استهلال ..
تشير كثير من الدلائل إلى أزمة تغيير إداري لدى الإدارة العربية في انتقالها من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين. هذه الأزمة متمثلة في قصور الاهتمام بالإدارة من القيادات الإدارية والأكثر من ذلك في ندرة القياديين الإداريين العرب القادرين على إدارة المؤسسات الاقتصادية والصناعية والخدمية في قطاع الأعمال في عصر المعرفة الحالي كظاهرة ملموسة لا يختلف عليها أحد. لسنا في مجال البحث هن هذا القصور في القطاع الحكومي كذلك لأن هذا من اختصاص الباحثين في حقل الإدارة العامة، مع أن اثر القصور الإداري في القطاع الحكومي يلقى بظلاله ويؤثر على قطاع الأعمال، إلا أننا معنيون هنا في تحديد ملامح الإدارة للقرن الحادي والعشرين وكيفية إيجاد المخارج المؤدية إلى ظهور جيل جديد من القيادات الإدارية العربية القادرة والمؤهلة للتعامل مع المتطلبات المعاصرة والتي تغيرت بشكل جذري عما كانت عليه إدارة الناس والأشياء والأفكار في القرن العشرين.
مقدمة ..
طرأ تغييرات جذرية قبل إطلالة القرن الحادي والعشرين على بيئة العمل الإداري سواءً في قطاع الأعمال والقطاع الحكومي بظهور الأتمتة وتقنية المعلومات وطوفان العولمة محلياً وإقليميا. ما يهمنا هنا أننا نقابل جيلاً جديداً نشأ في ظل لغة الكمبيوتر والأتمتة والانترنت والجوال؛ مما أدى إلى مطالبة هذا الجيل بما يتفق والتغييرات العالمية في الإدارة والتي انطلقت من عقالها ولازلنا في العالم العربي نتعامل مع مفردات ومفاهيم وأسس الإدارة للقرن العشرين. من هنا جاءت الحاجة للبحث عن التزامات الإدارة العربية للتغيير إلى مفردات ومفاهيم الإدارة المعاصرة للقرن الحادي والعشرين. لابد في هذه المقدمة الإيضاح بكل شفافية لمتغيرات الألفية الثالثة (القرن الحادي والعشرين) بعصر المعرفة. فقد مضت قرون طويلة على الإنسان باستخدام أرضه وجهده وعضلاته ومعرفته الزراعة بما كان يسمى المجتمع الزراعي أو الاقتصاد الزراعي أو “عمال الزراعة” جاء المحرك البخاري عام 1775م وانتقل الأهمية للآلة بما يسمى المجتمع الصناعي أو الاقتصاد الصناعي “عمال الصناعة” واقترن الإنتاج الصناعي بشراء الآلات والمعدات بالمال وتراكم راس المال، ولهذا أطلقوا عليه “الرأسمالية” لاقترانه بالمال. ومع إطلالة عام 1970م، انتقل العالم المتقدم إلى التقنية المعلوماتية والأتمتة والانترنت بما أدى لأن تصبح القيمة المضافة للمعرفة والتي أدت لظهور المجتمع المعرفي أو “عمال المعرفة”. وهذه الفئة المهيمنة على العمليات في العصر الحديث كما تنبأ لنموهم عالم الإدارة دركر عام 1969م يختلفون عن عمال الصناعة في القرن العشرين بما يتطلب أساليب جديدة لإدارتهم في القرن الحادي والعشرين.
المقارنة المرجعية الشاملة..
