بــنـاء الــدولـة

  • — الأحد نوفمبر 10, 2013

كتاب : بــنـاء الــدولـة

الحكم والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين

تأليف : فرانسيس فوكوياما Ñ

تلخيص : أ.د. جعفر شيخ إدريس

مقدمة الملخص

كيف تبنى دولة قد تهدمت، وكيف تقوى دولة قد ضعفت، وكيف تزداد دولة قوية قوة في بعض النواحي التي ضعفت فيها. هذا هو موضوع الفصلين الأولين من هذا الكتاب.

يلخص الكاتب ما توصل إليه المختصون في كل مسألة من مسائل هذه القضية. ويحاول أن يضع ما توصلوا إليه في نظريات عامة يمكن الاستعانة بها على جعل ما توصلوا إليه قابلا للتعميم. لكنه يعترف بأن هذا ليس ممكنا في كل المجالات (كمجال الإدارة العامة مثلا)، لا لأن هنالك تقصيرا في الدراسة ولكن لأن المادة نفسها ترتكز إلى حد كبير على ظروف محلية وظروف متغيرة لا يمكن الإحاطة بها.

هذه القضية هي كما يبدو لأول وهلة قضية الدول الضعيفة والفقيرة. فلماذا يهتم بها علماء في دول كبيرة؟ الإجابة عن هذا في الفصل الثالث من الكتاب (بعد نهاية الحرب الباردة صارت الدول الفاشية هي أكبر مشكلات النظام العالمي. وذلك لأنها تعتدي على حقوق الإنسان، وتحدث كوارث إنسانية، وتدفع بأمواج ضخمة من المهاجرين، وتهاجم جيرانها، وتؤوي الإرهابيين العالميين الذين يمكن أن يضروا ضرراً بالغا بالولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة).

لكن هذه الدراسات ليست مرتبطة ارتباطا لا زماً بالدافع إليها أو القصد منها. بل إن كثيرا منه مما يمكن الانتفاع به بغض النظر عن هذه المقاصد والدوافع.

وقد حاولنا في هذا التلخيص أن نقتصر على ما نراه من وجهة نظرنا المحلية مفيدا في الكتاب، لكنه تلخيص لا يغني عن قراءة الكتاب والاستفادة من مراجعه التي لا تكاد تخلو منها صفحة.

مقدمة المؤلف

المقصود ببناء الدولة هو؛ إنشاء مؤسسات حكومية جديدة وتقوية الموجود منها. أريد أن أدلل في هذا الكتاب على أن بناء الدولة هو من أهم أمور المجتمع الدولي لأن الحكومات الضعيفة أو الفاشية هي من مصدر لكثير من المشكلات العالمية العظمى من الفقر إلى الإيدز إلى المخدرات إلى الإرهاب. وأريد أن أبين كذلك أنه بينما نعلم الكثير عن بناء الدولة إلا أن هنالك الكثير مما لا نعلمه ولا سيما كيفية نقل المؤسسات القوية إلى الدول النامية.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام:

حيث يرسم الأول إطارا تحليليا لفهم الأبعاد المتعددة للدولية : مهام الدولة ومقدراتها ومشروعيتها. ويبحث الثاني في أسباب ضعف الدولة. ويبين الأخير الأبعاد العالمية لضعف الدولة.

[1] الأبعاد المفقودة للدولية

ازداد حجم الدولة وازدادت مهامها واتسع نطاقها الثلاثة الأربعاء الأولى من القرن العشرين. فبينما لم يكن قطاع الدولة يستهلك أكثر من 10% من الناتج القومي في الولايات المتحدة ومعظم البلاد الأوربية فإن هذا الاستهلاك قفز فيها بحلول عام 1980 إلى 50% (70% في السويد الديمقراطية الاشتراكية)، هذا النمو المتعاظم للقطاع الحكومي أدي إلى أنواع من عدم الكفاءة والنتائج غير المتوقعة ، حدث بسببها رد فعل تمثل في ما سمي “بالتاتشرية” و”الريغانية”. التي تناقص فيها حجم القطاع الحكومي في كثير من بلدان العالم. لكن حركة تحرير الاقتصاد من التدخل الحكومي صاحبها إضعاف للدولة في الدول النامية وذلك لأن هذا البرنامج خلط بين تقليل وظيفة الدولة الاقتصادية وتقليل كفاءتها وهما أمران مختلفان.

