لمحة عامة عن التفكير المنظومي

  • — الأحد يناير 19, 2014

دانيال أرونسون

التفكير المنظومي Systems Thinking له أصوله الثابتة في مجال النظم الديناميكية System Dynamics، فقد تأسس هذا العلم على يد البروفيسور جاي فوريستر. حيث أدرك الحاجة إلى طريقة أفضل لاختبار الأفكار الجديدة في النظم الاجتماعية، بنفس الطريقة المتبعة في اختبار الأفكار في مجال الهندسة.

فالتفكير المنظومي يساعد الناس على تكوين الفهم الخاص للنظم الاجتماعية الظاهرة، والعمل على تحسينها بنفس الأساليب المتبعة في المبادئ الهندسية لتوضيح الأفكار وتحسين وتعزيز مستوى فهمهم للنظم الميكانيكية.

منهج التفكير المنظومي

التفكير المنظومي مختلف كلياً عن الأساليب التقليدية للتحليل، فالتحليل التقليدي يركز على فصل الأجزاء الفردية للمادة التي تخضع للدراسة، وكلمة “تحليل”  تأتي في واقع الأمر من المعنى الأساسي وهو “الدخول في المكونات”. بينما التفكير المنظومي نقيض ذلك، فهو يركز على كيفية تفاعل الشيء موضوع الدراسة مع المكونات الأخرى للنظام – مجموعة من العناصر تتفاعل فيما بينها لإنتاج سلوك معين- والتي هي جزء منه. وهذا يعني أنه بدلاً من استبعاد الأجزاء الصغيرة من النظام الذي يراد دراسته، يعمل التفكير المنظومي من خلال توسيع الفكرة بحيث تأخذ في الحسبان أعداد كبيرة من التفاعلات كموضوع خاضع للدراسة.

في بعض الأحيان يؤدي هذا الأمر إلى نتائج مختلفة ومدهشة وملفته للنظر، وعكس النتائج التي تحصل عليها من خلال أساليب التحليل التقليدية، وخاصة عندما يكون الشيء الذي يخضع للدراسة معقد بشكل ديناميكي، أو لديه قدر كبير من الملاحظات من مصادر أخرى، داخلية كانت أو خارجية.

إن طبيعة التفكير المنظومي تجعل منه أسلوباً فعالاً للغاية في معالجة أصعب المشكلات وأكثرها تعقيداً: كالمشكلات التي تتعلق بالمواضيع المعقدة والتي تعتمد بقدر كبير على الماضي، أو على أفعال الآخرين، وكذلك المشكلات التي تنبع من التنسيق غير الفعال بين الأطراف المشاركة في الموضوع الواحد.

وفيما يلي أمثلة أثبت فيها التفكير المنظومي كفاءة ملحوظة :

  • مشكلات معقدة تتعلق بالأطراف الفاعلة، بمعنى أنظر الى “الصورة” الكبيرة، وليس فقط أدوار الأطراف فيها.
  • مشكلات متكررة أو التي ازدادت سوءاً بفعل المحاولات السابقة لحلها.
  • مشكلات يؤثر (أو قد أثر) السعي لمعالجتها على البيئة المحيطة، سواء كانت البيئة الطبيعية أو البيئة المنافسة.
  • مشكلات لا تكون حلولها ظاهرة.

استخدام التفكير المنظومي

هناك مثال يوضح الفرق بين منظور التفكير المنظومي، والطريقة التي تتبعها الأنواع التقليدية الأخرى للتحليل، فالخطوات التي يتم اتخاذها للحد من الأضرار التي يتعرض لها محصول ما بسبب الحشرات، تتمثل بردة الفعل البيئية وهي رش المحصول بالمبيدات الحشرية للقضاء على تلك الحشرات ولو تجاهلنا الفاعلية المحدودة لبعض المبيدات الحشرية، والتلوث الذي يمكن أن تسببه للمياه والتربة، فنتخيل أن لدينا مبيد حشري ذو فعالية عالية يقضي على جميع الحشرات، وليست له أي آثار جانبية سلبية على الهواء أو الماء أو التربة. فسيكون المتوقع أن استخدام هذا المبيد سيجعل محاصيل المزارع أو الشركة بحال أفضل؟

