قال تعالى: ﴿ حمٓ ﴿١﴾ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ ﴿٢﴾ إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةٍۢ مُّبَٰرَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴿٣﴾ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿٤﴾ أَمْرًۭا مِّنْ عِندِنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿٥﴾ رَحْمَةًۭ مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴿٦﴾ ﴾ [الدخان]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ ﴿٢﴾ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌۭ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ ﴿٣﴾ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍۢ ﴿٤﴾ سَلَٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ ﴿٥﴾ ﴾ [القدر].
يقول العلامة عبدالرحمن ابن سعدي -رحمه الله- عن هذه الآيات وليلة القدر:
“انظروا رحمكم الله فيما احتوت عليه هذه الآيات من فضيلة هذه الليلة وشرفها، وما تضمنته من برها وخيرها، وتُحَفِّها، ليلة خصها الله بإنزال القرآن الكريم، الذي فيه الهدى والرحمة والفرقان، وفيه أنقذ الله العباد من الشقا والخسران.
ليلة مباركة في كثرة خيراتها، مباركة في سعة فوائدها ومبراتها، من بركتها أنها تفوق ليالي الدهر، ليلة القدر خير من ألف شهر، ومن بركتها أن من قامها إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنوبه، ومن قامها محتسبًا أصلح الله أحواله وستر عيوبه، ومن دعا الله فيها بقلب حاضر خالص أجابه وآتاه مطلوبه؛ قالت عائشة رضي الله عنها:«يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فبمَ أدعو؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفـو فاعف عني».
فهكـذا كانت حالة الصفوة الأخيار، ينافسون في هذه الليلة، ويلتجؤون إلى الملك الغفار، أما يحق لك أيها المؤمن أن تجرد قلبك في هذه الليلة من جميع الأشغال، وأن تقبل بكليتك إلى طاعة ذي العظمة والجلال، وأن تعترف بذنوبك وفاقتك وافتقارك، وأن تتوسل إليه مخلصًا في خضوعك وانكسارك؟ تقول: يا رب قد عظُمت مني الذنوب، يا رب قد تكاثرت عليَّ الخطايا والعيوب، يا رب أنا الفقير المعدم المضطر إليك، يا رب لا ملجأ لي منك إلا إليك، إن رددتني من يقبلني؟ وإن خيبتني من يصلني؟ وإن حرمتني من يعطيني؟ وإن أبعدتني فمن الذي يقربني ويدنيني؟ لا رب لي غيرك، ولا إله لي سواك، ولا أستعين بغيرك، ولا أعبد إلا إياك، أنت الذي خلقتني ورزقتني، وأنت الذي واليت علي النعم وعافيتني، آلاؤك تتوالى الليل والنهـار، ونعمـك ليس لها حد ولا منتهى ولا انحصار، أرجوك في هذه الليلة الكريمة أن تغفر ذنوبي، وأن تصلح فاسـدي ونـاقصي وعيوبي، وأن تسعفني يا مـولاي بمطلوبي، ويحق لك أن تدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع خير الدنيا والآخرة، وشمل حصول النعم الباطنة والظاهرة؛ فتقول: “اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت”، لعلك تصادف ساعة إجابة تسعد فيها سعادة لا تشقى بعدها، ولعلك توافق نفحة من نفحات الكريم تصلح أمورك بها، فكم سعد في هذه الليلة أقوام، وكم لله فيها من جزيل الفضل وواسع الإنعام، وكم أعتق فيها المسرفون من النار، حين أخلصوا لربهم وأكثروا من التوبة والاستغفار، وكم صفا فيها للصفوة من قلوب نيرة وأسرار، وكم أغدق على قلوبهم من المعارف العالية، فصاروا من خيرة الأبرار.
اللهم ما قسَمت في هذه الليالي المباركة من خير وبر وفضل وإحسان، فاجعل لنا منه أوفرَ الحظ وأشمل الامتنان، وما قسمت فيها من شر وبلاء، فاصرِفه عنا في كل وقت وأوان، اللهم خلِّ بنواصينا إليك، وأقبل بقلوبنا إليك، ولا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، يا أرحم الراحمين.