جينوم الجمل العربي

  • — السبت أغسطس 09, 2014

د. محمد بن بروجي الفقيه

المركز الوطني للتقنية الحيوية | مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية

مقدمة

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإبل وجعلها من المخلوقات العظيمة المتميزة عن غيرها من الكائنات الحية، ثم أمر الإنسان بالنظر والتدبر والتأمل في عجيب خلق هذا المخلوق المُعجِز للاستدلال على عظمة الخالق واستشعار كمال قدرته وحسن تدبيره وبديع صنعه جلَّ شأنه، ولقد ورد ذكر الإبل في القران الكريم في مواضع عديدة وبألفاظٍ مختلفة قال تعالى في محكم كتابه (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [17] الغاشية. ولقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالإبل وأثنى على أصحابها ونصح المسلمين بالاعتناء بها ورعايتها. روى ابن ماجه عن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة)،أخرجه البيهقي عن عروة البارقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع. يتميز الجمل عن باقي الحيوانات الحقلية الأخرى مثل الأبقار والأغنام بقدرته على العيش والإنتاج في البيئة الصحراوية القاسية من حرارة عالية وشحِّ في المياه والغذاء، لذلك لا عجب بأن أطلق العرب مسمى “سفينة الصحراء” على هذا الحيوان الفريد. ولقد أرتبط الجمل ارتباطاً وثيقاً ببيئة الإنسان العربي في الصحراء وأصبح جزأً لا يتجزأ من حياته اليومية، فوفَّر الجمل وسيلة النقل الفعالة والغذاء المستدام والكساء.ونظراً لصفاته المتميزة وقدرته على الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية المحدودة في المناطق الصحراوية الجافة وشبه الجافة والقاحلة فقد لاقى الجمل في الآونة الأخيرة اهتماماً متزايداً على المستوى العالمي بعد أن اتضحت أهميته الاقتصادية مقارنة بالحيوانات المستأنسة الأخرى.ولكن على الرغم من ألأهمية الاقتصادية الجلية لهذا الحيوان ورغم النداءات والتوصيات المتكررة لكثير من الندوات العربية والإقليمية والعالمية المختصة بالتنمية الزراعية لإعطاء الأولوية للأبحاث العلمية المتقدمة على هذا الحيوان، لم يحظ الجمل العربي بذات الاهتمام العلمي الذي لاقته الحيوانات المستأنسة الأخرى. ولذلك ليس مستغرباً أن يستمر افتقارنا للأبجديات العلمية اللازمة لفهم الآليات الحيوية التي تميز هذا الحيوان.

في ظل غياب كثير من المعلومات البيولوجية والوراثية الأساسية للجمل العربي فقد أطلقت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية مبادرة بحثية سعودية بالتعاون مع ومعهد بكين لأبحاث الجينوم لدراسة الخريطة الكاملة لتسلسل جينوم الجمل العربي تهدف إلى فهم المكونات الوراثية لجينوم الجمل، بما في ذلك وضع خريطة محددة لهذا الجينوم، وتوضيح الأجزاء الوظيفية (المشفرة)، والتحليل الجينومي المقارن والتطور الجزيئي. تم انجاز هذا المشروع على مرحلتين، ففي المرحلة الأولى تم التركيز على تحليل الخريطة الوراثية المتعلقة بالأجزاء المشفرة (التي يعبر عنها بمنتجات بروتينية). ويمثل التقرير (الورقة العلمية) الذي نشر في شهر مايو من هذا العام (2010م) في أحد الدوريات العلمية للمكتبة العامة للعلوم الانتهاء من المرحلة الأولى، وكشف هذا التقرير أن الجمل العربي يمتلك ما يقرب من 23602 تسلسل جيني مفترض، ومن بين هذه الجينات أكثر من 4500 جين جديد لا يوجد لها أي تناظر مع الجينات المعرَّفة في الكائنات الحية الأخرى المتاحة حالياً. أما في المرحلة الثانية فقد تم قراءة تسلسل جينوم الجمل العربي كاملاً وتم تحديد حجم الجينوم الكامل بحوالي 2.2 بليون (مليار) نيوكليوتيدة مع درجات ملحوظة من التشابه من حيث عدد الجينات والتناظر العام لجينات عدد من الثدييات الأخرى.

