“رجال الأعمال ليسوا بالضرورة اقتصاديين عظماء” پول كروجمان
يحلل الاقتصادي الأمريكي د. پول كروجمان، عالم اقتصاد أمريكي، وحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد من خلال كتابه A Country Is Not a Company الفارق الذي يراه كبيرا وأساسيا بين إدارة السياسة الاقتصادية الحكومية للدولة وبين إدارة شركة.
طلاب الجامعات الذين ينوون العمل في التجارة غالبا ما يتخصصون في الاقتصاد، بيد أن القليل منهم يعتقدون أنه سينتهي بهم الأمر إلى تطبيق ما يسمعونه في قاعة المحاضرات. وهؤلاء الطلاب يدركون حقيقة جوهرية مفادها أن ما يتعلمونه في محاضرات الاقتصاد لن يساعدهم في إدارة الأعمال التجارية.
والعكس صحيح كذلك، فما يتعلمه الناس في إدارة الأعمال لن يسعفهم في وضع السياسات الاقتصادية. و الدولة ليست شركة كبيرة. إن الحس والبداهة العقلية التي تصنع رجل الأعمال الكبير ليست على وجه العموم ذاتها التي تصنع محللا اقتصاديا عظيما. ويندر أن يكون المسؤول التنفيذي الذي يجني المليار دولار شخصا مناسبا لتقديم المشورة في اقتصاد تبلغ قيمته ٦ تريليون دولار.
لماذا يجب توضيح ذلك؟ من المعتاد على كل حال أن رجال الأعمال والاقتصاد لا يجيدون الشعر مثلا، فما الجديد ؟ القضية أن الكثير من الناس حتى التنفيذيين الناجحين يعتقدون أن بمقدور من صنعوا ثروة شخصية أن يعرفوا كيفية جعل أمة بأكملها أكثر ازدهارا. وواقع الأمر أن نصائحهم في كثير من الأحيان مضللة وكارثية.
أنا لا أزعم أن رجال الأعمال أغبياء ولا أن الاقتصاديين يمتلكون ذكاء خاصا. كلا، فلو اجتمع مائة من كبار التنفيذيين في الولايات المتحدة مع مائة من الاقتصاديين البارزين، ربما يتفوق الأقل إثارة للإعجاب من رجال الأعمال على الأكثر إثارة للإعجاب من الاقتصاديين. غاية مافي الأمر أن نمط التفكير اللازم للتحليل الاقتصادي يختلف كثيرا عن ذلك الذي يحقق النجاح في الأعمال التجارية. عند إدراكنا لوجه الاختلاف هذا، نستطيع أن نفهم طبيعة القيام بتحليل اقتصادي جيد، وربما يستطيع بعض رجال الأعمال أن يصبحوا من كبار الاقتصاديين وهم بلاشك لديهم من النباهة ما يكفي.
اسمحوا لي أن أبدأ بمثالين على القضايا الاقتصادية التي تَبيّن لي أن رجال الأعمال عموما لا يفهمونها. القضية الأولى هي العلاقة بين الصادرات وخلق فرص العمل، و القضية الثانية العلاقة بين الاستثمار الأجنبي والميزان التجاري. كلتا القضيتين على علاقة بالتجارة الدولية، ليس لمعرفتي الجيدة بها فحسب ولكن أيضا لكون التجارة الدولية هي المجال الذي يميل فيه رجال الأعمال للوقوع في خطأ قياس الدولة على الشركة.
الصادرات والوظائف
دائما ما يسيئ رجال الأعمال فهم أمرين حول العلاقة بين التجارة الدولية وخلق فرص العمل المحلية. أولا، بما أن معظم رجال الأعمال في الولايات المتحدة مع التجارة الحرة، فإنهم بشكل عام يجمعون على أن التجارة العالمية الموسعة مفيدة لمعدلات التوظيف العالمية. ويعتقدون على وجه التحديد أن اتفاقيات التجارة الحرة كالاتفاقية العامة التي تم التوصل لها مؤخرا بشأن التجارة والتعرفات الجمركية، يعتقدون أن هذه الاتفاقيات جيدة لأنها إلى حد كبير تعني المزيد من فرص العمل حول العالم. ثانيا، يميل رجال الأعمال إلى الاعتقاد بأن الدول تتنافس على تلك الوظائف معتقدين أنه كلما زادت صادرات الولايات المتحدة ازداد التوظيف، وأنه كلما زادت الواردات قلّت الوظائف المتاحة. ووفقا لهذا الرأي، فإنه لا يتعين على الولايات المتحدة أن تكون لديها اتفاقيات تجارة حرة فحسب بل يجب عليها أيضا أن تنافس بما يكفي للحصول على نسبة كبيرة من الوظائف التي تخلقها التجارة الحرة.
هل تبدو هذه المقترحات معقولة؟ بالتأكيد معقولة. وهذا النوع من الخطاب هيمن على انتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ومن المرجح أن نسمعه مرة أخرى في السباق القادم. ومع ذلك لا يعتقد الاقتصاديون عموما أن التجارة الحرة تخلق المزيد من فرص العمل على مستوى العالم ولا أن فوائدها يجب أن تقاس بناء على خلقها لفرص العمل، كما لا يعتقدون أن لدى البلدان ذات الصادرات العالية معدلات بطالة أدنى من البلدان التي تسجل عجزا تجاريا.
لم لا يتبنى الاقتصاديون هذه المقترحات التي يعتبرها رجال الأعمال مقترحات يمليها الحس السليم ؟ مسألة أن التجارة الحرة تعني المزيد من فرص العمل العالمية تبدو واضحة، فالمزيد من التجارة يعني المزيد من الصادرات، وبالتالي المزيد من فرص العمل المتعلقة بالتصدير. ولكن هناك مشكلة في هذا المقترح فصادرات بلد هي واردات بلد آخر، وكل دولار من مبيعات التصدير يقابله، بالحسابات الرياضية المجردة، دولار يُنفق من سلع البلد المستورد المحلية مقابل الواردات. ما لم يكن هناك دليل على أن التجارة الحرة تسهم في إجمالي الإنفاق العالمي – وهذه ليست نتيجة حتمية – فإن الطلب العالمي العام لن يتغير.