على مدى القرن العشرين كانت الإدارة بمفهومها الشامل وباختصار شديد مركزة على مفهوم التحكم والسيطرة بان تقوم الإدارة أو المديرون بالفكر لما يجب عمله وما على العاملين إلا تنفيذ الأوامر، أي أن هناك آمراً ومأموراً. هكذا كانت الإدارة في العالم كله بركيزتها المبنية على الفصل ما بين الفكر والعمل واستخدام الأمر وصولاً للتحكم والسيطرة، والضبط والربط من منطلق قوة وسلطة الوظيفة للمديرين بالأمر وما على العاملين كمأمورين إلا التنفيذ. هذا المفهوم ابتدئ بالاندثار أو في سبيله للانقراض لأن الأوقات تغيرت وعلى أثره تغيّر العاملون بفعل المعرفة إذ أصبحوا بمصطلح القرن الحادي والعشرين “عمال المعرفة” بمعنى اتجاه الإدارة في العالم المتقدم والناشئ إلى مرحلة “لا آمر ولا مأمور”. كانت الإدارة ببنائها المنظومي والهيكلي مثلها مثل الاهرامات تكبر وتثبت على هذه الأسس، بعد الحرب العالمية الأولى والثانية من خلال التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة من قمة الهرم بمستويات إدارية كثيرة ومكلفة، برؤساء تنفيذيين ونواب على أربعة مستويات متتالية ناهيك عن كثرة المصطلحات بأسماء الوظائف والتي كانت في مجملها تركز على رئيس ومدير، لأن الرئيس كمصدر للسلطة والقوة والسيطرة والأمر. يرى بيتر دركر أن الوقت قد حان لتغيير مصطلح ” مدير” إلى مصطلح جديد هو “منفّذ” لأن ذلك يعني التزام ومسؤولية من خلال التفاهم مع العاملين بدلاً من السيطرة والأمر. هذا التوجه وليس التوجيه نابع من جملة المتغيرات العالمية التي أدت إلى ظهور منهج ونهج جديد هو ” إدارة التغيير” لأن المتغيرات التقنية وظهور اقتصاديات المعرفة ومنهج إدارة المعرفة جعلت من هذا التوجه العالمي التزاماً بضرورة وجدوى التغيير للإدارة الشاملة في القرن الحادي والعشرون.
التخطيط المعاصر..
كان منهج التخطيط في القرن العشرين مبنياً على قيام فئة استشارية مهنية مؤهلة لإعداد الخطة السنوية والخطة متوسطة وطويلة الأجل. هذه الفئة من الاستشاريين تفريقاً لهم عن التنفيذيين يعملون على صياغة الخطة في غياب مشاركة التنفيذيين. يجتمع الاستشاريون ذوو الهيبة والأبهة مع التنفيذيين ويقومون بإجراء التحليل لمتطلباتهم ويقررون ما يرونه من خلال قوتهم، إذ لا علاقة لهم بالتنفيذ والمسؤولية والالتزام. انتهت هذه التقليعة ببروز منهج الاستراتيجية الإدارية العليا وانتقال مهمة التخطيط إلى التنفيذيين، وانقرضت فئة “الاستشاريين”. أصبحت الرؤية والرسالة والهدف من مسئولية والتزام التنفيذيين مباشرة وانقرضت تقليعة الخطة بالانتقال إلى النهج الاستراتيجي الإداري المعاصر.
التنظيم ..
كما سبق وان أشرت إلى الهيكلية الهرمية الثابتة والمتعاظمة مع الزمن بتكاليفها الباهظة والتفريعات للاستشاريين والتنفيذيين والمستويات التنظيمية العديدة في القرن العشرين والتي ابتدأت بالتغير في الدول المتقدمة. انتقل التنظيم إلى الفكر المعرفي المعاصر بحيث من الممكن أن تتعامل مع شركة معرفية من منظّم أي مؤسس ومعه سكرتير وموظف استقبال فقط. انتقل الفكر التنظيمي إلى التحالفات الاستراتيجية والعقود من الباطن (Outsourcing) بحيث أصبح هذا النهج من التعاقد التعاوني أو الشراكات التنفيذية تخصصاً جديداً في كليات الدراسات العليا لإدارة الأعمال. لم يعد ممكناً استمرار الاهرامات بحيث يجد “المنفّذ” تيمناً بالتسمية الجديدة للمدير نفسه يتعامل مع عاملين ليسوا موظفيه بشكل مباشر. عقود الصيانة والتشغيل وعقود أعمال التسويق التي نراها مستخدمة في كثير من المؤسسات الحكومية وقطاع الأعمال بين ظهرانينا تعتبر جزء من هذا التغيير الجارف في الإدارة العربية المعاصرة. ظاهرة الشراكات المؤقتة، التعاون المشترك والتحالفات الاستراتيجية المبنية على المعرفة المركزة أصبحت جزءاً من تنظيم القرن الحادي والعشرين لا محالة.