تمثل هذه الدراسة بداية حقبة جديدة من الأبحاث العلمية المتقدمة في مجالات علوم الجينوم على الجمل العربي وسوف يمكِّن الكم الهائل من المعلومات الوراثية الناتجة عن هذا المشروع المهتمين من الباحثين على المستوى العالمي من التعمق في المخزون الوراثي للجمل العربي ودراسته باستخدام التقنيات الحيوية والمعلوماتية المتقدمة من أجل التوصل إلى مزيد من الاكتشافات العلمية والتطبيقية لكشف أسرار هذا الحيوان الفريد .

 

تصنيف الجمل ومميزاته

يعتبر الجمل من الثدييات المشيمية شبه المجترةويصنف من الثدييات ذات الأصابع المزدوجة والقدم المبطنة وينتمي إلى عائلة الجمليات (Camelidae) والتي تنقسم إلى جنسين رئيسيين هما جنس الجمل (Camelus) وجنس اللاما (Lama) التي تنتمي إليها حيوانات اللاما و الألبكة والتي تستوطن أميركا الجنوبية بصفة رئيسية. أما جنس الجمل فينقسم إلى نوعين رئيسيين هما: (1) الجمل وحيد السنام (Camelus dromedaries) ويعرف بالجمل العربي أو الجمل الصحراوي أو البعير وعادة ما يوجد في المناطق الصحراوية المنخفضة والحارة وتحديداً شبه الجزيرة العربية وشمال وشرق إفريقيا وجنوب غرب آسيا واستراليا؛ (2) الجمل ذو السنامين ((Camelus bactrianus والذي يتواجد في المناطق الصحراوية المرتفعة الباردة وتحديداً مناطق أواسط آسيا كالصين ومنغوليا وفي المنطقة الممتدة من إيران إلى التيبت. الجدير بالذكر أن هناك نوعاً هجيناً من هذين النوعين من الجمال يتميز بوجود سنامان أحدهما أكبر من الآخر، ويتميز هذا النوع من الجمال بكبر جسمه وقوة تحمله مقارنة بالجمل وحيد السنام والجمل ذو السنامين. تقدر أعداد الجمال حول العالم بأكثر من 19 مليون رأس بحسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) لعام 2003م، يمثل الجمل العربي الغالبية العظمى بنسبة تتعدى 95% من المجموع الكلي لأعداد الجمال حول العالم وتتركز أعدادها في القارة الإفريقية وخصوصاً في الصومال والسودان وأثيوبيا وتشاد وكينيا وموريتانيا وتتوزع الأعداد المتبقية في الجزائر ومصر و ليبيا وتونس والمغرب وجيبوتي ومالي والنيجر ونيجيريا. أما في قارة أسيا فتتوزع قطعان الإبل في الهند و باكستان بالإضافة إلى أعداد أخرى غير قليلة في أفغانستان والعراق والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي واليمن والعراق والشام (شكل 1). وتنتشر أعداد من الإبل بصورة أقل كثافة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وجنوب إفريقيا وأمريكا الوسطى واستراليا.

لقد أصبح الجمل بعد استئناسه في مناطق جنوب الجزيرة العربية قبل أكثر من5000 سنة الحيوان الأليف النموذجي في البيئة الصحراوية وأصبح بدون مبالغة الحيوان الأكثر شهرة في عائلة الجمال الذي ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بتطور الحضارات البدوية على مر العصور في المناطق القاحلة وشبه القاحلة في العالم وخاصة في مناطق شبه الجزيرة العربية وشمال وشرق أفريقيا.

شكل (1): خريطة للعالم توضح أماكن تواجد الجمال حسب أعدادها.

