بقلم د. إبراهيم عبد الله المنيف (رحمه الله)
لم تعد الأمور بهذه البساطة، وهذا التسطيح الأكاديمي، أو الفكر العقلاني، أو المنطقي للأسباب والنتائج التي أوضحناها للمشتركين، في البحث المرفق بهذه المجلة لعدد شهر يناير “37” حول الإدارة الإبتكارية، فالتفكير الجانبي والخلاق والعاصفي، أصبح استخدامهم أكثر فعالية في هذا العصر، بالمقارنة مع أنماط التفكير العقلاني أو المنطقي، ويعود ذلك برأينا لأسباب عدة، أهمها أن الاعتبارات الاقتصادية قد أصبحت مُركبة، وكذلك الحال بالنسبة للاعتبارات الاجتماعية والسياسية، فيمن يُطلق عليه اليوم بالرجعية المركبة من قِبل النُخبة، والتي دخلت مرحلة التيه من حيثُ القيم والأعراف والعادات والمسلمات.
إن المبادئ التي لا تتجزأ قد تغيرت مفاهيمها، والافتراضات التي لا نقاش عليها قد أصبحت مركبة وقابلة للشك في مسلماتها، إننا باختصار قد دخلنا هذه المرحلة المركبة، ونحن غير قادرين ومؤهلين لخوض غمارها، ومقابلة تحدياتها.
عندما ظهر مفهوم التنمية قبل عدة عقود في الغرب، استوردناه، من خلال النقل والترجمة والتعريب، إلى أن أصبحنا قادرين علا استيعاب افتراضاته، خاصة ذلك الافتراض الذي يؤكد أن لا تنمية إلا بتوفر القرة، والتي لا يمكن أن يتم بناؤها وتجذيرها خلال عقد أو عقدين إلا بالإسراع والتسريع نحو اللحاق بركب التنمية، فالقدرة والتأهيل والخبرة التراكمية والتبادلية، لا يمكن لها أن تنمو وتترعرع إلا انبثاقاً من عمق الوطن “من الداخل”، على سواعد أبناء الوطن، ومن خلال الابتكار والإبداع المؤسسين على القدرة.
لقد أتضح لنا أن بناء مستشفى لا يعني شيئاً، ما لم تتوافر وبشكل مصاحب، الكوادر المؤهلة والقادرة على إدارته وتشغيله، أي توفر التأهيل والخبرة التراكمية والتبادلية المعتمدة على الذات.
قبل شهرين، وافقت تحت تأثير ضغط مارسه أحد الزملاء، على القيام بإدارة حلقة تدريبية لمجموعة خيرة من المديرين التنفيذيين لشركات ومؤسسات وهيئات وطنية حول الإستراتيجية الإدارية، وذلك بعد غيابي لمدة عقدين من الزمن عن التدريب الإداري للإدارة العليا.
فوجئت وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية، ولمدة خمس ساعات يومياً من التدريب المستدام، بالرغبة الجامحة لهذه المجموعة الطموحة، في الوصول إلى جوهر هذه المعرفة المتخصصة، كما أدهشني سعة الثغرة المعرفية التي يعانون منها رغماً عن وصولهم إلى هذه المناصب القيادية، واستشعرت من خلال أسئلتهم واستفساراتهم، رغبة مكبوتة في الحديث عن الأساليب والإجراءات والتكتيك التنفيذي لأدنى قاعدة الهرم التنظيمي، والذي لا يمت بصلة إلى الإستراتيجية الإدارية، وكأن حالهم يقول ونما إفصاح، بأنهم يريدون شيئاً ملموساً، واقعياً، ومثالاً حياً، ووسائل ميكانيكية توصلهم إلى حلول لمشاكل آنية مستعصية عليهم.
لقد كانت رغبتي، كمحاضر ومحاور، أن أوصلهم إلى قناعة غير قابلة للنقض، بأن الإستراتيجية هي فكر إبداعي خلاق في تحديد اتجاه الشركة طويل الأجل، أي لما يزيد عن العشر سنوات، وطريق ذلك الفكر الإبداعي الخلاق في ابتكار أهداف طموحة طويلة الأجل، بعد دراسة وتمحيص وجهود مضنية، لتحليل الاعتبارات البيئية من اقتصادية واجتماعية وسياسية وتقنية، والأهم من ذلك تحديد قوة الدفع المتوفرة حالياً للشركة للوصول إلى هذا الاتجاه الطويل الأجل.