لو قمنا بتمثيل أسلوب التفكير الذي يتبعه مستخدموا المبيدات فسيكون الأمر كما يلي:

استخدام المبيدات الحشرية

صفر

الحشرات التي تفسد المحصول

———————————->

فلو نظرنا إلى الشكل أعلاه: نجد أن السهم يشير إلى اتجاه العلاقة السببية- أي أن التغيير في كمية المبيدات المستخدمة يسبب تغير في أعداد الحشرات التي تفسد المحاصيل.

وبناء على طريقة التفكير هذه، فكلما زاد استخدام المبيدات الحشرية، كلما أدى ذلك إلى تناقص أكثر في أعداد الحشرات التي تفسد المحاصيل، وبالتالي تقل الأضرار التي تتعرض لها المحاصيل. وهذه التجربة توحي لنا بأن القضاء على الحشرات التي تفسد المحاصيل سيحل المشكلة؛ غير أن الأمر في الواقع ليس كذلك.

فمشكلة فساد المحاصيل بسبب الحشرات عادة ما يطرأ عليها بعض التحسن – على المدى القصير. ولسوء الحظ، فأن الفكرة التي يعبر عنها الشكل أعلاه تمثل جزءاً واحداً فقط من الصورة الكلية. وما يحدث عادة هو تفاقم المشكلة في السنوات التالية لتصبح أسوأ مما كانت عليه وتزداد تعقيداً عام بعد آخر، والمبيدات التي بدت وكأنها تتميز بفعالية اصبحت منعدمة الفعاليه. ذلك أن الحشرة التي كانت تأكل المحاصيل كانت تتحكم في أعداد الحشرات الأخرى، أما من خلال افتراسها أو منافستها. وعندما تقوم المبيدات بقتل الحشرة التي كانت تأكل المحاصيل، فأن هذة المعالجة تؤدي إلى إنهاء الدور الذي كانت تمارسه الحشرة بالحد من أعداد الحشرات الأخرى. وبالتالي تزداد بكميات كبيرة وتلحق أضراراً بالمحاصيل أكثر من الضرر الذي كانت تلحقه بها الحشرات التي كانت تقتلها المبيدات الحشرية.

وبعبارة أخرى، فإن الخطوة التي كانت تهدف لحل المشكلة، أدت إلى تفاقمها أكثر من ذي قبل، ذلك لكون الطريقة التي يتغير بها النظام  بفعل الآثار الجانبية غير المقصودة يؤدي إلى تفاقم المشكلة.

تشير بعض الدراسات إلى أن البدء باكثر (25) حشرة قدرة على إلحاق الضرر بالمحاصيل في كل عام تصبح مشكلة بسبب الدورة المينة كما في الشكل أدناه.

ومن خلال الشكل الهندسي، يمكن تمثيل طريقة حدوث هذا الأمر على النحو التالي:

S&O

الشكل السابق يوضح كيفية العلاقة بين متغيرين اثنين : فالرمز “S” يعني أن التغيير في المتغيرين يسير في نفس الاتجاه- أي أنه إذا اتجه أحدهما إلى أعلى فالآخر أيضاً يتجه إلى أعلى، بينما الرمز “O” يشير إلى ان التغيير في المتغيرين يسير في اتجاهين متعاكسين- أي أنه إذا اتجه أحدهما إلى أعلى فالآخر يتجه إلى أسفل أو العكس

وبناء على هذا الفهم، فكلما زاد استخدام المبيدات الحشرية، كلما قلل ذلك من أعداد الحشرة A (الحشرة الأصلية) التي ستأكل المحصول. وهذا سيؤدي إلى تناقص سريع في أعداد الحشرات التي تأكل المحصول (لاحظ أن هذا هو الأثر الذي يريده مستخدمو المبيدات الحشرية). ولكن هذا العدد القليل من الحشرة A سيؤدي في النهاية إلى عدد كبير من الحشرة B (علامة التجزئة على السهم تشير إلى التأخير) لأن الحشرة A لم تعد تتحكم في أعداد الحشرة B بنفس المدى، وهو ما سيؤدي إلى تزايد أعداد الحشرة B بكميات هائلة، وهذة الأعداد الكبيرة من الحشرة B ستفسد المحاصيل، وهو عكس ما كان مقصوداً. وهكذا فبرغم أن الآثار قصيرة المدى للمبيدات الحشرية هي نفس الأثار التي كان يراد تحقيقها، إلا أن الآثار بعيدة المدى كانت مختلفة كلياً.