 

وبالمقارنة مع الأنواع الحيوانية الأخرى، يمتلك الجمل قدرة غير عادية على البقاء والنماء في ظل الظروف المناخية القاسية جداً مثل ارتفاع درجات الحرارة المحيطة، ونقص المياه وندرة المراعي. وعليه فقد تعددت استخدامات الجمال فاستخدمت الجمال كمصدر جيد للحوم والألبان والأصواف، وكأداة فعالة لنقل البضائع والأفراد خاصة في المناطق ذات الظروف المناخية القاسية التي تؤثر سلباً على الأداء والإنتاج لسائر الحيوانات. كما اتجه اهتمام ملاك الإبل في الآونة الأخيرة لتربية الجمال لمسابقات المزايين والسباق. وتعزى قدرة الجمال الفائقة على تحمل الظروف المناخية القاسية للبيئة الصحراوية إلى صفات بنيوية وفسيولوجية وتشريحية فريدة تمكن الجمل العربي من العيش بدون ماء لفترة قد تصل إلى عشرة أيام يفقد خلالها ثلث وزن جسمه تقريباً نتيجة لتعرضه للجفاف الشديد. كما يمكن للجمل أن يعيش عدة أشهر دون الحاجة إلى الماء وذلك عند توفر الأعشاب الخضراء التي يقتات عليها. لقد حبى الله سبحانه وتعالى هذا الحيوان بكل الوسائل اللازمة للحفاظ على المياه والعيش في البيئة الصحراوية القاسية، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن عيني الجمل وأُذنيه وانفه مصممة لمقاومة العواصف الرملية كما أن عنق الجمل الطويلة وتركيب شفتيه تمكنه من التقاط أوراق الشجر العالية وكذلك الأشواك بكل يسر وسهوله. أما الجهاز البولي في الجمل فهو مصمم بطريقة تمكن من الاستفادة القصوى من المياه حيث تعمل الكليتين على تركيز البول لدرجات قد يصل معها تركيز الأملاح إلى ضعفي تركيز الأملاح في مياه البحر. وعلى عكس كثير من الثدييات المجترة فإن للجمل القدرة على إعادة تدوير اليوريا من البول واستخدامها في المعدة لإنتاج البروتينات في حالات المجاعة الشديدة ونقص الغذاء الغني بالبروتينات. إن من عجيب صنع الله تعالى في الإبل قدرتها على تبديل حرارة أجسامها بشكل كبير يتراوح بين 34 درجة مئوية في الصباح الباكر إلى42 درجة مئوية عند الظهيرة وذلك للتقليل من الفرق بين درجة حرارة أجسامها والبيئة المحيطة والذي يؤدي إلى تقليل التعرق بصفة كبيرة. إن ما يميز الإبل أيضاً عن كثير من الثدييات عدم تأثير الجفاف الشديد على كمية إنتاجها من الحليب. إضافة لذلك يتميز الجمل بقدرته العجيبة على تحويل الدهون المخزنة في سنامه إلى ماء خلال فترات الجفاف. أما كريات الدم الحمراء في الجمل فتختلف اختلافاً جذرياً عن مثيلاتها في الثدييات الأخرى حيث تتميز بشكلها الكروي وصغر حجمها وقدرتها الهائلة على مقاومة التراكيز الملحية المختلفة وتغيرات الضغط الأسموزي دون أن تتكسر (Haemolysis)، كما أن لها القدرة على امتصاص كميات كبيرة من الماء دون أن تنفجر مما يجعلها مهيأة لتحمل التقلبات السريعة للمحتوى المائي للدم تبعاً للظروف البيئية المحيطة بالجمل، كما أن قدرتها على امتصاص الأكسيجين تفوق بكثير كريات الدم الحمراء في الإنسان وباقي الثدييات الأخرى. وعلى النقيض من كثير من الحيوانات الثديية الأخرى، فإن الجهاز المناعي للجمل يعد فريداً من نوعه، حيث يمتلك الجمل بالإضافة للأجسام المضادة الشائعة في كل الثدييات، أجساماً مضادة فريدة من حيث التركيب وأكثر مقاومة للأوساط الصعبة وأصغر حجماً من تلك الموجودة في الثدييات الأخرى (شكل 2).