لقد كان الفرق في الرؤيا بيني وبينهم “أي مجموعة المتدربين” كبيراً جداً، فهم على قناعة بجدوى الجلسات التدريبية المركزة والقصيرة كحل فعال لسد الثغرة المعرفية لديهم، والحل في نظري يكمُن في التوجه لبناء القدرة من خلال القراءة والتعلم الذاتي المستدام، تلك هي توصيتي الأخيرة لهم، والتي آمل أنهم قبلوها ومارسوها لاحقاً، فالقراءة والتعلم الذاتي المستدام هي الضامن الأول لإطلاق التفكير الاستراتيجي من عقاله.
لسنا هنا في مجال الغوص في نظرية المؤامرة، ولا يمكن لنا أن نواصل البحث عن شماعة نعلق عليها نقص القدرات في عالمنا العربي من الناحية الإدارية، فالعالم بأسره قد استفاد بتسارع كبير من اقتصاديات المعرفة وتقنية المعلومات، وتمكنوا من التعامل بفعالية مع الإبداع والابتكار اللازمين للاقتصاد المركب، أما نحن فلا زلنا حتى اللحظة غير قادرين على الاعتراف بأن نُظمنا الاقتصادية والإدارية والاجتماعية غير مؤهلة للحصول على هذه القدرة والتأهيل لممارسة العملية الإدارية المعاصرة، وهي كذلك “أي نُظمنا العربية” غير قادرة على استيعاب الجوانب والاعتبارات المركبة، للخصخصة والعولمة والحوكمة، وبلا سخرية فربما لا نعرف حتى ما تعنيه مثل تلك المصطلحات.
لا شك لديَّ أبداً، أن الإدارة في دول العالم المتقدم والصاعد، قد تمرست على الاعتراف بالنقص والخلل، كخطوة أولى لا سبيل إلى الفرار منها لتحقيق الإصلاح، فهذه أمريكا، تعترف قبل عقدين من الزمن، بهزيمتها الإدارية والاقتصادية أمام اليابان ودول شرق آسيا، ولا زالت تعترف بذلك حتى اللحظة، وتخشى أكثر ما تخشى اليابان، التي نافستها في عُقر دارها بمنتجات كانت من صميم التخصص والاحتكار الأمريكي، وليس فقط في اكتساب جزء من حصتهم العالمية. وقصة الاعتراف ابتدأت، حينما بادرت النُخب الاقتصادية والسياسية والأكاديمية في أمريكا، بالبحث والتمحيص حول أسباب الإخفاق في النهايات الطرفية، أي في الأسواق، وقادهم البحث إلى اكتشاف أنهم وبقدر تميزهم في التنفيذ، إلا أنهم فاشلين في التخطيط الاستراتيجي طويل الأجل. وعملوا في التصحيح انطلاقاً من هذه الركيزة، وعلى مدى عشرين عاماً متصلة، ولا زالوا يواصلون العمل دونما كلل لسد الفجوة الإستراتيجية بينهم وبين اليابان، ودول شرق آسيا مجتمعة، والصين خصمهم الأحدث الصاعد بقوة، ولربما سيستغرقهم الأخير عشرون عاماً أُخرى من الجهد والمشقة الاعتراف بالخلل. قبل كل شيء، إن التمكن والمقدرة والتأهيل الإداري، يحتاج إلى وقت وجُهد وتعلُم ذاتي مستدام، في الاعتماد على الذات وبناء هذه الاعتمادية يحتاج إلى تغيير نفسي وسلوكي فوق وبعد كل شي، وربُ العزة والجلال يقول في مُحكم تنزيله “إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم”. صدق الله العظيم.
إن من يتحدث عن ضرورة الإصلاح الإداري، عليه قبل أي شيء، أن يبحث عن المقدرة والتأهيل والخبرة المكتسبة الذاتية والتبادلية والتراكمية لإعداد إستراتيجية طويلة المدى لهذا الإصلاح، عليه أن يُحدد الاتجاه الطويل الأجل، والأهداف المتوخاة طويلة الأجل، والأهداف الأدائية لكل عام وصولاً لهذه الأهداف طويلة الأجل، وبعدها فقط يمكن الحديث حول صياغة الإستراتيجية وتنفيذها والرقابة على عملية التنفيذ دون استرخاء وتكاسل. إنني أتحدى أي مدير عربي أن يتجرأ على قياس قدراته فقط في تحديد أهداف شركه على المدى القصير كمرحلة أولى دون الاقتراب من الأهداف طويلة المدى، وهذا هو السؤال الرئيس: أين هذه المقدرة؟….
نحن نريد الحصان خلف العربة ونتوقع سير العربة، نحن نريد الإصلاح مثل المقدرة، ولكن لا إصلاح دونما مقدرة وتأهيل وخبرة تراكمية وتبادلية معتمدة على الذات كما صنعت غيرنا من الأُمم المتقدمة إدارياً.
مجلة المدير | العدد:40 -April 2004