القيم المؤسساتية و المنهج الشخصانى

  • — الخميس أبريل 23, 2015

[ بقلم د. صالح بن سبعان ]

  • لدينا بنى حديثة ولكن مفرغة من مضامينها المؤسسية تمامً .
  • معيار الانتساب والتقييم تحكمه مزاجية المسؤول مما ينعكس سلبيا على بيئة العمل .
  • العلاقة بين الأفراد في المؤسسة يجب أن تحكمها ” هيكلة ” المؤسسة ونظمها بعيداً عن عواطفهم وميولهم الخاصة.
  • من ظل المناخ المؤسسي تتأثر أخلاق العاملين إيجابيا في تحقيق أهداف المؤسسة.

على الرغم من أن المملكة العربية السعودية أرست مؤسساتها بشكل راسخ على نمط الدولة الحديثة، مجذرة بنيانها على هدى الإسلام ، مستهدية بقيمه الخالدة. إلا أن المشكلة التي مازالت تعاني منها الدولة والمجتمع معاً، هي هذا التناقض بين بني مؤسساتية حديثة ، تدار على نمط السلطة الإدارية “المشخصنة” أي بين بني مؤسساتية حديثة ولكنها مفرغة من مضامينها المؤسساتية تماماً.

سـرطان المنهج “الشخصاني”

وحين نحاول تشخيص هذا التناقض، أو هذه المشكلة ، فإننا نجد أن العلة تكمن في غياب العقلية أو الذهنية المؤسساتية، التي تعرف كيف تتعامل مع الكيان المؤسساتي، وعلى دراية بقوانينه وآلياته .

ويتجلى تأثير هذا التناقض في الطريقة التي تدار بها المؤسسات حيث تتحول المؤسسة إلى “دائرة خاصة” أو إقطاعية خاصة توظف في خدمة رأس هيكلها الإداري .

وفى ظل وضع كهذا ، فإن الانتساب للمؤسسة إنما يكون في جوهره انتساباً إلى شخص المسؤول ، وبالتالي فإن ولاء الموظف العامل في المؤسسة إنما يكون للمدير أو الشخص الذي سهل له عملية الحصول على الوظيفة ، وليس للمؤسسة.

ويتحرى الموظف في هذه الحالة رضى المسؤول حين يعمل ، وعينه على رضاه، والذي قد لا يكون له علاقة بمصالح المؤسسة ، بل وقد يكون على تناقض معها ، وقد يكون متناقضاً وأهداف المؤسسة وبرامجها.

وفى كل الأحوال، فإن أهداف المؤسسة وبرامجها تكون هي الغائب الأكبر في مثل هذه الصفقات التعاقدية بين شخصين وهما: المسؤول والموظف.

وبالطبع فإن معيار الإنتساب للمؤسسة ومعيار تقييم الأداء داخلها سيكون مطبوعاً بطابع شخصي لا يستطيع أحد منه فكاكاً ، لأن المعيار في هذه الحالة سيكون مرتبطاً بعلائق شخصية تحكمها مزاجية المسؤول ، ومدى رضاه الشخصي عن الموظف ، ومدى التفاني الذي يظهره الموظف ويبذل مجهوداً متعاظماً لتأكيده للمسؤول الذي ـ في حالة رضاه ـ سيقوم بمكافأته على هذا الولاء والتفاني اللذين يبذلهما الموظف للمسؤول.

وبالطبع فإن بيئة العمل في المؤسسة ستتأثر سلباً بهذا النهج الشخصاني الذاتي ويظهر هذا التأثير في أخلاقيات العمل ، حيث يسود النفاق والتزلف والكذب والاحتيال وبالتالي يأخذ التنافس بين الموظفين على الترقى طابعاً غير شريف.

ولا يمكن لعاقل أن يتوقع من مؤسسة تدار بهذا الشكل وينخر أوصالها سرطان المحسوبية والنفاق ، ويسود فيها الصراع من أجل المصالح الشخصية بين العاملين فيها أن تستطيع الحفاظ على وجودها وبقائها دع عنك تطورها ورقيها وازدهارها.