ولكن لنترك هذه الحسابات التي لا جدال فيها ونطرح السؤال التالي: ما الذي يحدد إجمالي الوظائف المتاحة؟ هل يحددها مجرد تناقص الطلب على السلع؟ قطعا لا، إلا في المدى القصير جدا. فزيادة الطلب مسألة سهلة على كل حال، حيث يستطيع البنك الاحتياطي الفيدرالي طباعة الكثير من الأموال كما يحلو له، وقد أثبت مرارا قدرته على خلق طفرة اقتصادية متى ما أراد ذلك. لكن لماذا لا يستمر الاحتياطي الفيدرالي في جعل الاقتصاد في حالة طفرة مستمرة؟ لأنه يعتقد، ولأسباب وجيهة، أنه لو فعل ذلك – أي ولّد وظائف أكثر من اللازم – فستكون النتيجة تضخما متسارعا وغير مقبول. بعبارة أخرى، ما يقيد عدد الوظائف في الولايات المتحدة ليس قدرة الاقتصاد الأمريكي على خلق الطلب على السلع، عبر الصادرات أو أي وسيلة أخرى، بل يحدده مستوى البطالة الذي يعتقد الاحتياطي الفيدرالي أن الاقتصاد بحاجة إليه من أجل إبقاء مستوى التضخم تحت السيطرة.
هذه ليست فكرة مجردة ففي العام ١٩٩٤م رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة سبع مرات، ولم يخف حقيقة أنه كان يفعل ذلك لتهدئة طفرة اقتصادية كان يُخشى أن تخلق وظائف أكثر من اللازم وتهز الاقتصاد وتؤدي إلى التضخم. حتى نتصور تأثير التجارة على نسب التوظيف لنفترض أن الاقتصاد الأمريكي يمر بفورة تصدير ولنفترض على سبيل المثال أن الولايات المتحدة وافقت على إسقاط اعتراضاتها بشأن السخرة في الصين إذا وافقت الأخيرة على شراء ما قيمته ٢٠٠ مليار دولار من البضائع الأمريكية. ماذا سيفعل الفيدرالي؟ سيخفف الأثر التوسعي للصادرات من خلال رفع أسعار الفائدة. وبالتالي فإن أي زيادة في الوظائف المتعلقة بالتصدير سيقابلها فقدان وظائف في القطاعات الاقتصادية المتأثرة بمعدلات الفائدة، كقطاع الإنشاءات مثلا. من جهة أخرى سيستجيب الاحتياطي الفيدرالي للزيادة في الواردات بخفض أسعار الفائدة، بحيث يضمن أن الوظائف المفقودة بسبب منافسة الواردات سيتسنى تعويضها بمزيد من الوظائف في أماكن أخرى.
لكن حتى لو تجاهلنا فكرة أن التجارة الحرة دائما تزيد من الواردات بقدر ما تزيد من الصادرات، فلا داعي لتوقع زيادة في معدلات التوظيف بالولايات المتحدة بفعل التجارة الحرة، بل لا ينبغي لنا أن نتوقع أن أي سياسة تجارية أخرى، كالترويج للصادرات مثلا، ستزيد من عدد الوظائف في اقتصادنا. عندما يعود وزير التجارة الأمريكى من رحلة خارجية بمليارات الدولارات على شكل طلبيات جديدة على بضائع الشركات الأمريكية، فهو بذلك قد ينجح وقد يخفق في خلق الآلاف من فرص العمل المتعلقة بالتصدير. لكن حتى لو نجح، سينجح أيضا في القضاء على العدد نفسه تقريبا من الوظائف في قطاعات اقتصادية أخرى. فقدرة الاقتصاد الأمريكي على زيادة الصادرات أو تقليل الواردات ليس لها أساسا أي علاقة بخلق فرص العمل.
غني عن البيان أن هذا الطرح لا يجد آذانا صاغية عند أهل التجارة. (فعندما قلت في منتدى للأعمال أن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية لن يكون له تأثير إيجابي أو سلبي على العدد الإجمالي للوظائف في الولايات المتحدة، رد علي أحد المتحدثين في المنتدى غاضبا – وهو من المؤيدين للاتفاقية – وقال: “إن مثل هذه التعليقات تفسر لنا سبب كراهية الناس للاقتصاديين”). زيادة الوظائف بسبب زيادة الصادرات أو خسارتها بسبب منافسة الواردات شيء ملموس. يمكننا فعليا رؤية الناس وهي تصنع البضائع التي يشتريها الأجانب، كما يمكننا رؤية العمال الذين تُغلق مصانعهم في وجوههم بسبب منافسة الواردات. تبدو الآثار الأخرى التي يتحدث عنها الاقتصاديون مجردة، ولكن طالما قبلنا فكرة أن لدى الاحتياطي الفيدرالي أهدافا بشأن الوظائف وهو يمتلك الوسيلة لتحقيقها، يتوجب علينا إذن أن نخلص إلى أن تأثير التغييرات في الصادرات والواردات على نسب التوظيف بصفة عامة لا يكاد يذكر.
الاستثمار والميزان التجاري
مثالنا الثاني – وهو العلاقة بين الاستثمار الأجنبي والميزان التجاري – مربك بالقدر نفسه لرجال الأعمال. لنفترض أن مئات من الشركات متعددة الجنسيات قررت أن أحد البلدان بلد مثالي للتصنيع وبدأت في ضخ المليارات من الدولارات سنويا في هذا البلد لبناء وحدات صناعية جديدة. ماذا يحصل للميزان التجاري لهذا البلد؟ رجال الأعمال تقريبا دون استثناء يرون أن هذا البلد سيبدأ في تحقيق فوائض تجارية ولن يقتنعوا عموما برأي الخبير الاقتصادي القائل بأن هذا البلد سيسجل بالضرورة عجزا تجاريا كبيرا.