 

 

 

شكل (2): شكل يوضح الفرق في التركيب بين الأجسام المضادة التقليدية التي توجد في الحيوانات الثديية (ب) والأجسام المضادة أحادية السلسلة التي توجد في الجمل (أ).

 

 

ماذا يُقصد بالجينوم ؟

تتركب أجسام الكائنات الحية كالجمل وغيره من الثدييات من بلايين الوحدات البنائية الصغيرة المتباينة في الشكل والتركيب والوظيفة تسمى الخلايا وتوجد في كل خلية من خلايا الكائن الحي المادة الوراثية على شكل الحمض النووي منزوع الأكسيجين (الدنا) الذي يكوِّن الجينات التي بدورها تُحمل على الكروموسومات (الصبغيات) وتُورَّث من جيل إلى جيل (شكل 3). تحتوي كل خلية جسدية من خلايا جسم الكائن الحي متعدد الخلايا على نسختين من كل كروموسوم، نسخة من الأَب ونُسخة من الأُم، ويختلف عدد الكروموسومات في الخلية الحية باختلاف الكائن الحي، ويطلق على مجموع الكروموسومات في الخلية الحية مسمي الجينوم (Genome). تحتوي خلايا الجسم الواحد الجسدية على نُسخ متطابقة من الكروموسومات. إنَّ مصطلح الجينومهو مصطلح حديث إلى حد ما في علم الوراثة وكلمة “جينوم” هي كلمة مركَّبة تجمع بينجزئي كلمتين إنجليزيتين هما كلمة gen وهي الأحرف الثلاثة الأولى لكلمة GENe التي تَعنيباللغة العربية المورِّث (الجين)، والجزء الثاني هو الأحرف الثلاثة الأخيرة من كلمة ChromosOME وهي ome وهي تَعني باللغة العربية الصبغيات (الكروموسومات)، أما الدلالةالعلمية لهذا المصطلح فهي مجمل المادة الوراثية الموجودة في الكائن الحي (شكل 3). ويُعنى علم الجينوم بتحديد التسلسل الكامل للأحماض النووية، وبرسم الخرائط الوراثية، وكذلك التحليل الوظيفي لمجمل المورثات العاملة والغير عامله في الجينوم، وعليه فإنه يمكن تعريف علم الجينوم بصيغة مبسطة بأنه علم دراسة الجينات ووظائفها. إن الهدف الرئيسي لعلم الجينوم هو اكتساب فهم شامل لهيكلة ووظائف الجينات في مختلف الكائنات الحية ويمكن تقسيم الأبحاث في مجال علم الجينوم إلى ثلاثة مجالات رئيسية هي: علم الجينوم الهيكلي (Structural Genomics)، علم الجينوم المقارن (Comparative Genomics) وعلم الجينوم الوظيفي (Functional Genomics).

 

شكل (3): تركيب الجينوم وهو مجمل المادة الوراثية الموجودة في خلايا الكائن الحي.

 