قوة الدولة ومجال عملها

قد يكون المجال الذي تعمل فيه دولة كالولايات المتحدة ضيقا من حيث عدم شموله للقطاع الصحي وعدم تشدده في تنظيم السوق، ولكنها مع ذلك تكون قوية إذا ما عرفنا القوة بتعريف مارك فيبر لها (مجموعة بشرية تنجح في دعوى حقها بالاستعمال المشروع للقوة الحسية في نطاق أرضي معين) أي إن جوهر الدولية هو مقدرة الدولة على فرض قرارها بالقوة. هذه القوة هي التي تسمى الآن ب”القوة المؤسسية”. والدول تختلف في مقدار قوتها أو ضعفها بالنسبة للمؤسسات التي تمثل هذه القوة، فقد يكون بعضها قويا في نوع من هذه المؤسسات ضعيفا في نوع آخر وتكون دولة أخرى عكسها في مجال قوتها وضعفها.

القوة والمجال والنمو الاقتصادي

كان الرأي السائد في الماضي أن الخصخصة وحدها تكفي للمساعدة على النمو الاقتصادي، لكن تجارب بعض الدول مثل روسيا، وتايلاند، وجنوب أفريقيا، أثبتت أن هذا ليس بصحيح. بل الذي اتضح الآن أنه لا بد للنمو من مؤسسات قوية. قال الأستاذ “فريدمان” أكبر دعاة اقتصاد السوق الحر إن نصيحته لكل دولة تتحول من الاشتراكية ” خصخصوا، خصخصوا، خصخصوا” لكن تبين له الآن أنه كان مخطئا. إنه يدرك الآن أن حكم القانون ربما كان أهم للتنمية من الخصخصة.

وقد برهن برنارد دي سوتو Bernando de Soto في كتابه “الطريق الآخر” على أهمية المؤسسات القانونية للتنمية، إذ وجد أن الحصول على رخصة لعمل تجاري صغير يستغرق في مدينة ليما Lima ببيرو Peru يستغرق عشرة أشهر ويمر بأحد عشر مكتبا، ويكلف 1231 دولارا، بينما لا يستغرق طلبا كهذا أكثر من يومين في الولايات المتحدة وكندا.

التزويد بالمؤسسات

هناك أربعة نواح متداخلة تحتاج لأن ننظر فيها:

  1. تصميم المنظمات وإدارتها (organizational design and management): إن موضوع الإدارة العامة حقل معرفي واسع ومتطور لكن ليس له ولا يمكن أن تكون له نظرية عامة.
  2. تصميم النظام السياسي (Political system design) :هذا حقل يبحث في العلاقة بين نظام الدولة وبين النمو الاقتصادي. فهو يقارن مثلا بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي، وبين أنظمة الانتخابات المختلفة؛ الفدرالية، النظام الحزبي وهكذا. وهنا أيضا لا توجد نظرية عامة تساعد على التعميم. فقد يساعد نظام سياسي في بلد ما على التنمية لكنه لا يساعد عليها في بلد آخر بسبب الاختلاف في المؤسسات التي تساعد الأول وتعوق الثاني. ومن ذلك أن بعض الدارسين يقول إن النظام الرئاسي الذي يعطي الفائز كل شيء ويحد الرئيس بفترة زمنية معينة هو من أسباب عدم الاستقرار وعدم الشرعية في أمريكا اللاتينية.
  3. أسس الشرعية Basis of legitimization ) ): إنه لا يكفي للمؤسسات أن تكون عاملة بطريقة صحيحة، بل لا بد من أن يعدها المجتمع شرعية.
  4. العوامل الثقافية والهيكلية (Cultural and structural factors): أغلب الدراسات في هذا المجال تكون تحت ما يسمى بـ(رأس المال الاجتماعي) إن المعايير والقيم والثقافة تؤثر في الجانب التزويدي للمؤسسات بأن تجعل بعض أشكال المؤسسات ممكنا أو تحد من إمكان وجوده. لكنها قد تؤثر أيضا في جانب الطلب منها. وعليه فإن بعض المؤسسات التي تصلح في بعض البلاد قد لا تصلح في بلاد أخرى مختلفة عنها في بعض هذه الجوانب المعيارية والقيمية والثقافية.