من السهل معرفة منطق إجابة رجال الأعمال. فسيفكرون في شركاتهم الخاصة ويتسائلون ما الذي سيحصل لو توسعت فجأة الطاقة الإنتاجية لشركاتهم؟ من المؤكد أن شركاتهم ستستورد أقل وتصدر أكثر. ولو حصل نفس السيناريو في الكثير من القطاعات فالنتيجة حتما هي التحول نحو تحقيق فائض تجاري للاقتصاد ككل.
يرى الخبير الاقتصادي أن العكس هو الصحيح. لماذا؟ لأن الميزان التجاري جزء من ميزان المدفوعات، وإجمالي ميزان المدفوعات لأي دولة – الفرق بين إجمالي مبيعاتها للأجانب ومشترياتها منهم – يجب أن يكون دائما صفر.[1] لا شك أن أي بلد يمكن أن يسجل عجزا أو فائضا تجاريا، بمعنى أنه يمكن أن يشتري من الأجانب سلعا أكثر من تلك التي يبيعها والعكس بالعكس. ولكن هذا الاختلال يجب أن يقابله دائما اختلال مماثل في حساب رأس المال، فلابد أن البلد الذي يسجل عجزا تجاريا يبيع للأجانب أصولا أكثر مما يشتري منهم والذي يحقق فائضا تجاريا سيكون مستثمرا صافيا في الخارج. عندما تشتري الولايات المتحدة سيارات يابانية يتوجب عليها أن تبيع شيئا في المقابل، قد يكون ذلك طائرات بوينغ ، كما يمكن أن يكون مركز روكفلر أو أذون خزانة. هذا ليس مجرد رأي يتبناه الاقتصاديون بل حقيقة محاسبية لا مفر منها.
لكن ماذا يحدث عندما يجذب بلد ما الكثير من الاستثمارات الأجنبية؟ مع تدفق رؤوس الأموال يستحوذ الأجانب على أصول أكثر من تلك التي يستحوذ عليها سكان هذا البلد في الخارج. وبالاعتبارات المحاسبية البحتة ستتجاوز في الوقت نفسه واردات هذا البلد صادراته، والدولة التي تجذب تدفقات رأسمالية كبيرة ستسجل بالضرورة عجزا تجاريا.
ولكن هذه كلها حسابات مجردة، كيف يحصل ذلك على أرض الواقع؟ عندما تبني الشركات وحداتها ستقوم بشراء بعض المعدات المستوردة. قد تتسبب التدفقات الاستثمارية في طفرة محلية تؤدي بدورها إلى ارتفاع الطلب على الواردات. وإذا كان سعر الصرف في البلد عائما قد يرفع تدفق الاستثمار من قيمة العملة أما إذا كان سعر الصرف مثبتا فقد تكون النتيجة التضخم. كلتا الحالتين ستؤديان إلى المغالاة في أسعار بضائع البلد في أسواق التصدير وستؤديان إلى زيادة الواردات. إذن المحصلة النهائية على الميزان التجاري لاشك فيها فتدفق الرساميل سيؤدي حتما إلى العجز التجاري.
لننظر مثلا لما حصل للمكسيك حديثا. خلال الثمانينات لم يستثمر أحد في المكسيك وكانت حينها تحقق فائضا تجاريا. تدفقت بعد عام ١٩٨٩م الاستثمارات الأجنبية على المكسيك وسط حالة من التفاؤل بمستقبلها. أُنفقت بعض هذه الأموال على معدات مستوردة لمصانع المكسيك الجديدة والباقي أحدث طفرة محلية جلبت المزيد من الواردات وتسببت في رفع سعر البيزو المكسيكي على نحو متزايد. هذا بدوره أضعف الصادرات ودفع العديد من المستهلكين المكسيكيين لشراء السلع المستوردة. والمحصلة أن التدفقات الرأسمالية الضخمة قابلها كذلك عجز تجاري هائل.
أتت بعد ذلك أزمة البيزو في ديسمبر ١٩٩٤م. ومرة أخرى لم يحاول المستثمرون الدخول إلى المكسيك بل حاولوا الخروج منها، ثم حصل سيناريو معاكس. أدى تدهور الاقتصاد وانخفاض قيمة البيزو إلى تراجع الطلب على الواردات. ارتفعت في الوقت نفسه الصادرات المكسيكية بدفع من انخفاض قيمة العملة. وكما تنبأ الاقتصاديون، عُوّض انهيار الاستثمار الأجنبي في المكسيك بتسجيل فائض تجاري.
ولكن استنتاجنا المنطقي بأن جذب الاستثمار الأجنبي عادة ما يتسبب في تسجل عجز تجاري، لا يروق لأهل التجارة، تماما كما هو الحال مع فكرة أن توسيع الصادرات لا يعني المزيد من فرص العمل. فالكيفية التي من خلالها يؤثر الاستثمار الأجنبي سلبا على حالة الميزان التجاري تبدو بالنسبة لهم مشكوكا في أمرها. هل فعلا سينفق المستثمرون الكثير على المعدات المستوردة؟ كيف نعرف أن العملة سترتفع وإذا ارتفعت كيف نعرف أن الصادرات ستنخفض وأن الواردات سترتفع؟ والسبب الأساسي لشك رجال الأعمال هو عدم فهمهم للأثر المحاسبي القوي الذي يقول أن تدفق رؤوس الأموال يصحبه حتما وليس احتمالا عجز تجاري.
