«المكاتب الاستشارية الكبرى وأزمة الرأسمالية»

  • — الإثنين مارس 06, 2023

فضائح “ماكينزي & كومباني” ليست سوى غيض من فيض، والاعتماد المتزايد على نماذج الأعمال المستخلصة من المكاتب الاستشارية الكبيرة يعيق الابتكار وقدرة الدولة ويقوض المساءلة، في وقت الحاجة إلى مساعدة الحكومات على تحويل الاقتصاد من أجل المصلحة العامة.

لندن… في السنوات الأخيرة، أصبحت شركة “ماكينزي & كومباني” اسماً مألوفاً لما هو سيء؛ اصبحت واحدة من “أكبر ثلاث شركات استشارية” مصدرا للفضيحة والخداع حول العالم وبشكل متزايد وذلك من خلال عملها مع الشركات التجارية الكبرى والحكومات[!!!]

في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وافقت شركة ماكينزي على دفع ما يقرب من 600 مليون دولار لدورها في وباء المواد الأفيونية القاتل opioid epidemic، بعدما قدمت المشورة لشركة بوردو فارما Purdue Pharma حول كيفية “الشحن التوربيني” لمبيعات “أوكسيكونتين OxyContin” في أستراليا وذلك أثناء عمل الشركة على الاستراتيجية الوطنية صافي الانبعاث الصفري Net- Zero للحكومة الأسترالية السابقة.

والقائمة تطول وتطول، كما أوضحتا الكاتبتين “ماريانا مازوكاتو” و “روزي كولينجتون” في كتابهم الجديد “الشركات الاستشارية الكبرى the Big Con’s”؛ كيف تضعف هذه الشركات أعمالنا، وتصغر حكوماتنا، وتشوه اقتصاداتنا، وهذا ليست سوى غيض من فيض!!!
وفي حين أن هناك عددا قليلا من التفاح الفاسد في كل شركة، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في نموذج الأعمال الأساسي للصناعة الاستشارية.

في عام 2021، قدر السوق العالمي للخدمات الاستشارية بما يتراوح بين 700 و 900 مليار دولار. ومع ذلك، على الرغم من الدور المتنامي للصناعة الاستشارية في الحياة الاقتصادية والسياسية، نادرا ما ينظر إلى أنشطتها على حقيقتها مثل: عمق أعراض المشكلات الهيكلية مع الرأسمالية المعاصرة؛ قد لا تكون صناعة الاستشارات مسؤولة بالكامل عن تمويل الاقتصاد، أو “الأجل القصير” للشركات، أو تفتيت القطاع العام، لكنها بكل تأكيد تزدهر عليها، وعبر تاريخ الرأسمالية الحديثة، كانت الشركات الاستشارية الكبيرة (كما نسمي) موجودا لتركب كل موجة جديدة من الخلل في الأداء الوظيفي dysfunction[!!!]

فعلى مستوى الحكومة، روجت الشركات الاستشارية الكبرى واستفادت بشكل كبير من عملية الاندفاع نحو “الخصخصة rivatisation”، و “إصلاح الإدارة management reform”، و “التمويل الخاص private financing”، و “التعاقد الخارجي outsourcing”، و “الرقمنة digitalisation”، و “التقشف austerity”. وفي مجال الأعمال التجارية، ساعدوا في ترسيخ نماذج جديدة للحكومة؛ من انتشار حساب التكلفة، والشركات متعددة لعقود تلت الحرب العالمية الثانية، إلى صعود دور “الملك المساهم King Shareholder”[دور رأس المال المساهم] في تحديد الأولويات وتخصيص الموارد.

اليوم، تقدم صناعة الاستشارات الوعود لعكس المشكلات ذاتها التي ساعدت هي في خلقها، ومن هنا جاءت الطفرة في العقود الجديدة لتقديم المشورة في مجالات “البيئية والاجتماعية والحكومة “(ESG)؛ وليس بمستغرب أن يكون هذا النوع الجديد من الأعمال مع وجود جميع أنواع تضارب المصالح؛ وعلى سبيل المثال نصحت “ماكينزي” سابقا ما لا يقل عن 43 ملوث من بين أكبر 100 ملوثا بيئيا[!!!]

لقد كان الدور الذي لعبته الشركات الاستشارية في أزمة COVID- 19 واضحا بشكل خاص خلال العامين الأولين من الوباء، فقد أنفقت الحكومات مبالغ طائلة على عقود الاستشارات، لكن وفي أحسن الأحوال كانت النتائج مشكوكا فيها، ومضرة في أسوأ الأحوال. ففي فرنسا، شاركت الشركات الاستشارية في حملة التطعيم في البلاد. وبعيدا عن كونه نموذجا لا يحتذى به في الكفاءة، فقد كان ينظر على نطاق واسع إلى البرنامج الفرنسي أنه كارثة؛ حيث بحلول أوائل يناير 2021، أعطيت 5000 جرعة فقط، مقارنة ب 316000 في ألمانيا و 139000 في إسبانيا (بدأت البلدان الثلاثة برامجها في نفس الوقت تقريبا).