التوجيه والرقابة ..
عود على بدء في التغيير في دمج الفكر والعمل معاً بدلاً من انفصالها كما كانت الإدارة في القرن العشرين بفعل ازدياد وانتشار المعرفة عالمياً بفعل التقنية المعلوماتية، لم يعد ممكناً توجيه الجيل الجديد بالأمر والسيطرة لأنه جيل لديه المعرفة بالعمل وتفصيلاته أكثر من مديريه. هذه حقيقة لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها كون جيل المعرفة يطالب بمزيد من التمكين والمشاركة والحرية في تنفيذ الأعمال باستقلالية من منطلق “لا آمر ولا مأمور”. انه جيل طموح بدوافع تحقيق الذات دون انتظار طويل للترقية للأعلى والبقاء بمؤسسة أو شركة واحدة لثلاثين عاماً. كان تقييم العاملين مبنياً على البقاء والاستمرار لفترة طويلة بوظيفة وبشركة واحدة أحد عوامل التقدير والذي انقرض في العصر الحالي لأن الانتقال من وظيفة إلى وظيفة بشركة أخرى أصبح واقعاً ملموساً ولربما أصبح احد وسائل التقييم الايجابية في القرن الحادي والعشرين بعد أن كان ينظر إليه سلبياً في القرن العشرين. ظهرت مؤلفات عديدة في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، أي القرن الحادي والعشرين توصي وتنصح المديرين في كيفية توجيه العاملين معهم بأسلوب يؤدي إلى تكوين الدافع لديهم وبطريقة محفزة دون الصيغة الآمرة. ينطبق التوجه المعاصر على الرقابة من منهج التحكم والسيطرة (Command &Control) من خلال قوة السلطة والأمر الذي يتمكن “عمال المعرفة” من التعامل معه بكل مباغتة واستخفاف ونفاق مع الرئيس دون إظهار العوامل ونوازع النفس البشرية. ظهرت كتابات ومؤلفات بالعشرات تطالب المديرين بالتوجه نحو زرع بذور الإرادية والطوعية والرقابة على النفس والشعور بالمسئولية والالتزام بدلاً من الأمر والعقاب. هكذا هي التوجهات المعاصرة للقرن الحادي والعشرين.
وظيفة المدير..
المدير، أي مدير مهما عليت وظيفته فهي تتمحور في ثلاثة أبعاد مترابطة، هي القيادة والاتصال واتخاذ القرارات. فالقيادة أولاً لم تعد مرتبطة بلقب أو مركز إداري يتم منحه فقط، بل بما يمكن للمدير القائد أخذه من العاملين باحترامه وسلوكه معهم، أي إن الألقاب تعطى ولكن الاحترام يؤخذ.
هذا يقودنا إلى أن القيادة في الأداء والرؤية والتحدي والتمكين والتشجيع. فالأداء منطلقه القدرة والقوة، والرؤية تنبع من فكر وخلق المشاركة من التابعين لهذه الرؤية وتنفيذها والتحدي كفرصة ريادية فيها إقدام ومخاطرة. أما التصرف فبناؤه القيادي في التمكين والتحفيز وبعد ذلك كله في التشجيع من خلال إعلان التقدير للمتميزين والاحتفال بإنجازاتهم.
هذه هي قيادة القرن الحادي والعشرين المبنية على المسؤولية والالتزام لعمال المعرفة. والاتصال لم يعد عمودياً من أعلى إلى أسفل لأن المعرفة المعلومة الإنتاجية لم تعد حكراً على المديرين فقط، بحيث أصبح للعاملين دور ومشاركة في انتقال المعلومة إلى أعلى.
لا شك أن منظري الإدارة وممارسيها في القرن العشرين لم يرق لهم استخدام “التنسيق” الذي اندثر من منهج الإدارة لأسباب مرتبطة بالأمر وعلى أثره انقرض هذا التنسيق لأن عماده المشاركة التي أصبحت جزءاً من وظيفة المدير وصولاً إلى الاتصالات اللولبية من كافة الاتجاهات. لا شك أن نوازع النفس البشرية في القوة والأمر والسيطرة لم تعطى فرصة للتنسيق لأن تأخذ مكاناً في الإدارة في القرن العشرين، والتي ابتدأت تتمحور الآن في الألفية الثالثة.