في كلا المثالين المذكورين أعلاه، مامن شك أن الاقتصاديين على حق وأن رجال الأعمال مخطئون. ولكن ما السبب في أن الحجج التي يجدها الاقتصاديون مقنعة تبدو لرجال الأعمال غير معقولة بل منافية للبديهة؟
ثمة إجابتان لهذا السؤال. إجابة سطحية مفادها أن رجال الأعمال لا تعلمهم تجاربهم في حياة التجارة البحث عن المبادئ الكامنة وراء آراء الاقتصاديين. والإجابة الأعمق هي أن أنواع ردود الأفعال التي تظهر عادة في مشروع تجاري بمفرده أضعف من تلك التي تظهر في الاقتصاد بأكمله ومختلفة عنها أيضا. اسمحوا لي بتحليل هاتين الإجاباتين الواحدة تلو الأخرى.
قصة الحريشة العاجزة عن الحركة
يكتب أحيانا رجال الأعمال الناجحون كتبا عما تعلموه. بعض هذه الكتب مذكرات يروي فيها رجل الأعمال قصة حياته العملية من خلال الحكايات والنوادر. البعض الآخر كتب يُبذل فيها جهدٌ طموح لوصف المبادئ التي ساهمت في نجاح هذا الشخص العظيم.
تقريبا بلا استثناء يُعتير النوع الأول من هذه الكتب أنجح بكثير من النوع الثاني ليس فقط من حيث المبيعات ولكن أيضا من حيث تلقي هذا النوع من الكتب من طرف المفكرين الجادين. لماذا؟ لأن رئيس الشركة لا ينجح من خلال تطوير نظرية عامة للشركة بل من خلال حديثه عن استراتيجيات إنتاجية محددة أو ابتكارات تنظيمية أعطت النتائج المرجوة. حاول بعض عمالقة التجارة تدوين ماتعلموه لكن محاولاتهم كانت على الأغلب مخيبة للآمال. لم يعط كتاب جورج سوروس قارئه إلا القليل عن كيفية ظهور جورج سوروس آخر. كما أشار كثير من الناس إلى أن وارن بافيت لا يستثمر على أرض الواقع بطريقة وارن بافيت المشهورة. أرباب الأموال على كل حال لا يحققون ثرواتهم من خلال الجهر بالمبادئ العامة للأسواق المالية بل من خلال إدراكهم قبل غيرهم لفرص محددة للغاية.
والحق أن كبار التنفيذيين سيلحقون الضرر بأنفسهم لو حاولوا تقنين ما يفعلونه وتدوينه على شكل مجموعة من المبادئ. حينها سيبدؤون في التصرف بالطريقة التي يعتقدون أنها هي المفترضة فيما كانت نجاحاتهم مبنية على الحدس والاستعداد للابتكار. يذكرنا هذا بالنكتة القديمة عن الحريشة التي سُئلت كيف تستطيع أن تنسق بين أرجلها المائة عند المشي وحين استغرقت في التفكيرلم تعد تعرف كيف تمشي بشكل صحيح.
قد يقول قائل أنه حتى لو كان رجال الاعمال لا يجيدون صياغة النظريات العامة أو شرح ما يفعلونه، إلا أن إمكانياتهم في اقتناص الفرص وحل المشاكل في مشاريعهم الخاصة يمكن تطبيقها على الاقتصاد الوطني. ولكن ما يحتاجه رئيس الولايات المتحدة من مستشاريه الاقتصاديين ليس سعة الاطلاع بل المشورة السليمة حول ما يجب القيام به مستقبلا. لماذا ليس من الوارد أن شخصا كان تقديره للأمور جيدا في إدارة تجارته يمكن أن يقدم المشورة السليمة للرئيس في إدارة البلاد؟ باختصار لأن الدولة ليست شركة كبيرة.
يجد كثير من الناس صعوبة في استيعاب الفرق الكبير بين تعقيد الاقتصاد الوطني وتعقيد أكبر مؤسسة تجارية. يوظف الاقتصاد الأمريكي ١٢٠ مليون شخصا أي ما يعادل حوالي ٢٠٠ ضعف العدد الذي توظفه جنرال موتورز، أكبر مشغل في الولايات المتحدة. بل حتى نسبة الـ ٢٠٠ إلى ١ هذه تحط إلى حد كبير من قدر الفرق الهائل في التعقيد بين الاقتصاد الوطني وأكبر المؤسسات التجارية. لو سألنا عالم رياضيات فسيخبرنا أن عدد التفاعلات المحتملة بين مجموعة كبيرة من الناس يتناسب مع مربع عددهم. لن أبالغ في التخرصات لكني أرجح أن الاقتصاد الأمريكي أعقد من أكبر شركة ليس بمئات بل بعشرات آلاف المرات.
علاوة على ذلك حتى الشركات الكبيرة جدا ليس بها ذلك التنوع فمعظم الشركات تبنى على كفاءة أساسية كتقنية معينة أو توجه لنوع معين من الأسواق. وبالتالي فإنه حتى الشركة العملاقة التي تعمل في مشاريع مختلفة يمكن توحيدها على أساس نشاطها المركزي.
على العكس من ذلك فالاقتصاد الأمريكي كابوس ثقيل من التكتلات بعشرات الآلاف من الأعمال التجارية المتباينة التي لا يوحدها أبدا إلا وجودها في نطاق حدود البلد. خبرة مزارع القمح الناجح ليس بها إلا قدر محدود من البصيرة بما يمكن أن يجدي نفعا في صناعة الحواسيب، ولن تقدم كبير قدر من التوجيه بشأن الاستراتيجيات الناجحة لسلسلة من المطاعم.