المعارف المؤسساتية القابلة للنقل ومكونات القوة المؤسساتية

المكون

العلم الذي يدرسه

إمكانية نقله

تصميم النظام وإدارته

الإدارة=الإدارة العامة-الاقتصاد

عالية

تصميم المؤسسات

العلوم السياسية-الاقتصاد-السياسة

متوسطة

أساس الشرعية

العلوم السياسية

متوسطة إلي ضعيفة

العوامل الاجتماعية والثقافية

علم الاجتماع-الانثروبولجيا

ضعيفة

المطالبة بالمـؤسسـات

لن تكون هنالك مؤسسات جيدة إذا لم يطالب بها. هنالك تركيز كبير في علم الاقتصاد السياسي على الظروف التي حالات إنشاء المؤسسات الناجحة هي تلك التي ولدها طلب محلي لها, ويضربون مثلا لذلك بأوربا الحديثة، والولايات المتحدة بعد الثورة، وألمانيا وليابان وتركيا في القرن التاسع عشر. وكوريا الجنوبية واليابان في الستينات، وشيلي ونيوزيلندا في السبعينات والثمانينات.

إن عدم الطلب للمؤسسات أو ضعفه هو أكبر سبب لعدم تطور المؤسسات في البلاد الفقيرة. ولذلك فإن هذا التطور كثيرا ما يحدث بأسباب خارجية، لكن الدراسات تدل على أنه لا جدوى كبيرة من مؤسسات يحدثها هذا التدخل الخارجي. إنه كثيرا ما يثنى على الولايات المتحدة بأنها كانت هي السبب في بناء ناجح للأمة nation building في ألمانيا واليابان. لكن الحقيقة أنه كان في هذه البلاد قبل غزوها نظم بيروقراطية كانت هي السبب الحقيقي لتطورها. تنشئ المطالبة المحلية بالمؤسسات الجيدة وبتغيير السياسات.

زيادة الأمر سوءا

التدخل ليس فقط لا يحل المشكلة بل كثيرا ما يزيد الأمر سوءا لأنه حطم كثيرا من قوى المؤسسات في بعض الأقطار. فالدول الإفريقية تدهورت مقدرة المؤسسات فيها تدهورا كبيرا في الثلاثين سنة الماضية بالرغم من مساعدات خارجية لها بلغت عشرة بالمئة من دخلها القومي. والسبب في ذلك أن المتبرعين يريدون أمرين قد يتعارضا: يريدون تطوير المؤسسات التي تساعد على توزيع دواء لمرض الإيدز مثلا، لكنهم يريدون أيضا أن يضمنوا وصول الدواء إلى المستفيدين منه. وبما أنهم لا يثقون بقدرة المؤسسات القائمة على القيام بهذا الأمر فإنهم كثيرا ما يتولنه هم فيأخذون أحسن ما عند المؤسسات المحلية من موظفين بإغرائهم بالمال، فيزيدون بذلك من ضعفها بل قد يحطمونها.

[2] الدول الضعيفة وثقب الإدارة العامة الأسود

قلنا إن تصميم المنظمات وإدارتها هو أكثر جوانب المؤسسات قابلية لأن ينقل عبر كل الثقافات. لكننا نقول إنه حتى في هذا المجال الضيق ليس هنالك قاعدة عامة نقول إنها صالحة لكل النظم، وعليه فإن موضوع الإدارة العامة يظل فنا أكثر منه علما. ولذا فإن قضية تطوير النظام تبقى قضية محلية.