التربية المؤسساتيـة …كيف ؟

إن الخروج من هذا النفق المظلم والطريق المسدود الذي تسير فيه مؤسساتنا بقطاعيها العام والخاص لا يمكن أن يتحقق دون الارتقاء إلى مستوى الفهم المؤسساتي وتنمية “العقلية المؤسساتية” بين مختلف القطاعات العاملة ، وهى عملية اجتماعية متكاملة ومترابطة الأجزاء تبدأ منذ الطفولة حيث يربى الطفل على الفهم المؤسساتي في علاقته بالمدرسة، التي هي بالمقابل في مستوى التعليم العام منها يجب أن تعود إلى وضعها الطبيعي كمؤسسة تربوية تعليمية كفيلة بغرس القيم المؤسسية في عقل الطفل، إلى جانب تنمية وتطوير المهارات والقوي العملية والمعنوية وغرس القيم الاجتماعية الفاضلة الأخرى في عملية تربوية وتعليمية تهدف إلى بناء شخصية متكاملة . وبالطبع فإن غرس وترسيخ أسس العقلية المؤسساتية ، أو الفهم المؤسسي يتطلب في أولي خطواته تعريف المؤسسة كبنية اجتماعية .

فالمؤسسة شخصية قانونية اعتبارية ، تتمتع بكافة مقومات الوجود القانوني منفصلة عن إرادة ورغبات الأفراد الذين يعملون فيها ، وهى لها التزاماتها ومسئولياتها القانونية .

والمؤسسة من الداخل لها قوانين بنيتها الداخلية ، ولها آلياتها الخاصة في العمل وقوانينها ولوائحها الداخلية الضابطة، والمنظمة للعمل تستمد مرجعيتها من أهدافها الخاصة وبرامجها وخططها.

إلا أن النقطة الأهم في ذلك هي أن يُفهم بأن المؤسسة كبنية وككيان مستقل متعالية على الأفراد الذين يعملون فيها ، وذلك لسبب بسيط ، وهو: أن هؤلاء الأفراد يتم استيعابهم في المؤسسة وفقاً لاحتياجاتها الخاصة، ويتم استيعابهم وفق معاييرها الخاصة، وأن هذه المعايير منفصلة عن “رغبات” هؤلاء الأفراد.

وبالتالي فإن العلاقة بين الأفراد في المؤسسة تحددها “هيكلة” المؤسسة ونظامها الإداري من الداخل ، وليس “عواطف” هؤلاء الأفراد الخاصة وميولهم المزاجية حباً وكرهاً.

تضارب المصالح

نعم ثمة فرق واضح بين الرؤيتين: فانتماء الفرد في هذه الحالة يكون للمؤسسة بغض النظر عمن هو المسؤول، لأن هذا المسؤول محكوم بصيغة تعاقدية مع المؤسسة تحكمها ـ أى هذه الصيغة ـ أهداف المؤسسة وبرامجها وخططها، وهو في ذلك لا يختلف عن مرءوسيه اللذين تحكمهم أيضاً الصيغة التعاقدية نفسها. وبالتالي فإن المؤسسة لا تتأثر سلباً في حالة انتهاء أو إنهاء تعاقده مع المؤسسة، لأن ماكينة المؤسسة تدور وفق برامج وخطط لا علاقة لاستمرارها بهذا الشخص أو ذاك، مهام كان الموقع الذي يحتله في آلتها العملاقة المنفصلة عن إرادة الأفراد ، لأن ما يحكم بقاء الموظف أو المسؤول ليس شخصه ولكن “الدور” الذي يلعبه في العملية المؤسساتية . إذن فوجود الفرد يتحقق أو لا يتحقق وفقاً لخطة المؤسسة ، ووفقاً لآلياتها في الإحلال والتبديل. ويترتب على ذلك ـ على عكس ما عليه الحال في الكيان الشخصاني ـ حضور المؤسسة الغالب على حضور إرادة الفرد ، وسيادة وأولوية مصالحها على مصالح الأفراد العاملين فيها.

والتناقض السطحي الذي يبدو من النظرة المتعجلة هو تناقض غير حقيقي ، إذ لا تضارب البتة بين مصالح المؤسسة ومصالح الأفراد العاملين فيها ، فالمصلحة متكاملة هنا.

ومصلحة الأفراد تتحقق على النحو الكامل حين تحقق المؤسسة النجاح أو التقدم ، وحين تعمل بطاقتها القصوى ، في هذه الحالة تتحقق مصالح الأفراد الذين يعملون فيها.

