بين المركزية واللامركزية !

  • — الثلاثاء يونيو 30, 2020

إن أحد أكبر التحديات التي تواجه المنظمات اليوم يتمثل في إيجاد التوازن الصحيح بين المركزية واللامركزية.

هناك قوى معاكسة أو بديلة تدفع في كلا الاتجاهين، فمن ناحية، يبدو أن الضغوط لخفض التكاليف من خلال والفورات ، وتحفيز الأداء المالي الأقوى من المركز، وإحداث التحول في نماذج الأعمال الحالية، والاستجابة للمتطلبات القانونية الجديدة لإدارة المخاطر أو الاستدامة، كلها عوامل تدعو إلى المزيد من المركزية.

ولكن بالمقابل، يبدو أن الحاجة الملحة للحد من البيروقراطية، وتعزيز روح المبادرة المحلية، والاستجابة السريعة لاحتياجات المستفيدين المحليين، وتشجيع التكيف والرشاقة في مواجهة الأسواق سريعة التغير، باتت تدفع باتجاه تبني اللامركزية.

الطريقة التي يتبعها كبار المديرين التنفيذيين لاتخاذ قراراتهم في التعامل مع هذه الضغوط المتضاربة ستكون لها عواقب جسيمة: حيث أن الأسلوب الذي يتبعونه سيلعب دورًا كبيرًا في تحديد دور ونطاق وحجم مركز المؤسسة، ولا توجد إجابة سهلة هنا.

قد تبدو بعض الشعارات من قبيل: “فكر عالميًا، وتصرف محليًا” و “أنشئ مركزًا بسيطاً ولكن نشطًا” كلها شعارات جيدة، لكنها لا تقدم الكثير من الإرشادات الملموسة التي يمكن أن تنعكس على الواقع، ومع كثرة الممارسات الجيدة في هذا المجال، إلا أنه لا توجد مجموعة عالمية واحدة من الممارسات التي يمكن تطبيقها كوصفة في جميع الظروف على اختلافها وتنوعها.

ولكن بدلاً من ذلك، العثور على الوصفة المناسبة لمؤسستك، سيتطلب اتخاذ خيارات استراتيجية وتصميم مقايضات مثالية بين الأهداف المتنافسة، والهدف هو: إنشاء مركز مؤسسي ذو قيمة مضافة يتّبع استراتيجية علوية (أبوية) مخصصة بعناية تأخذ بعين الاعتبار احتياجات وحدات العمل ونقاط القوة (ونقاط الضعف أيضاً) من القدرات المؤسسية، وقد حددت مجموعة بوسطن الاستشارية BCG The Boston Consulting Group أربعة مبادئ لتحقيق هذا الهدف:

التركيز على القيمة FOCUS ON VALUE

معظم المناقشات التي تجري حول دور المؤسسة، تركز على المزايا المترتبة على أداء أنشطة معينة بشكل مركزي، وهذه الفوائد مهمة، لكنها لا تعدو أن تكون مجرد جزء فقط من المعادلة، ومن أجل ضمان أن المركزية تضيف قيمة للمؤسسة، يجب موازنة فوائدها المتوقعة مقابل تكاليفها المحتملة.

وتعتبر التكاليف المباشرة لوظائف ومبادرات المؤسسة هي بنودًا واضحة للغاية تخضع لعملية تدقيق كبيرة، لكن العديد من المنظمات تهمل التكاليف غير المباشرة المفروضة على أعمال المؤسسة، ويمكن للمركزية أن تسهم في زيادة التعقيدات ونشر المساءلة وبطء الاستجابة، وبالرغم من أن المديرين في مركز المؤسسة يفترضون عادةً أنهم يعرفون ما هو الأفضل للنشاط ، إلاّ أن هؤلاء المدراء، هم في كثير من الحالات، بعيدون جدًا عن احتياجات الزبائن الحقيقية، والتي تعتبر من المدخلات الرئيسية لاتخاذ أفضل القرارات.

وعليه، من الضروري إجراء تقييم دقيق للمواقف التي يمكن للمركز أن يضيف فيها قيمة حقيقية، وتلك التي لا يمكنه فيها أن يضيف قيمة تذكر.

إذاً، ما الذي يفعله المركز حاليًا؟ وما هي أنواع التعقيدات والتكاليف التي تفرضها هذه الأنشطة على وحدات الأعمال في المؤسسة؟ وما هي الأنشطة التي تعيق أو تحد من تطوير الأعمال الفردية في المحفظة، والتي تسهم في تمكين هذا التطور؟ وهل القيمة الحالية المقدمة تبرر التكلفة؟

إن تقديم منظور القيمة هذا إلى كل نشاط يقوم به المركز حاليًا أو قد يؤديه في المستقبل هو نظام لابد منه.