إن التنظيمية مع غناها وتشعبها تدور كلها حول مسألة واحدة هي تفويض سلطة التصرف. هذا التفويض أمر ضروري لأن اتخاذ القرار يحتاج إلى معلومات. ولكن من المتعذر أن تجتمع كل المعلومات اللازمة عند المسؤول الأول، ولذلك لا بد له من أن ينيب عنه من يتخذ القرار ممن يعلم أن المعلومات متوفرة لديه. لكن المشكلة هي أن النائب لا يتصرف دائما باعتباره ممثلا للمسؤول، بل يدخل في تصرفه مصالحه الشخصية نشأت بسبب ذلك نظرية فرعية عن العلاقات بين الأصل (أو الرئيس أو المسؤول) وبين النائب (أو الوكيل أو العميل).

هنالك نظرية تقول إن الذي يحرك الفرد في عمله داخل المنظمة هو مصلحته الفردية. نشأ فرع من هذه النظرية لفهم العلاقة بين مصلحة الفرد ومصلحة النظام الذي يعمل فيه. من وسائل هذا التوفيق ان يكون عمل الأفراد عملا تسهل مراقبته، ثم يثاب عليه الفاعل أو يعاقب. لكن مع هذا يصعب أن يقال ما التنظيم الأمثل بالنسبة للمؤسسات وذلك لأسباب ثلاثة:

  1. كثيرا ما تكون أهداف المنظمة غير واضحة أو متناقضة.
  2. المراقبة الرسمية لأنشطة العاملين قد تكون متعذرة إما لباهظة تكاليفها أو لعدم الدقة في تحديد النشاط الذي يراقب. ولذلك فإنه كثيرا ما تلجأ المنظمات إلى وسائل غير رسمية.
  3. درجة التفويض المناسبة تعتمد على عوامل داخلية وخارجية تواجهها المنظمة بعد كل فترة.

العوامل الاقتصادية المؤثرة في نشاط العاملين بالمؤسسة

(أسمى الكاتب هذا المبحث بإعادة اكتشاف العجلة لأن الأفكار التي فيه كانت شائعة قبل ذلك ثم جاءت أفكار مخالفة لها ثم رجع إليها)

يبنى الاقتصاديون تفسيرهم لنشاط الأفراد الاقتصادي على افتراض أن هنالك دوافع سلوكية عامة في كل البشر. هذا المنهج يصلح إلى حد ما في تفسير نشاط الأفراد في المنظمات عندما يكونون مدفوعين بالمصلحة الشخصية. لكن تصرفات الناس في المنظمات تختلف عنها في الأسواق. فالمعايير والقيم والتجارب المشتركة والعلاقات الاجتماعية القوية تؤثر في عملهم واختياراتهم أعظم من تأثير المصلحة الشخصية. وبما أن كل هذه عوامل متغيرة وتختلف من حال إلى حال فإنه يتعذر تحويلها إلى نظرية عامة للمنظمات. إن الأمر يعتمد كثيرا على الظروف المحلية.

بناء المقدرة في ظروف الغموض التنظيمي: ما يترتب على السياسات.

هنالك آثار عملية كبيرة تترتب على القول بأنه ليس هنالك منظمات نموذجية. ليست البرامج الناجحة هي التي تستورد من مكان إلى مكان آخر لأن ما ينجح في ظروف محلية معينة قد لا ينجح في ظروف أخرى. إن البرامج الناجحة هي تلك التي تأخذ في الاعتبار كل الظروف المحلية. إن بعض العادات المحلية قد تكون عائقا لتطوير المؤسسات. مثلا إذا كان الناس في بلد يرون أنه من الواجب عليهم أن يقدموا القريب على البعيد مهما كانت العقود الرسمية أو القانونية، فإنه سيلزم عن ذلك بعض الخلل المؤسسي.

إن القول بأنه لا توجد منظمات نموذجية لا يلزم منه اليأس من إصلاح المؤسسات أو الاعتقاد بأن أي شيء يصلح في الإدارة العامة. كلا لأنه إذا لم تكن هنالك ممارسات نموذجية فهنالك بلا شك ممارسات سيئة يجب تجنبها.