أما اتخاذ القرارات من المدير دون تفويض للسلطة والذي أخذ طابعاً للإدارة الشمولية للقرن العشرين ابتدأ في التغيير منهجياً بظهور مفهوم مزدوج لاتخاذ القرارات وصناعة القرارات. صناعة القرارات أصبحت مسئولية العاملين واتخاذ القرار من المدير كنوع من إظهار دور المشاركة في القرارات صناعةً واتخاذاً.
هذا هو التوجه العالمي والمعاصر للإدارة في القرن الحادي والعشرين من جانب محدد بوظيفة المدير قيادةً واتصالاً واتخاذ قرارات.
ماذا يعني كل ذلك للقيادات الإدارية العربية؟
إنها مناداة بالنصيحة للمديرين العرب في هذا العصر للحاق بركب العالم المتقدم باتخاذ الخطوات التالية من المديرين العرب، واعني القيادات الإدارية بشكل دقيق ومحدد بالملخصات التالية:
أ – الترحيب بالتغيير دو خوف أو تريث أو مقاومة لأن التغيير وإدارته لا يمكن وقفه. لا يمكن ممارسة العناصر السبعة السابقة للقرن العشرين في القرن الحادي والعشرين لأن عنصر المعرفة الذي أدى إلى التغيير في الافتراضات والمفاهيم.
ب – المعرفة والمعلومات حلت مكان السلطة والقوة والأمر.
ت – المؤهل والخبرة الطويلة في المؤسسة غير كافية للإدارة المعاصرة دون بناء شبكة علاقات مع العاملين مؤدية للإرادية والطوعية.
ث – لم يعد رأس المال المادي كافياً لإدارة الناس والأشياء والأفكار. ظهر على السطح راس المال الفكري المبني على المعرفة والمعلومات والذي أصبح له قيمة كبيرة أكثر من راس المال المادي. الأكثر أهمية بظهور راس المال الاجتماعي في بناء تكوين التعاون وروح الجماعة بكل ما لهذه الكلمة من قيمة تراكمية. المال والفكر لا يعني شيئاً إذا لم يلق تفعيله بالتنفيذ لأن الفكر الفردي العقلي والذهني مع المال لا يعني شيئاً دون تحويله إلى مشاعر للتنسيق بنقل الأقوال إلى أفعال.
ج – المدير لم يعد مسماه “رئيس” ذو سلطة وقوة وجاه وأمر وسيطرة لأن هذا من الماضي الذي كوّن المستقبل المعاصر بأنه أصبح المنفذ المتفاهم والملتزم بتحمل المسؤولية والمساءلة. انه استبدال يؤدي إلى الاحترام والتقدير بدلاً من الأمر بالقوة. إنها مناداة بالالتزام من المديرين في بناء المستقبل.
ح – استخلص بحث عالمي شارك فيه (72) الف مدير في جميع أنحاء العالم محدداً لصفات وقيم وامكانات المديرين في الألفية الثالثة بأربع خصائص، هي الأمانة وبناء المستقبل والكفاءة والتحفيز وكل واحدة من هذه الخصال الأربعة تتفرع منها عشرات الخصال المشتقة.
إنها مناداة بالتوجه، وليس التوجيه للمديرين العرب بالتركيز على المشاركة في صياغة الأهداف من منطلق راس المال الاجتماعي في الإقدام على التفويض لأن القيادة مبنية على الثقة ومن لا يثق بالعاملين معه لا ضرورة لقبوله تحدي القيادة. إن “عمال المعرفة” يعرفون تفاصيل العمل أكثر من مديريهم كحقيقة متفق عليها بإعطائهم الثقة للتنفيذ بحكم معرفتهم الكامنة والتي يحتاجون لإظهارها تأكيداً لذاتهم وطموحاتهم.
المصدر : مجلة المدير العدد:86|Feb 2008