فازدهار المؤسسة يعنى بالضرورة تحقيق مصالح العاملين . في حين أنه ليس بالضرورة أن يعنى تحقيق الأفراد ـ أو بعضهم ـ مصالحهم الشخصية بالضرورة ازدهار المؤسسة فقد يكون هذا سلباً على حساب المؤسسة وعلى حساب مصالحها وبرامجها وأهدافها.

مأسـسة العلاقـات

وبالتالي ينعكس هذا الوضع المؤسساتي على الأداء والمعايير التي بموجبها يتحرك الأفراد في فضاء الهيكلة المؤسساتي ، فالأداء معاييره محددة سلفاً.

والحكم على الأداء منفصل تماماً عن مزاجية وعواطف الشخص المسؤول ، وإنما تحكمه معايير ومقاييس محايدة لا تخالطها عاطفة ، سواء أكانت هذه العاطفة سلبية أم إيجابية كرهاً شخصياً أو حباً.

ويحل محل التنافس بين الموظفين لكسب رضى المسؤول للترقي في السلم الوظيفي، أو الفوز بالحوافز، ويحل محله التنافس بينهم في خدمة أهداف المؤسسة وتحقيق برامجها وإنجاز خططها على أكمل وجه وبأسرع ما يمكن ، مما يحفز ملكة الإبداع ويقوي روح المبادرة الشخصية عند العاملين لتنفيذ البرامج والخطط.

الأمر الذي يستبعد التنافس غير الشريف بين العاملين أو يحقق أكمل العدالة بينهم عند تطبيق مبدأي الثواب والعقاب ، ويحول دون شيوع الأمراض الاجتماعية في العمل مثل النفاق والتحايل والكذب، وغيرها من الممارسات المريضة التي تلوث بيئة العمل وتفسدها.

وفى ظل المناخ المؤسسي تتأثر أخلاق العاملين إيجاباً، حيث تنتفي دوافع “المزاجية” المرضية بينهم ، ويتعايشون تحت ظل قوانين منفصلة عن رغباتهم تنظم العلاقات فيما بينهم، وتضبطهم وتضبط انفعالاتهم لوائح عمل واضحة، محايدة، مستقلة عن إرادتهم تتعامل بمعايير منطق عملي، يجسـد إرادة المؤسسة التي تعلو على كل الإيرادات الأخرى.

والمؤسسة بذلك تعمل على ترسيخ مبدأ تطبيق العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل كيانها.

ضرورة المنطـق المؤسسي

وعود على بدء، فإن سائر ما نشتكي منه، أو يشتكي منه القطاع الأكبر من العاملين في مختلف القطاعات، من عدم الاستقرار الوظيفي، أو التضخم الوظيفي أو انتشار الممارسات اللا أخلاقية في العمل، أو عطالة المؤهلين أو من يحسبون أنفسهم مؤهلين، في مقابل احتلال من لا يستحقون مواقع أكبر من إمكانياتهم وقدراتهم، أو تفشي المحسوبية، وعجز بعض المؤسسات رغم فرص النجاح الهائلة أمامها، كل ذلك وغيره فإننا إذا ما بحثنا في جذورها سنجد أن غياب المؤسسية، أو الفصل المؤسسي هو السبب الرئيسي وراءها وأنه القاسم المشترك بين مجموعة الأسباب الأخر.

لقد انتهى ـ وإلي غير رجعة ـ عهد “شخصنة” السلطة الإدارية ولم تعد الوظائف كما كانت في السابق يتم شغلها بمعايير عاطفية ، وحلت المؤسساتية محل “الشخصنة” و “الذاتية” في إدارة الدول والمؤسسات، وقد أكملت دولتنا بحمد الله أسس بنائها على نمط الدولة الحديثة ، وأقامت المؤسسات، ولكننا حين نمعن النظر “داخل هذه المؤسسات” نجد أن بنيتها الداخلية لا يحكمها منطق مؤسسي وإنما هي شئ أقرب إلى العشائرية. ولا يمكن أن تؤدي دورها مؤسسات حديثة ذات مضامين عشائرية تقليدية، أي نظم حديثه بمضامين تقليدية …. كيف يصح هذا ويسـتقيم !!!

والله الموفق ،،،،