في بعض الأحيان، تقوم الحكومات بتعيين استشاريين لسد الثغرات في قدراتها الخاصة، ولسوء الحظ، أصبح وبكل بساطة منح الاستشاريين عقودا واسعة النطاق هو النهج الافتراضي، حتى في المجالات التي من الواضح أنها تقع ضمن اختصاص الحكومة، وفي عام 2020، اشتكى أحد البريطانيين من حزب المحافظين من حرمان موظفي الخدمة المدنية من “فرص العمل على بعض أكثر القضايا صعوبة وسهلة ومباشرة”، وأن الاعتماد “غير المقبول” على الاستشاريين الخاصين كان بمثابة تصغير لعمل الخدمة المدنية؟!

عندما نستعين بالتعهيد (التعاقد) الخارجي لكل شيء، لا يمكن للوكالات الحكومية تطوير المهارات والمعرفة الداخلية اللازمة لإدارة التحديات الجديدة، وهذا أمر يجب أن يهمنا جميعا [كمجتمع]، فالجائحة العالمية القادمة- كما حذر علماء الأوبئة- هي مسألة “متى”، وليس “إذا”؛ نحن بحاجة ماسة إلى الاستثمار في قدرة الحكومات ووكالات الصحة العامة على اكتشاف حالات تفشي جديدة واحتوائها قبل أن تنتشر.

لا ينبغي الوثوق في الشركات الاستشارية الكبيرة للحصول على الخبرة التي جرى التعاقد معهم من أجلها؛ كما وجدت صحيفة نيويورك تايمز، نقلا عن باحث من المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، فإن الاستشارات كانت وراء طرح لقاح “شامبول” في فرنسا حيث “مالت إلى استيراد نماذج مستخدمة في الصناعات الأخرى التي لم تكن فعالة في مجال الصحة العامة”.

إن لاعتماد المتزايد على نماذج الأعمال المستخلصة extractive business models من المكاتب الاستشارية الكبيرة يعيق الابتكار وقدرة الدولة ويقوض المساءلة، ويخفي آثار الإجراءات السياسية وأعمال الشركات. لقد أصبحت هذه العواقب وجودية في عصر الانهيار المناخي، ونحن جميعا ندفع الثمن عندما تهدر الأموال العامة والموارد، وعندما تتخذ قرارات خاطئة في الحكومة والأعمال التجارية تفلت من العقاب مع عدم وجود الشفافية الكافية.

ومما زاد الطين بلة، أن المهنيين الشباب الأذكياء ذوو النوايا الحسنة قد جرى إغراؤهم بشكل متزايد للابتعاد عن الخدمة العامة من خلال الوعد بالعمل الهادف (والأجر الأعلى) في صناعة الاستشارات. (على الرغم من وجود مؤشرات -لحسن الحظ- على أن العديد من الاستشاريين الشباب أصيبوا بخيبة أمل من هذا القطاع).

تبدأ عملية محاربة أي إدمان بالاعتراف بالمشكلة، وعندها فقط يمكننا تقليل اعتمادنا عليهم؛ قفي الوقت الذي يتساءل فيه عدد أكبر من الناس عن العقيدة الاقتصادية التقليدية ويبحثون عن بدائل، فإن تفكيك دور الشركات الاستشارية الكبيرة في اقتصاد اليوم يمكن أن يوجه الطريق إلى إيجاد الحلول لبناء اقتصاد يعمل بشكل أفضل؛ يجب أن نستثمر في قدرة الدولة ودرايتها، وأن نعيد الغرض العام إلى القطاع العام، وأن نخلص النظام من هذه الصناعة الاستشارية المكلفة وغير الضرورية.

لقد تنبهت الحكومات في أنحاء العالم إلى مخاطر الاعتماد المفرط على الاستشارات وشكل النظام الرأسمالي الذي ساعد في ذلك، ويقوم الإصلاحيون -في المملكة المتحدة- حاليا بتطوير نماذج حوكمة جديدة ومبتكرة، من استشارات “داخلية in- house” للقطاع العام إلى “معامل” السياسات وبرامج المشتريات الموجهة نحو المجتمع المحلي.

يتطلب تحويل اقتصاداتنا من أجل المصلحة العامة إلى تغيير طريقة تفكيرنا والحديث عن دور الحكومة؛ يجب أن نتوقف عن رؤية الدولة على أنها مجرد منقذ للسوق وتزيل المخاطر، وأن نعترف بها كجهة فاعلة اقتصادية حاسمة. لا يزال بإمكان المنظمات الخاصة والأفراد ذوي المعرفة والقدرة الحقيقية أن يكونوا مصادر قيمة لتقديم النصيحة. لكن يجب عليهم تقديم المشورة و “التشاور” بشفافية تامة وليس تكليفهم ودفع رواتبهم بغض النظر عن كيفية أدائهم!


(مترجم من مقال نشر في www.project-syndicate.org)