مقدمة المؤلف: ﴿الحمد لله﴾ الذي شهدت الكائنات بوجوده، وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده، ونطقت الجمادات بقدرته، وأعربت العجمات عن حكمته، وتخاطبت الحيوانات بلطيف صنعته، وتناغت الأطيار بتوحيده، وتلاغت وحوش القفار بتفريده، كل باذل جهده وأن من شيء إلا يسبح بحمده بل المكان ومن فيه والزمان وما يحويه من نام وحامد ومشهود وشاهد تشهد بأنه إله واحد منزه عن الشريك والمعاند، مقدس عن الزوجة والوالد مبرأ عن المعاند والمنادد، مسبح بأصناف المحامد (أحمده) حمد تنطق به الشعور والجوارح وأشكره شكراً يصيد نعمه صيد المصيد بالجوارح، (وأشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب أودع أسرار بروبيته في بريته، وأظهر أنوار صمديته في جواني بحره وبريته، فبعض يعرب بلسان قاله وبعض يعرب بلسان حاله وتسبحه السموات باطيطها والأرض بغطيطها والأبحر بخريرها والأسد بزئيرها والحمام بهديرها والطير بتغريدها والرياح بهبوبها والبهائم بهبيبها والهوام بكشيشها والقدور بنشيشها والخيل بضجها والكلاب بنبحها والأقلام بصريرها والنيران بزفيرها والرغود بعجيبها والبغال بشحيحها والانعام برغائها والذباب بطنينها والقسى برنينها والنياق بحنينها، كل قد علم صلاته وتسبيحه، ولازم في ذلك غبوقه وصبوحه وعمروا بذلك أجسادهم وأرواحهم ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
(وأشهد) أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أفضل من بعث بالرسالة، وسلمت عليه الغزالة، وكلمه الحجر، وآمن به المدر، وانشق له القمر، ولبت دعوته الشجر، واشتجار به الجمل، وشكا إليه شدة العمل، وحن إليه الجذع، ودر عليه يابس الضرع، وسجت في كفه الحصباء، ونبع من بين أصابعه الماء، وصدقه ضب البرية، وخاطبته الشاة المصلية. وصلى الله عليه صلاة تنطق بالاخلاص، وتسعى بالخلاص، وعلى آله أسود المعارك، وأصحابه شموس المسالك، وسلم تسليما، وزاده شرفاً وتعظيماً (أما بعد)..
فان الله المقدس في ذاته، المنزه عن سمات النقص في صفاته، قد أودع في كل ذرة مخلوقاته من بديع صنعه ولطيف آياته، ومن الحكم والعبر مالا يدركه البصر ولا تكاد تهتدي إليه الفكر ولا يصل إليه ذوي النظر، ولكن بعض ذلك للبصر بالرصد ظاهر يدركه كل أحد، قال الله تعالى وجل ثناؤه جلالاً ﴿وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ وقال تعالى ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق﴾ وقال عز من قائل في كلامه الطائل ﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون﴾.
وفي كل شيء له آية … تدل على أنه واحد.
لكن لما كثرت هذه الآيات والحكم وانتشرت أزهار رياضها في وهاد العقول والاكم، وترادف ما فيها من العجائب والعبر، وتكرر ورود مراسيمها على رعايا السمع والبصر، وعادتها النفوس ولم يكترث بوقوعها القلب الشموس، ولم يستهن من وجودها ولم يلتفتن إلى حدودها، فكثر في ذلك أقوال الحكماء وتكررت مقالات العلماء، فلم تصغ الأسماع إليها ولا عولت الأفكار عليها، فقصد طائفة من الأذكياء وجماعة من حكماء العلماء ممن يعلم طرق المسالك إبراز شيء من ذلك على ألسنة الوحوش وسكان الجبال والعروش، وما غير مألوف من البهائم والسباع وأصناف الأطيار وحيتان البحار وسائر الهوام، فيسندون إليها الكلام لتمثيل لسماعه الأسماع، وترغب في مطالعته الطباع، لأن الوحوش والبهائم والهوام والسوائم غير معتادة لشيء من الحكمة، ولا يسند إليها أدب ولا فطنه ولا معرفة، ولا تعرف ولا قول ولا فعل ولا تكليف لأن طبعها الشماس والأذى والافتراس والإفساد والنفور والعدران والشرور والكسر والتغريق والنهش والتمزيق، فإذا أسند إليها مكارم الأخلاق وأخبر بأنها تعاملت فيما بينها بموجب العقل والوفاق، وسلكت وهي مجبولة على الخيانة سبل الوفاء، ولازمت وهي مطبوعة على الكدورة طرق الصفاء، أصغت الآذان إلى استماع أخبارها، ومالت الطباع إلى استكشاف آثارها، وتلقتها القلوب بالقبول والصدور بالانشراح، والبصائر بالاستبصار، والأرواح بالارتياح لكونها أخباراً منسوجة على منوال عجيب، وآثاراً أسديت لحتها في صنع بديع غريب، لا سيما الملوك والأمراء وأرباب العدل والرؤساء والسادة والكبراء وأبناء الترفه والنعم، وذو والمكارم والكرم إذا قرع سمعهم قول القائل صار البغل قاضياً، والنمر طائعا لا عاصيا، والقرد رئيس الممالك، والثعلب وزيراً لذلك، والذئب مؤرخاً أديباً، والحمار