كيف يمكن، إذن، إدارة مثل هذا الكيان المعقد؟ الاقتصاد الوطني يدار وفق أسس ومبادئ عامة لا وفق استراتيجيات خاصة. خذ مثلا مسألة السياسة الضريبية. الحكومات المسؤولة لا تفرض ضرائب تستهدف أفراد أو شركات على وجه الخصوص ولا تعطي إعفاءات ضريبية خاصة. وليس من الجيد في الواقع إلا في حدود ضيقة أن تضع الحكومات سياسات ضريبية تهدف إلى تشجيع أو تثبيط قطاع معين. عوضا عن ذلك، يتبع النظام الضريبي الجيد مبادئ عامة يضعها الخبراء الماليون على مر السنين، ومن هذه المبادئ مثلا الحياد بين الاستثمارات البديلة، والهوامش الربحية المنخفضة، والحد الأدنى من التمييز بين الاستهلاك الحالي والمستقبلي.
لماذا يُشكِل هذا على رجال الأعمال؟ فهناك العديد من المبادئ العامة التي تقوم عليها الإدارة السليمة للشركة والدولة: الالتزام بالمحاسبة، والتوزيع الواضح للمسؤولية، وما إلى ذلك. غير أن العديد من رجال الأعمال يجدون صعوبة في قبول الدور الخارجي لخبراء صناعة السياسة الاقتصادية. يتعين على رجال الأعمال أن يكونوا استباقيين ويصعب على من تعود على مثل هذا الدور أن يدرك مدى صعوبة وعدم أهمية هذا النهج في السياسة الاقتصادية الوطنية. لننظر مثلا إلى مسألة تطوير مجالات الأعمال الرئيسية. وحده الرئيس التنفيذي غير المسؤول الذي لا يحاول معرفة أي المجالات الجديدة المهمة لمستقبل الشركة. والرئيس التنفيذي الذي يترك كامل القرارات الاستثمارية للأفراد الذين يديرون مراكز ربحية مستقلة رئيس لا يقوم بواجبات منصبه. فهل ينبغي للحكومة أن تحدد قائمة بالصناعات الرئيسية ثم تقوم بتعزيزها بفعالية؟ بصرف النظر عن آراء الاقتصاديين النظرية ضد استهداف القطاعات، إلا أن أبسط الحقائق تشير إلى أن لدى الحكومات سجلا شائنا في تنبؤاتها بشأن الصناعات الواعدة. لطالما كانت الحكومات على يقين أن حديد الصلب والطاقة النووية والوقود الاصطناعي وذاكرات أشباه الموصلات وحواسيب الجيل الخامس ستكون صناعات المستقبل. لاشك أن رجال الأعمال يخطئون كذلك لكن سجلهم أنظف من سجل الحكومات وسبب ذلك أن لديهم حسا ومعرفة مفصلة بصناعاتهم لا يمكن لأحد مهما بلغ ذكاؤه أن يكون لديه نفس الحس والمعرفة المفصلة عن نظام معقد كالاقتصاد الوطني. ومع ذلك فبالنسبة لرجال الأعمال الذين تعودوا على مبدأ “شمر عن ساعديك وابدأ العمل” لا معنى للمبدأ القائل بأن الإدارة الاقتصادية الأمثل في الغالب عبارة عن وضع إطارعام جيد وتركه يعمل لوحده.
العودة إلى مقاعد الدراسة
في عالم العلم، هناك متلازمة تعرف باسم “مرض الرجل العظيم” تطلق حين يدلي عالم شهير في حقل معين بآراء قوية في حقل آخر لا يفهمه، مثل أن ينصّب كيميائي نفسه خبيرا في الطب أو ينصّب عالم فيزياء نفسه خبيرا في العلوم الإدراكية. تظهر نفس المتلازمة على بعض رجال الأعمال الذين يُعيّنون مستشارين اقتصاديين فهؤلاء يجدون صعوبة في قبول أنهم تلزمهم العودة إلى مقاعد الدراسة قبل أن يتمكنوا من الإدلاء بآرائهم في المجال الجديد.
إن المبادئ العامة التي يدار عليها الاقتصاد ليس من الصعب فهمها لكنها تختلف عن تلك المبادئ التي تصلح للأعمال التجارية. إذا كان التنفيذي يجيد المحاسبة التجارية فليس معنى ذلك أنه يعرف تلقائيا كيفية قراءة حسابات الدخل القومي التي تقيس أشياء مختلفة وتستخدم مفاهيم مختلفة. إدارة شؤون الموظفين ونظام العمل والعمال ليسا نفس الشيء. وقس على ذلك الرقابة المالية للشركات والسياسة النقدية للدولة. يجب على رجل الأعمال الذي يرغب في أن يصبح مديرا أو خبيرا اقتصاديا أن يتعلم مفردات ومفاهيم جديدة، وبالضرورة بعض هذه المفردات والمفاهيم رياضية.
هذا شيء يصعب على رجال الأعمال قبوله خاصة من كان منهم ناجحا. تخيلوا شخصا برع في صناعة ضخمة معقدة وأدار مؤسسة بمليارات الدولارات، هل من المرجح أن مثل هذا الشخص لو طلبت منه المشورة بشأن السياسة الاقتصادية، سيقرر قضاء وقت لمراجعة ذلك النوع من المواد الذي يُدرّس لطلبة الاقتصاد المستجدين؟ أم سيفترض أن خبرته في الأعمال التجارية أكثر من كافية وأن الكلمات والمفاهيم غير المألوفة التي يستخدمها الاقتصاديون ليست سوى مصطلحات جوفاء؟
رغم الأمثلة التي ضربتها سابقا إلا أن العديد من القراء سيظلون يعتقدون أن الاستجابة الثانية هي الأرجح. لماذا يتطلب التحليل الاقتصادي مفاهيم مختلفة، وطريقة تفكيرمختلفة تماما عن تلك التي تحتاجها إدارة الأعمال؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن أنتقل إلى الفرق الأعمق بين التفكير التجاري الجيد والتحليل الاقتصادي الجيد.