[3] الدول الضعيفة والشرعية الدولية

ناقش الكاتب في الفصلين السابقين الأسباب الداخلية لضعف الدولة القومية التي تفوق تطور الدول الفقيرة وتنميتها الاقتصادية. لكن ضعف الدولة القومية لم يعد شأنا خاصا بها، ولهذا بدأ يحدث إنقاص للدولة القومية وللسيادة، بل بعضهم يهاجم المفهومين نفسهما. لكن من الذي يملك حق أو شرعية انتهاك سيادة دولة قومية وبأي مسوغ؟ هل هنالك مصدر للشرعية الدولية لا يعتمد هو نفسه على قوة دولة قومية؟ وإذا لم يوجد أفلا يكون مثل هذا التدخل تناقضا؟ هذه القضايا العالمية هي موضوع هذا الفصل.

بعد نهاية الحرب الباردة صارت الدول الفاشلة هي أكبر مشكلات النظام العالمي. وذلك لأنها تعتدي على حقوق الإنسان، وتحدث كوارث إنسانية، وتدفع بأمواج ضخمة من المهاجرين، وتهاجم جيرانها، وتؤوي الإرهابيين العالميين الذين يمكن أن يضروا ضررا بالغا بالولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة منذ سقوط حائط برلين في عام 1989 وإلى عام 2001 كانت معظم الكوارث العالمية ناشئة عن الدول الضعيفة أو الفاشية إن إمكانية الجمع بين الإسلام الراديكالي وأسلحة الدمار الشامل أظهرت فجأة أن حوادث تقع في أماكن قاصية يمكن أن يكون لها تأثير كبير على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغنية القوية. ولهذا فقد اقتضت الدواعي الأمنية أن التدخل في مثل هذه الدول وتغيير أنظمتها.

بالإضافة إلى الدول الضعيفة والفاشية كانت هنالك أنواع من الحكم تسببت هي الأخرى في عدم الاستقرار العالمي: عدم الديمقراطية والتعددية والمشاركة الشعبية في البلاد العربية مما أدى إلى ركودها، بل تدهورها الاقتصادي. كل هذا حدث في الوقت الذي بدأت فيه هذه البلاد تعاني من زيادة كبيرة من شباب لا يمكن تشغيلهم. كان السبب الأساس لهذه المعاناة الاقتصادية هو عدم تشجيع المبادرات الاقتصادية والأسواق ذات الكفاءة.

وبالنسبة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي كان الخطأ الذي ارتكب في أوسلو هو عدم المطالبة بالمحاسبة الديمقراطية لقيادات المنظمة وعدم المطالبة بإيقاف أنواع الفساد المالي المستشرية فيها على كل المستويات.

الإمبراطورية الجديدة

بالرغم من أن الولايات المتحدة تنفي أن تكون طامعة في إمبراطورية إلا أن سياستها التي أوضحها الرئيس في خطابه في West Point وفي إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة تحتم على الولايات المتحدة أن تتولى الحكم في الدول التي تهددها بالإرهاب. لكن الإرهاب ما زال يجد مكانا في بلاد ذات حكومات ضعيفة. إن الولايات المتحدة لا يمكنها أن ترسل قواتها إلى كل دولة تخشى من وجود الإرهابيين فيها ولذلك يجب أن تعتمد على حكومات تلك الدول لتتولى هي محاربة الإرهاب. لكن عجزها عن القيام بذلك يؤكد ما تعرضنا إليه في الفصلين السابقين من وجود ثغرات في المقدرات المؤسساتية.