تقنيات تحديد تسلسل الجينوم الحديثة

لقد أدى استحداث تقنيات تحديد تتابع تسلسل الأحماض النووية على يد العالمين فريد سانقر وألان كولسون في عام 1977م إلى نقلة نوعية غيرت بدورها علوم الحياة فأصبح بإمكان العلماء للوهلة الأولى استخدام ما يُعرف بـ”طريقة سانقر” (Sanger sequencing method) لتحديد تسلسل جين معين أو جزء منه. انصب اهتمام العلماء والمستثمرين خلال السنوات القليلة اللاحقة على الاستفادة المثلى من هذه التقنية وكان نتاج ذلك تطوير أجهزة آلية لقراءة سلاسل الحمض النووي والتي أتيحت تجارياً فيما بعد في عام 1980م. ولما كان الهدف الأسمى للعلماء في تلك الفترة هو فك رموز الجينوم البشري كاملاً، فقد خضعت طريقة سانقر لمزيد من التحسينات بهدف زيادة الطاقة الإنتاجية لتحديد تسلسل الحمض النووي وأُنشأت على إثر ذلك مراكز متخصصة تشبه على حد كبير المصانع التي تعمل ليل نهار لتحديد تسلسل الجينوم البشري. وبالرغم من نجاح العلماء في استكمال خريطة المورثات الكاملة للجنس البشري بالاعتماد على طريقة سانقر إلا أن بحث العلماء لم يتوقف عن محاولة استحداث تقنيات جديدة ذات كفاءة و طاقة إنتاجية عالية وكلفة قليلة. لقد شهدت السنوات العشر الماضية انحساراً ملحوظاً في استخدام طريقة سانقر لتحديد تسلسل الحمض النووي نظراً لظهور جيل جديد من التقنيات ذات السعات العالية والكلفة القليلة. تعرف هذه التقنيات بتقنيات التسلسل من الجيل التالي (Next-generation sequencing technologies) وتشمل تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي آليا عن طريق التهجين والتفريد الكهربي الدقيق والطيف الكتلي وغيرها من التقنيات.تتوفر معظم هذه التقنيات في الوقت الراهن بشكل تجاري عن طريق الشركات العالمية الرائدة في هذا المجال مثل نظام 454 من شركة روش (Roche) ونظام سوليكسا\ألومينا (Solexa / Illumina) ونظام سوليد (SOLiD) من شركة أبلايد بايو سيستم (Applied Biosystem). أستخدم الفريق البحثي الذي أنجز جينوم الجمل العربي تقنية سوليكسا\ألومينا (Illumina GA analyzer) وذلك لاستكمال خريطة المورثات الكاملة للجمل العربي. ويعد هذا النظام من الأنظمة الحديثة والرائدة لتحليل تسلسل الجينوم ويتميز بالسرعة العالية وانخفاض التكلفة التشغيلية.

تبدأ عملية تحديد تسلسل الجينوم بعزل عينات الدنا عالية الجودة من الحيوان ثم يتم تقطيع أشرطة الدنا المزدوج بشكل عشوائي إلى قطع صغيرة ومن ثم فصلها إلي أشرطة أحادية ثم لصق نوعين مختلفين من الوصلات الصغيرة (Adaptors) إلى أطراف هذه الأشرطة (شكل 4). يتم بعد ذلك تثبيت هذه الأشرطة الأحادية المعدلة على سطح ثابت يحوي عدد كبير من الوصلات المثبتة مسبقاً والتي تعمل على ثني أشرطة الدنا الأحادية. يتم بعد ذلك إضافة القواعد النيتروجينية وإنزيم البلمرة التسلسلي وذلك لإتمام ما يعرف بتفاعل الإكثار الجسري (Bridge amplification) لمضاعفة كل شريط من أشرطة الدنا المثبتة ملايين المرات ليكون كتلة (Cluster) متجانسة من نفس الشريط.

 

شكل (4): رسم توضيحي لطريقة عمل نظام سوليكسا\ألومينا لتحديد الخارطة الوراثية.

بعد إتمام عملية تفاعل الإكثار الجسري لأشرطة الدنا يقوم جهاز Illumina GA analyzer بقراءة تسلسل القواعد النيتروجينية لكل شريط من أشرطة الدنا ثم يقوم بإرسال هذه المعلومات الخام إلى كمبيوترات عالية القدرة تعمل على تحليلها باستخدام عمليات حسابية معقده ومن ثم رصها جنباً إلى جنب لتكوين التسلسل الكامل للجينوم.