الفرق الجوهري بين استراتيجيات الأعمال والتحليل الاقتصادي هو التالي: أن الشركات حتى الكبيرة منها تعتبر نظما مفتوحة بينما الاقتصاد الأمريكي على الرغم من التجارة العالمية المتنامية يبقى إلى حد كبير نظاما مغلقا. رجال الأعمال ليسوا معتادين على التفكير في النظام المغلق أما خبراء الاقتصاد فقد اعتادوا على ذلك.
دعوني أقدم لكم بعض الأمثلة غير الاقتصادية لتوضيح الفرق بين النظم المغلقة والنظم المفتوحة. لننظر إلى النفايات الصلبة. كل عام، ينتج المواطن الأمريكي حوالي نصف طن من النفايات الصلبة التي لا يمكن إعادة تدويرها ولا حرقها. فماذا يحدث لها؟ في العديد من التجمعات السكانية، يتم إرسالها إلى أماكن أخرى. المدينة التي أسكن فيها تلزم كافة السكان بالاشتراك في خدمة لجمع النفايات ولاتوفر مكبّا لها. تدفع المدينة رسوما لمدن أخرى نظير تفريغ قمامتنا لديهم. وهذا يعني أن رسوم تحصيل القمامة أعلى مما لو خصصت المدينة مكبا للنفايات لكن حكومة المدينة ذهبت لهذا الخيار لأنها على استعداد لدفع الرسوم مقابل ألا يكون في حدودها مكب نفايات قبيح المنظر.
هذا خيار يمكن لكل مدينة أن تأخذ به ولكن هل يمكن أن تأخذ به كل مدن ومقاطعات الولايات المتحدة؟ هل يمكننا كلنا أن نقرر إرسال قماماتنا إلى مكان آخر؟ بالطبع لا (مع استثناء إمكانية تصدير النفايات إلى العالم الثالث). بالنسبة للولايات المتحدة بأكملها ينطبق عليها حرفيا مبدأ “قمامة بالداخل أو قمامة بالخارج”. بإمكان كل بلدة اختيار مكان دفن النفايات الصلبة لكن ليس لها أن تختار في مسألة الدفن من عدمها. وهكذا بالنسبة لدفن النفايات الصلبة تعتبر الولايات المتحدة تقريبا نظاما مغلقا أما كل مدينة فهي نظام مفتوح.
هذا مثال بالغ الوضوح. وهنا آخر ربما أقل وضوحا. في مرحلة من حياتي كنت أوقف سيارتي كل صباح في أحد مواقف السيارات ثم أذهب إلى عملي في وسط المدينة مستقلا وسيلة نقل عامة. لم يكن موقف السيارات كبيرا وكان على الدوام يمتلئ مما يضطر المتأخرين من المداومين للذهاب إلى أعمالهم بالسيارة. سرعان ما اكتشفت أنني أستطيع أن أجد موقفا لو وصلت قبل حوالي الساعة ٠٨:٣٠ صباحا.
في هذه الحالة، يشكّل كل فرد من الذاهبين إلى أعمالهم نظاما مفتوحا فهو يمكنه الحصول على موقف لسيارته بوصوله مبكرا. ولكن هذا لا ينطبق على مجموع الركاب فلو حاول الجميع الحصول على موقف بالوصول مبكرا لامتلأ موقف السيارات في وقت مبكر! يشكّل مجموع الركاب نظاما مغلقا فيما يتعلق بمواقف السيارات.
ما علاقة هذا بجدلية التجارة والاقتصاد؟ الشركات حتى الكبيرة جدا منها هي على العموم أنظمة مفتوحة، حيث يمكنها على سبيل المثال أن تزيد من الموظفين في جميع الأقسام في الوقت نفسه، ويمكنها زيادة الاستثمار في جميع المجالات والسعي لحصة أكبر في جميع الأسواق. لكن من المسلم به أن حدود المؤسسة ليست مفتوحة على الآخر فقد تجد الشركة صعوبة في التوسع بسرعة لأنه لا يمكنها اجتذاب العمال المناسبين بالسرعة الكافية أو لأنها غير قادرة على توفير رأس المال الكافي. وكذلك قد تجد المؤسسة صعوبة في التقليص لعدم رغبتها في الاستغناء عن الموظفين المتميزين. لكننا لا نجد غرابة في أن شركة تضاعفت حصتها السوقية أو تقلصت إلى النصف في غضون بضع سنوات.
أما الاقتصاد الوطني فهو على النقيض من ذلك نظام مغلق لاسيما في بلد كبير جدا كالولايات المتحدة. هل يمكن لجميع الشركات الأمريكية مضاعفة حصصها السوقية في غضون العشر سنوات القادمة؟ [2] قطعا لا، حتى لو تطورت إداراتها، ولسبب واحد أنه رغم نمو التجارة العالمية إلا أن ٧٠٪ من فرص العمل والقيمة المضافة في الولايات المتحدة موجودة في قطاعات مثل التجزئة التي ليس فيها تصدير ولا منافسة من الواردات. في مثل هذه القطاعات كل شركة تزيد حصتها فقط على حساب الأخرى.
في القطاعات التي تدخل في التجارة العالمية، تستطيع الشركات الأمريكية كمجموعة زيادة حصتها في السوق، ولكن يجب أن تقوم بذلك إما عن طريق زيادة الصادرات أو بخفض الواردات. وهكذا فإن أي زيادة في الحصة السوقية تعني خطوة في اتجاه الفائض التجاري، فالدولة التي تحقق فائضا تجاريا هي دولة مصدرة لرأس مالها بالضرورة. والحسابات البسيطة تفيدنا أنه لو أن متوسط الشركات الأمريكية وسعت حصتها من السوق العالمية بما لا يزيد عن ٥٪ فإن الولايات المتحدة والتي تعتبر حاليا مستوردا صافيا لرؤوس الأموال من بقية دوال العالم ستتحول إلى مصدر صاف لرأس المال على نحو لم يسبق له مثيل. إذا كنت تظن أن هذا السيناريو لا يمكن تصديقه يتعين عليك أن تصدق أيضا أن الشركات الأمريكية مجتمعة لا يمكنها زيادة حصتها السوقية أكثر من نقطة أو نقطتين مئوية، مهما بلغت جودة إدارتها.
