنجزوا أعمالھم طبقاً للخطة المعلقة على الجدران، أو نبتكر قوالب ومؤشرات أداء تقیس الكفاءة، ثم نضع خططاً جدیدة ونعید تعلیقھا، وتبقى الرسالة الموجھة إلى الموظفین كما ھي؛ ستتحسَّن الحكومات حین تتحسَّنون وترتقون بأدائكم.

وحین نتمسَّك بھذه الفكرة البائدة، لا نجد إلا ثلاثة حلول تقلیدیة:

❂ ابحث عن موظفین أفضل.

❂ حفِّز الموظفین الحالیین.

❂ راقب وحاسب الجمیع.

لقد أثبت ”إدواردز دیمینج“ مؤسس حركة الجودة أن 6٪ بالمائة من المشكلات التي نواجھھا یُعزى إلى الناس، وأن ٪94 یُعزى إلى المنظومة“، فالانحراف عن المسار وتبدُّد المصادر واستعصاء المشكلات وتراكم الصدأ یحدث داخل المواسیر.

إزالة الصدأ

ھناك طرق نعزِّز بھا رضا الموظفین ونھیِّئ بھا بیئة یتوق فیھا موظفو الحكومة إلى العمل، في كتاب بعنوان ”الحافز، یركز ”دانیال بینك“ على ثلاثة عوامل – حقیقة ما یدفعنا ولا یمنعنا، وتعزِّز إقبال الموظف على عمله، وھي: الإتقان، والاستقلالیة، والھدف.

الإتقان: ھو ذلك الشعور المدھش بأنك تتغلَّب على التحدیات، أو شعورك بارتفاع مستوى كفاءتك ومھاراتك وأنك استطعت تخطي حاجز الأداء الحالي والتالي، وتتمثل المكافأة ھنا في مواجھة التحدي.

یشرح ھذه الظاهرة عالم النفس الإيجابي” سكیز نتمینھالي“ بقوله : ” عندما ترتفع المھارات وتقل التحدیات یحدث الملل، وعندما تقل المھارات وتزید التحدیات یحدث القلق، وحین نبلغ قمة الأداء، أي نقطة التحدي المثالیة على مستوى الاندماج والفاعلیة، حین یكون التحدي أعلى قلیلاً من مستوى كفاءتنا، نصبح في حالة ”تدفق“. التدفق یعني أن نختبر تلك اللحظة والتجربة الرائعة التي یتوقف عندھا الزمن ونحلِّق منطلقین عبر مشاعر فیاضة من السعادة. نشعر حینئذٍ بالحیویة والاندماج، والانسجام مع أنفسنا، ونود ألا نفعل أي شيء في حیاتنا سوى تلك المھام الرائعة، فتجدنا نعمل ونتدرَّب بمزید من الجد والاجتھاد، متطلعین إلى التحدي التالي.

لیزید تدفقنا وإتقاننا، علینا البحث عن سبل لمساعدة الموظفین في التحرك عبر المحورین -أي محور المھارة ومحور التحدي- بشكل تلقائي. إذا ما دربت موظفیك دون أن تعطیھم تحدیات جدیدة یطبقون علیھا مھاراتھم وكفاءاتھم الجدیدة، فلن تزیدھم إلا مللاً. أما إذا وضعت تحدیات جدیدة في بیئة العمل، كتحمل مسؤولیات جدیدة ونظم جدیدة یتعلمھا الموظفون، دون رفع مستوى مھاراتھم، فلن تزیدھم إلا توتراً، وھنا تأتي الحالة المثالیة بین الحالتین، وھي تحدي القائد.

الاستقلالیة: ھي التمكین والحریة. ما الذي علینا عمله في القطاع العام لتوفیر مزید من الاستقلالیة لموظفینا؟ ابحث عن شغف موظفیك وامنحھم وقتاً كي یسعوا إلیه. یسیر ھذا جنباً إلى جنب مع الإتقان.

الھدف السامي: وھذا أحد عوامل ومجالات تمیز القطاع العام والموظف الحكومي عن موظف القطاع الخاص. تشیر الأبحاث إلى أن كل الناس لدیھم رغبة في أن یشعروا بأن عملھم یصنع فارقاً، وتعد الوظائف ذات الأھداف النبیلة ھي الموارد غیر المورودة والفرص غیر المغتنمة في القطاع العام، فلماذا وكیف لا نغتنم ھذه الفرصة؟

یجب منح الجمیع -بدءاً من المدیرین الإقلیمیین، وموظفي الأرشیف، والإداریین، والعاملین المیدانیین-الفرصة للشعور بتأثیر مؤسساتھم على المجتمع، وأن یحصلوا على فرص لمقابلة من یخدمونھم، ومشاھدة النجاح في المیدان. یجب النزول إلى الملعب وإلى الشارع ومقابلة المتعاملین السعداء والتفاعل معھم، والتأثر بھم لنؤثر فیھم.

حین نرى الإتقان والاستقلالیة والأھداف تتحقق في بیئة العمل، نوفر ما ھو أھم من التحفیز؛ سنوفر الإلھام. الإلھام یربط الحافز الإنساني الداخلي بھدف. حین نشرعُ في التحفیز، نُبدد الطاقة، ویكون علینا عمل ذلك مع كل موظف، ولكننا حین نُلھم، نستثمرُ الطاقةَ مرة واحدة. أي علینا أن نرسم الصورة الكبرى وننشرھا أمام الناس لیتطلعوا إلیھا وینطلقوا ویحلقوا معنا، وسیكون على كل من یرى الصورة الكاملة أن یتحرك استناداً إلى ما تتركه بداخله من انطباعات. (يتبع)

المصدر : كتاب “الاصلاح الحكومي المتطرف (الشامل) : زيادة كفاءتنا لتقديم خدمات أفضل للمؤلف كین میلر ، مؤسس شركة ”التغییر والابتكار“ الاستشاریة المتخصصة في تعزیز كفاءة الإدارات الحكومیة وتمكینھا من تقدیم أفضل الخدمات بأقل التكالیف.