النخر في مبدأ السيادة

الحكم الضعيف يقوض مبدأ السيادة لأنه يعجز عن حل مشكلات لها آثار داخلية وخارجية مما يضطر بعض الدول الأخرى للتدخل في شؤون الدولة الضعيفة ( وإن كانت كارهة) لعلاج مثل هذه المشكلات. من الحجج التي يسوغ بها مثل هذا التدخل أن الظروف التي وضع فيها مبدأ السيادة في صلح “وستفاليا” قد تغيرت، فعندما وضع المبدأ كان هنالك تردد في مفهوم الشرعية. بعد انتهاء الحرب الباردة صار هنالك اتفاق أكثر في المجتمع الدولي لمفهوم الشرعية السياسية والحقوق الإنسانية. لم يعد من الممكن إعطاء السيادة والشرعية لكل من صار امتلاكه للسلطة في بلد ما أمرا واقعا. صار من واجب الدول الخارجية التي تعمل باسم الحقوق الإنسانية والشرعية الديمقراطية أن تتدخل. أدي هذا في الواقع إلى ظهور إمبراطورية جديدة وإن كانت باسم الأمم المتحدة. (ومع أن الواضح من هذا الكلام هو إعطاء الشرعية لما قام به بوش في العراق إلا أن الكاتب يسارع فيقول إنه ينبغي أن لا يفهم كذلك لأن مسألة غزو العراق مسألة معقدة دخلت فيها عوامل كثيرة).

بناء أمة

لقد صار بناء الأمم هو المشروع الأول بالنسبة للسياسات العالمية سواء كان القصد منه إعادة بناء مجتمعات طغت عليها النزاعات أو مزقتها الحروب، أو لإزالة أرض يفرخ فيها الإرهاب، أو لمساعدة الدول الفقيرة لتنمو اقتصاديا. إذا كان هنالك علم أو فن أو تقنية لبناء الأمم فإنها ستحقق كل هذه الأهداف وسيكون الطلب عليها كبيرا.

يرى الكاتب أن الأوربيين محقون في تمييزهم بين بناء الدول وبناء الأمم. إن الأمة هي نتاج ثقافة وتاريخ لا يمكن لجهة خارجية أن تحققه. أما الدول فيمكن بناؤها.

هنالك ثلاثة أنواع من الدول تحتاج إلى إعادة بناء: دول تحطمت تحطيما شبه كامل كأفغانستان فهي بحاجة إلى ضرورات الاستقرار من ماء وكهرباء وشرطة وغيرها. إذا تحقق الأمن تأتي المرحلة الثانية وهي إنشاء مؤسسات قادرة على الاستمرار بعد خروج القوة الأجنبية. أما النوع الثالث من الدول فهو تلك التي لها مؤسسات لكنها لا تستطيع أن القيام ببعض المهام مثل حماية الممتلكات والتعليم الأساس.

لقد ارتكبت الولايات المتحدة ومن معها من المجتمع الدولي أخطاء جسيمة في الماضي في محاولتها لبناء الأمة في بنما والصومال وهايتي والبوسنة، لكن إدارة الرئيس بوش لم تستفد منها بل كررتها في أفغانستان والصومال. الذي حدث هو أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لم ينجح في مساعدة مثل تلك الدول على أن تكون لها القدرة على الاستمرار بل إنها في كثير من الأحيان جعلتها أضعف مما كانت. لكن هذا لا يعني أن المحاولات لم يكن لها داع لأن التدخل كان في أساسه لأسباب إنسانية.

المشروعية الديمقراطية على المستوى العالمي

قليلون الآن هم الذين يدافعون عن مبدأ السيادة في شكله الخالص. لكن القضية هي من الذي له أن يقرر انتهاك السيادة وعلى أي أساس. الأوربيون لا يقرون انفراد الولايات المتحدة بمثل هذا القرار ويرون أنه لا بد من إيجاد نظام عالمي قائم على قاعدة ومناسب مع ظروف عالم ما بعد الحرب الباردة. إنه يزعجهم إعلان الرئيس بوش عن مبدأ فضفاض للمبادرة بالهجوم ضد الإرهابيين أو الدول التي تدعم الإرهاب تكون الولايات المتحدة فيه هي وحدها التي تقرر أين ومتى تلجأ إلى استعمال القوة. هذا معناه أن الولايات المتحدة تطلب من المجتمع الدولي أن يفوضها هي وحدها في اتخاذ مثل هذا القرار لأنها لا تقبل أن تمارسه دولة كروسيا مثلا. برى بعض المفكرين الأمريكان أن من أسباب هذا الخلاف أن الأوربيين بما أنهم أضعف من الولايات المتحدة فإنهم يرون أن من مصلحتهم التقيد بمعايير و بقواعد عالمية تكون ملزمة لأمريكا. أما أمريكا فترى أن من مصلحتها الانفراد بالقرار لأنها أقوى من غيرها سلاحا واقتصادا وتقنية.

