عبد القادر مصطفى عبد القادر
أوحى إلى بفكرة هذا المقال صديق على «الفيس بوك» يسمى «أحمد الكر» من السعودية الحبيبة، بينما كان يعلق – مشكوراً – على رابط مقالي السابق «جهازُ الرّوح»، الذي نُشر هنا بتاريخ 23/1/2013م، وهذا هو نص التعليق العبقري « مقال يوحي بمدى قدرتك أستاذ عبد القادر في قراءة واقعنا وتلمس حالنا وحاجتنا إلى إعادة تدوير طاقتنا وتوجيهها التوجيه السليم.. وتقسيمك المجتمع النخبوي الباحث عن الحلول إلى صنفين هو تقسيم منصف حقاً وأتفق معك فيه جملة وتفصيلا.. نعم إن النافذة الحقيقية للحياة تبدأ من الطريق إلى الله والإسلام وطاقات البشرية بالعموم وليس العرب وحسب سوف تكتشف بحق ويفك طلسمها إن كانت على مبدأ اليقين بالله ووجوده والعمل بما يأمر سبحانه وتعالى.. أعجبني وصفك لمستطردك عن صلاح الدين حين قلت (فأيُّ دُرر قد انتثرتْ من ثغرك أيها القائدُ المُظفر فانتظمت على رأس الزمان تاجاً، يُرسل إلى الخلق إشارات الهُدى ماداموا إلى العلا ناظرين؟!) ولكن إعجابي هنا ليس فكري رغم أن إعجابي الفكري حاضر ولكنه إعجاب أدبي في القدرة على الصياغة المتمكنة الرائعة … جمعت بين حسن الفكر وحسن التعبير عنه وفقك الله لما يحبه لأن قلمك قلم هادف يقدم القيمة التي نبتغيها … شكراً لك سيدي».
أترك لكم فرصة التّمَعن في اللغة القوية والنظرة العبقرية والتحليل العميق للأخ أحمد الكر، الذي يمثل شريحة محترمة من الشباب السعودي المُثقف الواعي، وانطلق إلى إيحاءات عنوان المقال فأقول: في كل إعادة إفادة كما درج على ألسنة الناس، فنعيد من أجل تعظيم الاستفادة، ونعيد من أجل توسيع الاكتشاف، ونعيد من أجل تقليل الفاقد، ونعيد من أجل تلافي الأخطاء، ونعيد من أجل تصحيح المسار، ونعيد من أجل تعميق الفهم.. وهكذا، فإذا تعلق الأمر بطاقات الروح كالإيمان واليقين، وكالإرادة والعزيمة، وكالصبر والتحمل..الخ، انجلت أهمية إعادة تدوير هذه الطاقات وغيرها، بالحد من الفاقد منها، وإعادة استغلال المُهمل منها، وتحفيز المُتكاسل منها.. بما يؤدي إلى تشغيل واستثمار أمثل لها في ميادين الحياة كافة، وأخص بالذكر ميدان العلم والبحث والعمل والإنتاج.
الحقيقة، نحن – كعرب – نؤدي أعمالنا وخاصة العام منها بمعدلات مُتدنية من طاقة الروح، حتى بات الأمر وكأنه ظاهرة عامة لا ينفك عنها إلا عدداً يسيراً من مؤسسات سلكت الطريق الصحيح نحو إيقاظ طاقات أفرادها وإيقاد مواهبهم ثم دفعها في قنوات الإنتاج، ولذلك يأتي تميزها في الميدان على ما سواها نتيجة لتميزها في استخراج أفضل ما في جعبة منسوبيها ووأد أسوأ ما فيهم، خلافاً للسواد الأعظم من مؤسسات عظمت جوانب الكسل والتراخي والإهمال والسلبية لدي منسوبيها فتخلف إنتاجها كماً ونوعاً، والمقارنة الموضوعية بين المنتج العربي من البشر والتكنولوجيا والسلع وبين الإنتاج المناظر له في أوروبا مثلاً، ستكشف بوضوح عن البون الشاسع الذي بيننا وبينهم.. لماذا؟!.
الآخرون أدركوا أن العنصر البشري هو ركيزة أي اقتصاد والعمود الفقري لأية نهضة، ولذا جعلوا بناءه فكرياً وتعليمياً وبدنياً أولوية قصوى، فاهتموا بالتعليم فنياً وإدارياً ومالياً عبر مراحله المتعددة، لاعتقادهم بأن المدرسة والجامعة هي المصنع الذي ينتج عقولاً واتجاهات وسواعد تقود سفينة الحاضر والمستقبل وسط معترك حياتي لا يرحم ولا يحابي، في حين اتسم إنتاج العرب والمسلمين بالرداءة على المستويين التربوي والفكري لأن الأمر لا يعتمد على استراتيجيات وسياسات طويلة المدى لا تتغير بتغير الأشخاص، ولكن يعتمد على أراء فردية واجتهادات شخصية تنتهي يوم أن يترك المسئول مكانه وتتركه مكانته، أي أن الأمر محكوم بالعشوائية في إعداد ثروة الأمة من البشر، وهو أخطر هدر يواجه أي اقتصاد على الإطلاق.
إذاً.. أين الحل؟، الحل يكمن في أربع نقاط محددة:-
أولاً: إعادة اكتشاف الطاقة المُعطلة لدي الإنسان العربي عبر إعادته إلى جذوره وتاريخه بغية تهيئة محطة انطلاق راسخة له، ليكون التمدد إلى أعلى من خلال هوية وثقافة وموروثات فكرية وحضارية.
ثانياً: إعادة هيكلة وتشكيل نظم التربية والتعليم وفق رؤيتنا وثقافتنا وبيئتنا، لا وفق خطط مُعلبة تأتي من هنا أوهناك، بما لا ينفي الإطلاع على تجارب الغير والتقاط ما يتناسب منها مع تركيبتنا النفسية والعقلية، مع ضرورة غربلتها وإعادة صبغها بصبغة الهوية والشخصية العربية.
ثالثاً: إعادة بناء ثقافة العمل بعد أن برزت آفة تصنيف المهن إلى مهن عليا ومهن دنيا، مما كرس للتهافت والتزاحم على مهن ونبذ أخرى، وبما أسس لعلل اجتماعية كالواسطة والرشوة للفوز بمهنة دون أخرى، وبما أوجد شريحة من شباب عاطل فضل البطالة على أعمال امتهنها المجتمع.
رابعاً: إعادة هيكلة نظم الرواتب بحيث تنحسر الفوارق الشاسعة بين رواتب المهن المختلفة إلى أضيق فرق ممكن لإشعار كل صاحب مهنة بأهمية مهنته وصنعته، والنموذج الذي يُحتذي به في هذا المضمار نظام الأجور في دولة كاليابان، فالفرق مثلاً بين راتب صديق البيئة «عامل النظافة» وبين راتب الوزير لا يتجاوز الــ 20%.
هذه النقاط ستربط المواطن بأرضه ووطنه، وسوف توقظ لديه عادات الانتماء والحرص على الصالح العام، وسوف تفجر طاقاته الكامنة فكراً وسلوكاً وعملاً، علاوة على تقويم المعوج فيها، وسوف تحد كثيراً من هدر طاقاته وقدراته فيما لا ينفع.
وأخيراً، فإن كل نقطة من هذه النقاط تحتاج إلى بحث متكامل لمعالجتها معالجة تفصيلية، وهذا بالقطع ليس دور المقال الذي ينبه ويشير.
المصدر : صحيفة الاقتصادية