وانطلاقا من هذا الفهم، طورت خطوات أخرى لها نتائج أفضل على المدى الطويل، مثل نظام الإدارة المتكاملة لمكافحة الآفات الزراعيةIntegrated Pest Management  وهو نظام يتضمن التحكم في الحشرة التي تأكل المحصول من خلال إدخال المزيد من الحشرات التي تقتات عليها في المنطقة. وهذه الأساليب أثبتت جدواها وفاعليتها من خلال بعض الدراسات التي أجرتها جهات أكاديمية كـ MIT ، والأكاديمية الوطنية للعلوم، وغيرها، إضافة الى خلوها من مخاطر تلويث المياه والتربة.

يسهم التفكير المنظومي في خلق الفهم الضروري واللازم للحصول على نتائج أفضل على المدى البعيد، وقد كان ذلك حاضراً سبق لي المشكاركة به مع إحدى الجهات التي كانت تفتقد الى التنظيم في عملها. حيث بدى الأمر وكأنها تقوم بإجراءات سليمه  من خلال عملها في حل مشكلة تتعلق بعلاقات المستفيدين، لقد بدى من أول وهلة نجاح تلك الإجراءات في حل المشكلة من خلال فريق من الموظفين المؤهلين الذين استخدموا طرق سبق ان ثبت نجاحها أكثر من مرة، بل أنهم نجحوا في حث بعض المستفيدين للمشكاركة بابداء الراي حول المقترحات المساعدة على تدارك الخلل.

غير أنهم لم يوفقوا في رؤية الصورة الكبرى والشاملة التي أظهرت أن وسائل الحل التي استخدموها في الماضي أسهمت في تفاقم المشكلة. وعلى مدى يومين تمكنت من مساعدتهم على التعرف على الكيفية التي تفاقمت بها المشكلة، والخطوات التي يمكن القيام بها لحل هذه المشكلة. وانتهت الجلسة بوضع استراتيجية للمعالجة والتي وجدت إجماعاً من قبل أعضاء الفريق ومن المستفيدين.فمن خلال النظر إلى الصورة الكلية الكاملة، تمكن الفريق من التفكير في حلول جديدة لم تخطر لهم رغم الجهود الجيدة التي بذلوها سابقا.

إن للتفكير المنظومي القدرة على مساعدة الفرق على إيجاد رؤى وأفكار لحل المشكلات إذا ما طبقت بشكل جيد.

أفضل طريقة للتعامل مع مشكلاتنا الأكثر تعقيداً

إن أغلب المشكلات التي تواجهنا مشكلات مركبة ومعقدة، وتتعلق في العادة بعدة أطراف فاعلة، ونتاج لأعمال ومحاولات سابقة من بعض هذة الأطراف لمعالجتها. كما أن هناك صعوبة بالغه في التعامل مع هذا النوع من المشكلات، ونتائج الحلول التقليدية ضعيف الى درجة مثبطة عن التعاطي معها بطريقة فعالة.

لذلك فإن للتفكير المنظومي قدرته على التعامل بفعالية مع المشكلات الأكثر تعقيداً، حيث يرفع مستوى تفكيرنا إلى المستوى الذي نصنع فيه النتائج التي نريدها نحن كأفراد وكمنظمات في الحالات الصعبة التي تتسم بالتعقيد وكثرة التفاعلات وغياب فعالية الحلول التي قد تبدو لنا ناجحة.

1

  1. يقول ghadah:

    شكرا جدا مفيد ..هل يوجد امثله اخري غير الحشرات؟

Comments are closed.