تقديم الاستراتيجية على الهيكل

عندما تفكر الإدارة في تصميم مركز للمؤسسة، فإن دافعها الطبيعي هو البدء بالهيكل – المربعات والمسؤوليات والتسلسل الإداري، لكن هذا يضع العربة أمام الحصان، وبدلاً من ذلك، يجب أن يبدأ كبار المديرين التنفيذيين بصياغة رؤية واضحة للاستراتيجية  من أعلى (الأبوية) Parenting Strategy المستهدفة وأن يستخدموا ذلك لتأطير المناقشات حول نموذج المنظمة وأدوارها المناسبة.

الاستراتيجية العلوية تحدد دورًا واضحًا لمركز المؤسسة على أساس فهم محدد للكيفية التي سيتبعها المركز لإضافة القيمة، وعلى سبيل المثال، هل يقود المركز إدارة الأعمال من خلال الإشراف على الحوكمة المالية، أم من خلال تقديم التوجيه الاستراتيجي، أم بتحقيق التميز الوظيفي من خلال الموارد المركزية؟

وقد حددت مجموعة بوسطن الاستشارية BCG ستة نماذج أساسية للاستراتيجية من أعلى  تعكس الدرجة التي يكون فيها مركز المؤسسة “غير عملي” أو “عملي”.

ست استراتيجيات من الأعلى

هذه النماذج الستة لا توفر مكانًا مفيدًا يمكن البدء منه فحسب، بل توضح أيضًا نقطة أساسية وهي: أن هناك العديد من الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤدي إلى النجاح.

يحتاج كبار التنفيذيين إلى محاربة النزوع الطبيعي لمركزية المؤسسات لتوسيع نطاقها باستمرار والاستحواذ على المزيد من الوظائف الإضافية، وبدلاً من تخفيف قيمة المركز من خلال جعل تغطيته واسعة للغاية، يجب أن يكون هؤلاء المدراء انتقائيون، وأن يركزوا على عدد محدود من الأدوات التي يمكن أن تساعد على رفع القيمة، وتتفوق عليها فعلاً. ولعل القيام بأقل القليل من المهام ربما يكون طريقة رائعة للمركز لإضافة المزيد من القيمة.

وهناك ميزة أخرى لتبني الاستراتيجية من الأعلى الصريحة، وهي أنها تضع مبادئ توجيهية وأولويات واضحة لتصميم المنظمة، وكذلك تزود مديري المنظمة بالحجج الجيدة حول الأسباب التي تدفعهم للقيام بما يقومون به.

ففي المنظمات الكبيرة، تصبح المناقشات حول “من يجب أن يفعل ماذا”، أمراً لا مفر منه، وبدلاً من التصميم بدافع السياسة أو السلطة أو الأنا، يجب أن ترتكز المسؤوليات والصلاحيات على منطق واضح لكيفية خلق المركز للقيمة.

إن المدراء في المركز الذين يمكنهم أن يدافعوا عن النشاط الذي يقوم على المبادئ الاستراتيجية الأساسية، هم الأوفر حظاً لكسب التأييد من مديري وحدات الأعمال والاتفاق حول دور الجميع.

دع مجال الأعمال هو الذي يوجه المركز – وليس العكس

قال الرئيس الأمريكي جون كينيدي John F. Kennedy في خطاب تنصيبه: “لا تسأل عما يمكن لبلدك أن يفعله من أجلك؛ ولكن عليك أن تتساءل: ما الذي يمكن أن تقدمه أنت لبلدك.” عندما يتعلق الأمر بتحديد دور المركز، يجب على كبار التنفيذيين اتباع شعار مماثل، ولعله من الطبيعي فقط التفكير في المركز من منظور وظائف المؤسسة، ولكن إذا لم يكن المدراء التنفيذيون حذرين، فسوف ينتهي بهم الأمر إلى بناء مركز يخدم نفسه – ويتساءلون في الواقع: “ما الذي يمكن لمؤسستك أن تقدمه لنا؟” – بدلاً من خدمة الجهات التي يتم فيها إنشاء القيمة بالفعل.

وعلى الإدارة بدلاً من ذلك أن تتأكد من أن دور المركز يتمحور حول الاحتياجات المحددة لأعمال المؤسسة، بدلاً من قياس الوظائف مقارنتها في المؤسسات الأخرى، ويجب على الإدارة قياسها مقابل التقييم الموضوعي لما تحتاجه المؤسسات الخاصة وأفضل السبل لدعمها.