مبادرة مشروع جينوم الجمل العربي وأهم النتائج

لتحقيق المطالب الملحَّة لإنجاز جينوم الجمل العربي، فقد كانت المبادرة الأولى بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لمشروع جينوم الجمل في عام 2004م. ونظراً لمحدودية التقنيات ذات السعات العالية والكلفة العالية في ذلك الوقت فقد ركزت المرحلة الأولى من هذا المشروع على تحليل الخريطة الوراثية المتعلقة بالأجزاء المشفرة (التي يعبر عنها بمنتجات بروتينية). تم التوصل خلال هذه المرحلة على أن الجمل العربي يمتلك ما يقرب من 23602 جين، ومن بين هذه الجينات أكثر من 4500 جين غير معرف حيث لايوجد لها أي تناظر مع الجينات المعرَّفة في الكائنات الحية الأخرى المتاحة حالياً على قواعد المعلومات العالمية. أما في المرحلة الثانية من المشروع فقد قام فريق بحثي من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بالتعاون مع معهد بكين لأبحاث الجينوم باستكمال خريطة المورثات الكاملة للجمل العربي وتم الانتهاء منها هذا العام (2010م). الجدير بالذكر أن معهد بكين لأبحاث الجينوم بالصين يعتبر من أفضل المراكز العالمية المتخصصة في علوم الجينوم وقد أنجز بنجاح عدد كبير من المشاريع في مجال علوم الجينوم كان أخرها مشروع جينوم الباندا العملاق. جاءت نتائج المرحلة الثانية مؤكدة للنتائج الأولية التي تم التوصل إليها في المرحلة الأولى. باستخدام تقنية التحليل بالمعلوماتية الحيوية على البيانات السابقة تم تحديد حجم الجينوم الكامل للجمل العربي بحوالي 2.2 بليون (مليار) نيوكليوتيدة مع درجات ملحوظة من التشابه من حيث عدد الجينات والتناظر العام لجينات الثدييات الأخرى، حيث بلغت نسبة الجينات المشتركة بين الجمل العربي والإنسان ما يقارب 57% من المجموع الكلي لجينات الجمل العربي وتتناقص هذه النسبة لتصل إلى 54% إذا ما قورنت جينات الجمل العربي بجينات الأبقار.

 

قاعدة بيانات جينوم الجمل العربي

لتسهيل حفظ وأرشفة المعلومات الوراثية الخاصة بالجمل العربي ولتمكين الباحثين والمختصين من الوصول إلى هذه المعلومات بكل يسر وسهولة فقد قام فريق بحثي من المختصين بعلوم المعلوماتية الحيوية بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بإنشاء قاعدة بيانات ضخمة لتخزين سلاسل جينوم الجمل العربي لأول مرة على مستوى العالم (http://camel.kacst.edu.sa/ (شكل 5). تحتوي قاعدة البيانات على السلاسل المعبرة لجينوم الجمل العربي وعددها 23602 سلسلة (جين). يمكن للمستخدم الحصول على كل المعلومات الضرورية مثل عرض السلسلة واسم مرسل الجين وتاريخ الإدخال بالإضافة إلى تاريخ التعديل. كما يمكن للمستخدم أن يعرض الجينات المطابقة للسلسلة الواحدة بطرق مختلفة كأن يعرضها برقم الجين أو يعرض الجينات التي تطابقه في جينوم معين كالإنسان أو غيره. كما يحتوي الموقع أيضا على مجموعة من التطبيقات التي تقارن جينوم الجمل مع جينوم الإنسان والفأر وغيرها من الكائنات الحية التي تم فك شفرتها الوراثية. و يوفر الموقع أيضاً أدوات التحليل وتسهيل إمكانية إضافة تسلسلات من قبل المتخصصين في هذا المجال. ويأمل المختصون في المدينة أن تكون قاعدة المعلومات هذه المرجع العالمي الأساسي للباحثين والمختصين بالعلوم الوراثية في الجمال.

شكل (5): الصفحة الرئيسية لقاعدة بيانات جينوم الجمل العربي
مرحلة ما بعد جينوم الجمل العربي

لقد شهدت السنوات التي تلت الإعلان عن استكمال خريطة المورثات الكاملة للجنس البشري في عام 2003م ثورة غير مسبوقة في علوم الجينوم وأصبحت لا تكاد تمر سنة منذ ذلك التاريخ دون أن نسمع أو نرى باحثين يعلنون عن إتمام الخارطة الوراثية لكائن حي معين، وبحسب إحصاءات قواعد معلومات المركز الوطني الأمريكي لمعلومات التقنية الحيوية فإن هناك ما يقرب من 6597 نوع من الكائنات الحية قد تم انجاز خرائطها الوراثية سواء بشكل كامل أو جزئي كان أخرها انجاز خارطة الجينوم للجمل العربي. لقد أضافت دراسة تسلسل جينوم الجمل العربي هذا الحيوان إلى نخبة منتقاة من الحيوانات الثديية المُستأنسة الأخرى التي درست جينوماتها. إن مما لا شك فيه أن وهذا الإنجاز الهام سوف يفتح رؤى مستقبلة جديدة في المجالات العلمية الحيوية والكيموحيوية والوراثية والتي سيكون لها انعكاسات إيجابية على الصحة البشرية.