يجد رجال الأعمال صعوبة في التحليل الاقتصادي لأنهم اعتادوا على التفكير في النظم المفتوحة. بالعودة إلى محور نقاشنا فإن رجل الأعمال ينظر إلى فرص العمل التي تخلقها الصادرات باعتبارها الجزء الأهم في القصة، قد يعترف بأن الزيادة في فرص العمل تؤدي إلى ارتفاع في معدلات الفائدة، لكنها مسألة هامشية وليست في حكم المؤكد. أما الخبير الاقتصادي فإنه يرى التوظيف نظاما مغلقا، ويعتبر العمال الذين يستفيدون من الوظائف الناشئة عن زيادة الصادرات كالمداومين الذين يضمنون أماكن لسياراتهم بوصولهم مبكرا إلى موقف السيارات فهم يحصلون على وظائفهم على حساب آخرين.
لكن ماذا عن تأثير الاستثمار الأجنبي على الميزان التجاري؟ مرة أخرى، ينظر التنفيذيون إلى الآثار المباشرة للاستثمار على المنافسة في قطاع أو صناعة بعينها أما آثار تدفقات رأس المال على أسعار الصرف والأسعار وغير ذلك فلا تبدو لهم شيئا موثوقا أو ذا أهمية خاصة. أما الخبير الاقتصادي فهو على يقين أن أن ميزان المدفوعات نظام مغلق، وأن تدفقات رؤوس الأموال يقابلها على الدوام عجز في الميزان التجاري ولذا فإن أي زيادة في هذه التدفقات تترتب عليها زيادة في العجز.
ردود الأفعال في عالم الأعمال والاقتصاد
هناك طريقة أخرى لملاحظة الفرق بين الشركات والاقتصادات قد تساعد بدورها في شرح أسباب أخطاء كبار التنفيذيين في الاقتصاد ورواج بعض الأفكار الاقتصادية لديهم دون غيرها: أنواع ردود الأفعال التي تشهدها النظم المفتوحة كالشركات تختلف عن تلك المرتبطة بالنظم المغلقة كالاقتصادات.
يحسن تفسير هذا المفهوم بضرب مثال افتراضي. تخيلوا أن لدى شركة خطي أعمال رئيسيين: القطع والأدوات مثلا. ولنفترض أن هذه الشركة تمر بنمو غير متوقع في مبيعات القطع. كيف سيؤثر هذا النمو على مبيعات الشركة بأكملها؟ هل زيادة مبيعات القطع ستنفع أم تضربتجارة الأدوات؟ في كثير من الأحيان سيكون الجواب أنه لن يكون هناك كبير أثر لا بالنفع ولا بالضرر فقسم القطع سيوظف المزيد من العمال وسيزداد رأس مال الشركة وسينتهي الأمر عند ذلك.
بطبيعة الحال لا ينتهي الأمر بالضرورة عند هذا الحد فتوسع مبيعات القطع قد ينفع تجارة الأدوات أو يلحق الضرر بها من جوانب عدة. من ناحية قد تساعد تجارة القطع المربحة في توفير تدفقات نقدية لتمويل التوسع في الأدوات، كما أن الخبرات المكتسبة من نجاحات نشاط القطع يمكن نقلها إلى نشاط الأدوات، وقد يسمح نمو الشركة بمزيد من الأبحاث والتطوير التي ستعود بالنفع على كلا القسمين. ومن الناحية الأخرى قد يضغط التوسع السريع على موارد الشركة بحيث يكون نمو القطع إلى حد ما على حساب نمو الأدوات. لكن مثل هذه الأثار غير المباشرة لنمو أحد اجزاء الشركة على نجاح القسم الآخر أو نجاح كلا القسمين آثار غامضة في الأصل ويصعب كذلك الحكم عليها على أرض الواقع. إن خطوط الإنتاج سواء كانت خطوطا متكاملة أومتنافسة عادة ما تكون تأثيراتها على بعضها مراوغة.
لكن لننظر إلى اقتصاد وطني يشهد نموا سريعا في أحد قطاعاته. لو زاد هذا القطاع من فرص العمل فسيكون ذلك على حساب قطاعات أخرى. إن لم تخفِّض الدولة من تدفقاتها النقدية في الوقت نفسه فإن الزيادة في صادرات معينة سيقابلها انخفاض في صادرات أخرى أو زيادة في الواردات بسبب حسابات ميزان المدفوعات التي نوقشت آنفا. بمعنى أنه من المرجح أن تنجم عن نمو تلك الصادرات آثار سلبية قوية على فرص العمل وصادرات القطاعات الأخرى. وستكون هذه الآثار السلبية من القوة بمكان بحيث تقضي تماما على أي تحسنات في إجمالي الوظائف وميزان المدفوعات. لماذا؟ لأن التوظيف وميزان المدفوعات نظامان مغلقان.
في عالم الأعمال ذي النظم المفتوحة غالبا ما تكون الآثار الناجمة ضعيفة وغير مؤكدة، أما في نظم الاقتصاد المغلقة فغالبا ما تكون الآثار قوية ومؤكدة. ليس هذا فحسب بل إن الآثار في عالم الأعمال إيجابية غالبا؛ أما في عالم السياسة الاقتصادية فهي غالبا وليس دائما سلبية.