ومن المؤكد أنه ستكون هناك بعض الأنشطة التي تتم بشكل طبيعي في المركز – على سبيل المثال، بعض مهام الحوكمة الرئيسية، مثل التدقيق الداخلي والعمليات الرئيسية لمراقبة الاستثمار. ولكن بالنسبة لجميع الوظائف أو الأنشطة الأخرى، يجب على الإدارة تحديد ما إذا كان من الضروري حقًا جعل هذه المهام مركزية.

وكقاعدة عامة، من الأفضل وضع عبء الإثبات على الذين ينادون بالمزيد من المركزية، وليس العكس، حتى أن بعض المؤسسات تتخذ نهجًا شبيهًا بالميزانية القائمة على الرصيد الصفري zero-based budgeting – وذلك بإعادة تقييم الأنشطة المركزية بانتظام للتأكد من أنها لا تزال تضيف القيمة.

مارس نقداً ذاتيًا حول قدرات المركز

من الأهمية بمكان إجراء تقييم نقدي للقدرات الحالية للمركز وما إذا كان بإمكانها معالجة هذه الحاجة بفعالية وكفاءة، حتى عندما تكون هناك حاجة واضحة ومقنعة.

إن مجرد تحديد المنظمة لحاجة ماسة لم يتم تلبيتها لا يعني بالضرورة أن القدرة على تلبية هذه الحاجة يجب أن تكون موجودة في مركز المؤسسة، ربما يكون من الأفضل أن تتحمل إحدى وحدات الأعمال المسؤولية عن بناء تلك القدرة للمؤسسة بأكملها. أو ربما يكون من المنطقي أكثر تحديد موقع الإمكانية الجديدة في مركز خدمة مشتركة منظم لتقديم الخدمات الأساسية بتكلفة منخفضة، مع إجراء المقارنة المرجعية مع المؤسسات الخارجية الأكثر كفاءة في تقديم هذه الخدمة.

ويجب على الإدارة أن تحذر من الثقة المفرطة بشأن ما يمكن للمركز تقديمه، وتقييم قدرات المنظمة بطريقة منهجية من خلال الإجابة على ثلاثة أسئلة حاسمة:

  • هل هناك إمكانية لأن يقوم هذا النشاط بخلق قيمة كبيرة؟
  • هل أن مخاطر تدمير القيمة نتيجة لتبني هذا النشاط منخفضة بما فيه الكفاية؟
  • هل المخاطر المترتبة على التنفيذ محدودة أيضا؟

ومن الطرق الفعالة بشكل خاص لتطوير فهم موضوعي لقدرات المركز هي مطالبة وحدات الأعمال بتقييمه، ويمكن أن للتقييم الصادق والقوي لنقاط القوة والضعف في المركز من قادة وحدات الأعمال في المنظمة أن يكون مفيدًا جدًا في فهم الموقف بدقة، حول متى سيكون من المنطقي أن يأخذ المركز زمام القيادة ومتى يجب عليه أن لا يفعل ذلك.

في بعض الحالات، قد تكون القيمة المضافة بواسطة وظيفة مركزية جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية من الأعلى التي تختارها المنظمة. إذا لم تكن هذه الوظيفة موجودة بعد، فسيكون من الضروري الاستثمار في إنشائها.

ومن الأمثلة الحديثة البارزة في هذا المجال هو الجهود التي تبذلها العديد من المنظمات للدفع باتجاه إنشاء منصات رقمية من المركز، ولكن إذا كنت في شك ، فلا تتجه إلى المركزية، في بعض الأحيان، يكون من الأفضل السماح ببساطة للفروع بتطوير القدرات التي تحتاجها بمفردها.

هذه المبادئ الإدارية الأربعة ستساعد المدراء التنفيذيين على تحقيق التوازن الصحيح بين المركزية واللامركزية: التركيز على القيمة، ووضع استراتيجية من الأعلى صريحة، وتحديد دور المركز حول احتياجات وحدات أعمال المؤسسة، وتقييم قدرات المنظمة بأسلوب ناقد.

وبعد تحقيق هذا التوازن، يجب على المدراء أن يكونوا مستعدين لإعادة النظر – وربما مراجعة – خياراتهم مع تغير الظروف، ومع تطور استراتيجية المنظمة بمرور الوقت، يجب أن تتطور أيضًا الاستراتيجية من الأعلى ودور المركر. ويجب أن يكون التنفيذيون على استعداد للتحدي الروتيني للافتراضات الحالية حول دور وحجم وتنظيم المركز وإجراء التغييرات اللازمة إذا دعت الحاجة من خلال تطبيق هذه المبادئ الأربعة باستمرار.

المصدر: /www.bcg.com