تمتاز الجمال بقدرة استثنائية على التكيف مع نمط الحياة الصحراوية القاسي، فمن الخصائص الفسيولوجية الفريدة للجمال المدى الواسع لتذبذب درجة حرارة الجسم على مدار اليوم، تحمُّل فقد نسبة كبيرة من المياه (أكثر من 30%)، القدرة على شرب حوالي 100 لتر من المياه في أقل من عشر دقائق. سوف يساهم جينوم الجمل العربي على التعرف على الجينات التي تتحكم في الآليات الحيوية التي تمكن الجمل من التكيف مع البيئة التي يعيش فيها.

إن من الأهمية بمكان أن تسخر المعلومات الوراثية المستقاة من مشروع الجينوم العربي لمحاولة فهم النظام المناعي في الجمل العربي، فكما ذكرنا سابقاً تتميز عائلة الإبل عن كثير من الحيوانات الثديية الأخرى بجهاز مناعي فريدا من نوعه، حيث يملك الجمل بالإضافة للأجسام المضادة الشائعة في كل الثدييات، أجساماً مضادة فريدة من حيث التركيب وأكثر مقاومة للأوساط الصعبة وأصغر حجماً من تلك الموجودة في الثدييات الأخرى. سوف تسرَّع الدراسات العلمية المستقبلية المعتمدة على مخرجات جينوم الجمل العربي الفهم الصحيح لكثير الجوانب المتعلقة بالجهاز المناعي، والذي بدوره سيساعد ويسهم في تطوير طرق جديدة في مجال التطعيم، تصنيع الأجسام المضادة العلاجية، والعلاج بالببتيدات والبروتينات الصغيرة. بالإضافة لذلك، تعد آليات استجابة الجمل للعوامل الممرضة أو قابلية المقاومة من الأمور غير المفهومة لقلة أو عدم شمولية الدراسات المتعلقة بهذا المجال. سوف يوفر جينوم الجمل العربي المعلومات اللازمة للباحثين لفهم الأساس الوراثي للأمراض المعدية / الوراثية التي تؤثر على الجمال. وسيؤدي هذا في نهاية المطاف إلى وضع استراتيجيات أفضل للعلاج والحد من كثير من الأمراض، و التقليل إلى حد كبير من الاعتماد على المضادات الحيوية.

من جهة أٌخرى، بالمقارنة، فإن حليب النوق يتميز بقيمته الغذائية العالية إذا ما قورن بحليب الحيوانات الأخرى المنتجة للألبان، وهناك اعتقاد سائد بين العلماء والمختصين بأن لألبان الإبل الكثير من الخصائص الطبية التي يمكن أن تساعد في علاج بعض الأمراض الوراثية والمزمنة مثل السرطان، والإيدز، و الزهايمر، والالتهاب الكبدي الوبائي الفيروسي (C). وفي هذا الصدد، سوف يتم استخدام بيانات جينوم الجمل لإعادة بناء مسارات التمثيل الغذائي المتعلقة بإنتاج الحليب في الجمال ومقارنتها بالحيوانات اللبونة الأخرى وذلك بهدف توضيح الجوانب الوراثية المسببة لتميز لبن النوق من ناحية القيمة الغذائية والعلاجية. كما تهدف هذه الدراسات أيضاً إلى مساعدة ملاك الإبل لإجراء ما يُعرف بالتربية الانتقائية وذلك للإكثار الانتقائي للحيوانات ذات الإنتاجية المرتفعة من اللحوم والحليب. وسوف توفر بيانات الجينوم أيضاً أفكاراً جديدة في الآليات الجزيئية الكامنة الخاصة بالصفات الوراثية خاصة المتعلقة بنوعية وكمية الحليب، وإنتاج اللحوم والصوف، والقوة البدنية والقدرة العالية في حلبات السباق.