مرة أخرى، لنقارن آثار توسع نشاط تجاري على الشركة وعلى الاقتصاد الوطني. يساعد النجاح في نشاط تجاري معين لشركة في توسيع قاعدتها المالية والتقنية والتسويقية ويعود بالنفع في الغالب على توسع الأنشطة التجارية الأخرى. أي أنه إذا تحسنت شركة في نطاق معين فإنها ستوظف المزيد في النطاقات الأخرى. أما الاقتصاد الذي ينتج ويبيع سلعا عديدة فسيشهد آثارا سلبية في القطاعات الأخرى وسيسحب التوسع في صناعة معينة رساميل وموارد وعمال من الصناعات الأخرى.
في الواقع ثمة آثار إيجابية على الاقتصاد. هذه الآثار غالبا ما تكون واضحة في قطاع معين أو مجموعة معينة من القطاعات المترابطة، خاصة إذا كانت هذه القطاعات متركزة جغرافيا. فظهور لندن مثلا كمركز مالي أو ظهور هوليوود باعتبارها مركز ترفيه يشكلان على نحو واضح أمثلة حية على الآثار الإيجابية. لكن مع ذلك تظل هذه الأمثلة محدودة بمناطق جغرافية او صناعات معينة. أما على مستوى الاقتصاد الوطني فالآثار السلبية هي التي تسود. والسبب واضح: إن منطقة بعينها أو صناعة بعينها تعتبر نظاما مفتوحا على نحو أكبر بكثير إذا ما قورنت باقتصاد الولايات المتحدة ككل، ناهيك عن الاقتصاد العالمي. قد تجذب صناعة معينة أو مجموعة من الصناعات عمالا من قطاعات اقتصادية فإذا تحسن قطاع بعينه تزداد فرص العمل في هذه القطاع وفي القطاعات ذات الصلة التي قد تسهم في تعزيز نجاح القطاع الأول، وهكذا دواليك. وبالتالي عندما ننظر إلى مجمع صناعي معين نرى آثار إيجابية ملموسة أما على صعيد الاقتصاد بأكمله فتلك الآثار الإيجابية الموضعية تقابلها أخى سلبية على اصعدة أخرى، والموارد التي تنجذب إلى إحدى الصناعات أو التكلات الصناعية لابد أنها جاءت من مكان آخر أي صناعات أخرى.
رجال الأعمال ليسوا معتادين على فهم النظم ذات الآثار السلبية القوية، ولا يفهمون على الإطلاق كيف أن الآثار التي تبدو ضعيفة وغير مؤكدة في سياق شركة أو صناعة بعينها – كتأثير انخفاض التوظيف على متوسط الأجور أو تأثير زيادة الاستثمار الأجنبي على أسعار الصرف – كيف أن هذه الآثار تصبح في غاية الأهمية عندما يحسب الأثر الإجمالي لتلك السياسات على مجمل الاقتصاد الوطني.
ماذا يتوجب على الرئيس؟
في المجتمعات التي تحترم نجاح الأعمال يطلب القادة السيسايون مشورة كبار رجال الأعمال حول العديد من القضايا، ويحق لهم ذلك، خاصة في القضايا التي لها علاقة بالأموال. كل ما نأمله أن المستشار والمستشير يملكان الحس الصحيح لما يمكن أن تعلمنا إياه الأعمال التجارية الناجحة بشأن السياسة الاقتصادية.
حينما انزلق العالم إلى الكساد في العام ١٩٣٠م دعا جون كينز إلى توسع نقدي شامل للتخفيف من حدة الأزمة وطالب بسياسة تقوم على التحليل الاقتصادي بدلا من التركيز على نصائح المصرفيين الملتزمين بغطاء الذهب أو المصنّعين الذين يريدون رفع الأسعار عن طريق تقييد الإنتاج. “لكن الاقتصاد علم تقني وصعب ولا أحد يصدقه”.[3] ولو سُمعت نصيحة كينز لتم تفادي أسوأ ويلات الكساد.
كان كينز محقا فالاقتصاد علم تقني وصعب. وليس أصعب من أن تكون اقتصاديا جيدا إلا أن تكون تنفيذيا جيدا. في الحقيقة من الأسهل أن تصبح اقتصاديا ربما لأن المنافسة أقل حدة. ومع ذلك، فالاقتصاد والتجارة ليستا نفس الشيء وإتقان أحدهما لا يعني فهم الآخر فضلا عن إتقانه. وفرصة أن يكون رجل الأعمال الناجح خبيرا في الاستراتيجية العسكرية أوفر منها في الاقتصاد.
إذا سمعت في المرة القادمة رجال الأعمال يقدمون رؤاهم حول الاقتصاد فاسأل نفسك: هل قضوا وقتا لدراسة هذا العلم؟ هل قرأوا ما يكتبه الخبراء؟ إن لم يكن ذلك فلا تعبأ بمدى نجاحاتهم في تجارتهم. تجاهلهم، لأنهم ربما ليس لديهم أي فكرة عما يتحدثون عنه.
المصدر A Country Is Not a Company (hbr.org)
—
[1] هناك في الواقع مؤهلان فنيان لهذه العبارة. أحدهما مرتبط بما يعرف باسم “التحويلات بدون مقابل”: الهدايا، والمساعدات الخارجية، وهلم جرا. أما الآخر فيتضمن الأرباح ومدفوعات الفائدة من الاستثمارات السابقة. وهذه المؤهلات لا تغير من الفكرة الرئيسية.
[2] على وجه الدقة، ينبغي الحديث عن الشركات التي تنتج في الولايات المتحدة. وبالتأكيد بإمكان الشركات التي مقرها في الولايات المتحدة زيادة حصتها في السوق العالمية من خلال الاتحواذ على شركات تابعة أجنبية.
[3] “الكساد العظيم لعام ١٩٣٠م”، أعيد طبعه في مقالات في الإقناع (نيويورك: نورتون، ١٩٦٣).