ما بعد الدولة القومية

ما مصدر الشرعية على المستوى العالمي؟ يرى الأمريكان أنها في جذر إرادة الدول القومية الدستورية. ويرى الأمريكان أنه أساسها هو مبادئ لبرالية أعلى من قوانين أو قرارات الدولة القومية. يرى الأوربيون أن كون القرار اتخذ بحسب الإجراءات الديمقراطية لا يعنى كونه موافقا لتلك القيم اللبرالية. لكن الاعتقاد في مثل هذه القيم المجردة قد يكون هو نفسه سببا في سوء استعمال النخب لها لأنه سيعطيها الحق في أن تفسر إرادة المجتمع الدولي بحسب ما يروق لها. المشكلة الثانية بالنسبة للمفهوم الأوربي هي من الذي يملك قوة التنفيذ. إن (المجتمع الدولي) وهم لا حقيقة له في الواقع فيما يتعلق بقوة التنفيذ لأن هذه إنما تملكها الدولة القومية.

[4] أصغر حجماً ولكنه الأقوى

على مدى جيل بكامله، كان هنالك اتجاه لإضعاف الدولنة (stateness). وقد طرأت هذه النزعة لاعتبارات قياسية واقتصادية. فالكثير من الدول في القرن العشرين كانت قوية للغاية: حيث كانت تضطهد الشعوب، وتعتدي على الجيران. ولم تكن تلك الدول دكتاتورية، ومع ذلك أعاقت النمو الاقتصادي وعملت على تراكم سلسلة من حالات الاختلال الوظيفي وعدم الكفاءة بسبب الإفراط في تدخل الدولة في كثير من المجالات. ولذلك أدى هذا الاتجاه إلى تقليص حجم قطاعات الدولة والتوجه نحو السوق أو الاتجاه إلى مهام المجتمع المدني التي خصصت بأسلوب غير ملائم. وفي نفس الوقت، نمو الاقتصاد العالمي بات يؤدي إلى تآكل استقلالية الدول ذات السيادة، وذلك بزيادة وتيرة انتقال المعلومات، ورأس المال، وكذلك العمل بقدر أقل.

وقد كانت هذه التغييرات بشكل عام ذات مردود إيجابي وفي المصلحة، وأجندة تقليص مجال هيمنة الدول القومية لا يزال نموذجاً حياً في أجزاء كثيرة من العالم: فالركود الذي ظهر في اليابان خلال عقد التسعينيات، وأزمات الأمن الاجتماعي التي ستظهر في كثير من دول الرفاهية في أوربا في القرن الحادي والعشرين مرتبطة إلى حد كبير بتدخلات القانون والدولة في اقتصاديات هذه الدول.

وفي فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن الموضوع الرئيسي للسياسة الدولية ليس هو كيفية تقليص الدولنة (stateness)، بل هو كيفية بنائها. فبالنسبة للمجتمعات الفردية والمجتمع العالمي، فإن إضعاف الدولة ليس من مقدمات الدولة المثالية، بل هو من بوادر الكارثة. والقضية الخطيرة التي تواجه الدول الفقيرة والتي تحد من قدرتها على تحقيق التنمية الاقتصادية، هو ذلك المستوى غير المناسب من التنمية المؤسسية. حيث أنها ليست في حاجة إلى دول كثيرة، بقدر حاجتها إلى دول قوية وفاعلة في إطار النطاق المحدود لمهام ووظائف الدولة.