وفي الختام، فإن الانتهاء من جينوم الجمل العربي ما هو إلا خطوة أولية جادة باتجاه توطين أحدث التقنيات الحيوية بالمملكة والالتفات للأبحاث العلمية على الموارد الطبيعية المحلية. يعكف الفريق العلمي بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية على مواصلة هذا المسار البحثي لدراسة وتحليل المخرجات الناتجة عن هذا المشروع لتحويل النتائج العلمية إلى تطبيقات ملموسة ولاستكشاف الخصائص الوراثية الإضافية لأنواع/سلالات الجمال، وغيرها من الحيوانات والنباتات المحلية الهامة والأنواع المهددة بالانقراض.

 

المراجع العلمية

  1. القران الكريم
  2. الأحاديث النبوبة
  3. http://kids.fao.org/glipha/
  4. Al-Swailem AM, Shehata MM, Abu-Duhier FM, et al. Sequencing, analysis, and annotation of expressed sequence tags for Camelus dromedarius. PLoS One 2010;5(5):e10720.
  5. Saltanat H, Li H, Xu Y, et al. The influences of camel milk on the immune response of chronic hepatitis B patients. Xi Bao Yu Fen Zi Mian Yi Xue Za Zhi 2009 May;25(5):431-433.
  6. Saleh MA, Al-Salahy MB, Sanousi SA. Oxidative stress in blood of camels (Camelus dromedaries) naturally infected with Trypanosoma evansi. Vet Parasitol 2009 Jun 10;162(3-4):192-199.
  7. Mohamad RH, Zekry ZK, Al-Mehdar HA, et al. Camel milk as an adjuvant therapy for the treatment of type 1 diabetes: verification of a traditional ethnomedical practice. J Med Food 2009 Apr;12(2):461-465.
  8. Schuster SC. Next-generation sequencing transforms today’s biology. Nat Methods 2008 Jan;5(1):16-18.
  9. Goudah A, Abo-El-Sooud K. Pharmacokinetics and milk penetration of orbifloxacin after intravenous and intramuscular injections to dromedary lactating camels (Camelus dromedaries). J Vet Pharmacol Ther 2008 Jun;31(3):276-280.
  10. Alexandersen S, Wernery U, Nagy P, et al. Dromedaries (Camelus dromedarius) are of low susceptibility to inoculation with foot-and-mouth disease virus serotype O. J Comp Pathol 2008 Nov;139(4):187-193.
  11. Harmsen MM, De Haard HJ. Properties, production, and applications of camelid single-domain antibody fragments. Appl Microbiol Biotechnol 2007 Nov;77(1):13-22.
  12. Al-Khedhairy AA. Characterization of the nucleotide sequence of a polyubiquitin gene (PUBC1) from Arabian camel, Camelus dromedarius. J Biochem Mol Biol 2004 Mar 31;37(2):144-147.
  13. Kappeler SR, Farah Z, Puhan Z. 5′-flanking regions of camel milk genes are highly similar to homologue regions of other species and can be divided into two distinct groups. J Dairy Sci 2003 Feb;86(2):498-508.
  14. Conrath KE, Wernery U, Muyldermans S, et al. Emergence and evolution of functional heavy-chain antibodies in Camelidae. Dev Comp Immunol 2003 Feb;27(2):87-103.
  15. Al-Harbi MM, Qureshi S, Ahmed MM, et al. Effect of camel urine on the cytological and biochemical changes induced by cyclophosphamide in mice. J Ethnopharmacol 1996 Jul 5;52(3):129-137.
  16. Hamers-Casterman C, Atarhouch T, Muyldermans S, et al. Naturally occurring antibodies devoid of light chains. Nature 1993 Jun 3;363(6428):446-448.
  17. Kohne HK, Niepage H. The blood picture of dromedaries (Camelus dromedarius). Dtsch Tierarztl Wochenschr 1985 Sep 6;92(9):322-326.