وفي النظام العالمي، تعرضت الدولنة (stateness) إلى الهجوم والتآكل من الناحية الفعلية وذلك لعدة أسباب. حيث أن جميع الدول في العالم الثالث ضعيفة، ونهاية الحرب الباردة أدت إلى ظهور مجموعة من الدول الضعيفة التي تعاني من المشاكل، من أوروبا إلى جنوب آسيا. وقد شكلت هذه الدول الضعيفة تهديداً على النظام العالمي لأنها مصدر للنزاعات، والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، ولأنها أيضاً ستصبح مرتعاً محتملاً لنوع جديد من الإرهاب الذي يمكنه الوصول إلى العالم المتقدم. وتقوية هذه الدول بأشكال مختلفة من بناء الدولة، باتت مسألة حيوية للغاية بالنسبة للأمن العالمي، ولكنها تحت هيمنة عدد قليل من الدول المتقدمة. ولذلك، فإن تعلّم كيفية بناء الدولة بطريقة أفضل، مسألة مركزية لمستقبل النظام العالمي.

وبالرغم من أننا لا نريد العودة إلى عالم القوى العظمى المتصادمة، إلاّ أنه يجب أن نتنبه للحاجة إلى القوة. وإن ما تفعله، وتقدر عليه الدولة دون غيرها هو تجميع وتوزيع السلطة الشرعية بشكل هادف. وهذه السلطة ضرورية لتقوية حكم القانون على المستوى الداخلي، وهي مهمة أيضاً للمحافظة على النظام على مستوى العالم. والذين طالبوا “بفجر السيادة” سواء كانوا من أنصار نظام الأسواق الحرة على اليمين أو النظام القائم على التعدد من اليسار- يجب تبيان ما سيحل محل سلطة الدولة القومية ذات السيادة في العالم المعاصر (أنظر إيفانز1997). غير أن الذي ملأ هذا الفجوة من الناحية الفعلية هو خليط متنافر من المؤسسات متعددة القومية، والمنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، وتكتلات الجريمة، والجماعات الإرهابية وما شابهها من التي تملك قدر معين من القوة أو تلك التي تتمتع بشيء من الشرعية، ولكن من النادر أن تجمع بينهما في آن واحد. وفي غياب إجابة واضحة، فليس أمامنا من خيار آخر إلاّ العودة مرة أخرى إلى الدولة القومية ذات السيادة، وأن نحاول مرة أخرى فهم الكيفية التي تعيننا على أن نجعلها قوية وفاعلة.

ومن الناحية الأخرى، فالقوة العسكرية التي نربطها عادة بالدولة القومية، من الواضح أنها ليست كافية لتلبية احتياجاتها. والأوربيون محقون في أن يكون لديهم بعض من أشكال القوة الناعمة، كبناء الدولة التي يمكن الاعتماد عليها. ويجب على الدول أن تكون قادرة على بناء مؤسسات الدولة ليس ضمن حدودها وحسب، بل في الدول الأخرى التي تعاني من المخاطر وعدم النظام. ففي السنوات الماضية كانت بعض الدول تفعل ذلك بشكل متزامن باحتلال الدولة ومن ثم إضافتها إلى إمبراطوريتها إدارياً. والآن نصر على أننا نسعى لنشر الديمقراطية، والحكم الذاتي، وحقوق الإنسان، وأن أي محاولة لحكم الآخرين هي مجرد فعل مؤقت بدلاً من أن يكون طموحاً إمبريالياً. وسنرى ما إذا كان الأوربيون يجيدون رسم هذه الدائرة أفضل من الأمريكيين. وعلى أية حال فإن فن بناء الدولة سيكون المكون الرئيسي للسلطة القومية، وهو مهم تماماً كأهمية القدرة على نشر القوات العسكرية التقليدية من أجل المحافظة على النظام في العالم.

المصدر موقع أسلام ديلي


Ñ فرانسيس فوكوياما (بيرنارد شوارتز)

هو أستاذ مادة الاقتصاد السياسي الدولي في مدرسة بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكينز. وقد ألف عدة كتب، من بينها “مستقبلنا في مرحلة ما بعد الإنسان: نتائج ثورة التكنولوجيا الحيوية”، والانقطاع الأعظم: الطبيعة البشرية وإعادة تشكيل النظام الاجتماعي. الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الازدهار، ونهاية التاريخ والرجل الأخير.