منجماً طبيباً، والكلب كريماً، والحجل نديماً، والغراب دليلاً، والعقاب خليلاً، والجدأة صاحبة الأمانة، والفأرة كاتبة الخزانة، والحية راقية، والبومة ساقية، وضحك النمر متواضعاً، وغدا الأسد لإرشاد الذئب سامعاً، ورقص الغزال في عرس القنفد، وغنى الجدي فطرب الجدجد، وتصادق القط والجرذات، وصار السرحات راعي الضان، وعانق الليث الحمل والذئب الجمل، ورفع الباشق الحمامة على رقبته وحمل، ارتاحت لذلك نفوسهم، وزال عبوسهم وانشرحت خواطرهم، وسرت سرائرهم، وأصغت إليه أسماعهم، ومالت طباعهم وأدى طيشهم إلى أن طاب عيشهم، ولكن أهل السعادة وأرباب السيادة ومن هو متصد لفصل الحكومات والذي رفعه الله لدرجات فانتصب لإغاثة الملهوفين وخلاص المظلومين من الظالمين والمتنبهون بتوفيق الله تعالى لدقائق الأمور وحقائق ما تجري به الدهور، إذا تاملوا في لطائف الحكم، والفرائد التي أودعت في هذه الكلم، ثم تفكروا في نكت العبر وصفات العدل والسير والأخلاق الحسنة والقضايا المستحسنة المسندة إلى ما لا يعقل ولا يفهم، وهم من أهل القول الذي يشرف به الإنسان ويكرم يزدادون ويسلكون بها الطرق المنيرة فتتوفر مسراتهم وتتضاعف لذاتهم، وربما أدى بهم فكرهم وانتهى بهم في أنفسهم أمرهم أن مثل هذه الحيوانات مع كونها عجماوات إذا اتصفت بهذه الصفة وهي غير مكلفة وصدر منها مثل هذه الأمور الغريبة والقضايا الحسنة العجيبة فنحن أولى بذلك، فيسلكون تلك المسالك وقد ضرب الله ذو الجلال في كلامه العزيز الأمثال فقال ﴿مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كان يعلمون﴾
وقال سبحانه بعد ﴿ذلك وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ وقال سبحانه ما أعظم شأنه ﴿يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيأ لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ وقال تعالى ﴿إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها﴾ وقال تعالى ﴿وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون﴾ وقال تعالى ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً﴾ وقال تعالى ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين﴾ أسند سبحانه وتعالى الأفعال والأقوال إلى الجمادات بعدما وجه الخطاب إليها وقال تعالى ﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم﴾ وكل ما جاء في هذه الطريقة فأنه بالنسبة إليه تعالى حقيقة، لأنه قادر على كل شيء وسواء عنده الميت والحي ولا فرق في كمال قدرته بالنظر إلى قدرته ومشيئته وتصوير كمال عظمته وهيبة بين الناطق والصامت والنامي والجامد والشاهد والغائب والآتي والذاهب كما لا فرق في هذا الكمال بين الماضي والاستقبال، وقال تعالى ﴿فما بكت عليهم السماء والأرض﴾
…
وهذا أمره مستغيض مشهور معروف بين الأنام غير منكور، والحصر في هذا المعنى يتعسر والاستقصاء يتعذر وإنتما الأوفق التمثيل والتنظير والاستدلال بالقليل على الكثير، فيتفكه السامع تارة ويتفكر أخرى ويتتقل في ذلك من الأخفى إلى الأجلى ويتوصل بالتأمل من الأدنى إلى الأعلى، ومن جملة ما صنف في ذلك واشتهر فيما هنالك وفاق على نظائره بمخبره ومنظره وحاز فنون الغطنه كليله ودمنه، والمتمثل بحكمة الطباع كتاب سلوان المطاع والمفحم بنظمه العجيب كل شاعر وأديب، معجز الضراغم الصادج والباغم، وفي غير لسان العرب ممن يتعاطى فن الأدب جماعة رضعوا أفاويقه وسلكوا من هذا النمط طريقة، لكن تقادم عصرهم واشتهر أمرهم وتكرر ذكرهم وصارت مصنفاتهم مطروقة وعتاق نجائبها في ميدان التأمل عتيقة، ففلذت من دهري فلذه وعملت بموجب لكل جديد لذة وسيرت فارس الأفكار في ميدان هذا المضمار، وقصدت من الفائدة ما قصدوه ومن العائدة في الدارين ما رصدوه، وجمعت ما بلغني عن نقله الأخبار وحملة الآثار ورواة الأسفار على لسان شيخ اللطائف ومنبع المعارف وإمام الطوائف ومجمع العوارف ذي الفضل والإحسان، أبي المحاسن حسان، ووضعت هذا الكتاب نزهة لبني الآداب وعمدة لأولي الألباب من الملوك والنواب والأمراء والحجاب، وجعلته عشرة أبواب ومن الله أسمد الصواب وأستغفره من الخطأ في الجواب أنه رحيم تواب كريم وهاب (وسميته فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)
كتبها أبو محمد أحمد بن محمد، المعروف بابن عربشاه (المتوفى: 854هـ)
رابط تصفح الكتاب من المكتبة الشاملة https://shamela.ws/book/12726
رابط تحميل نسخة من الكتاب (PDF) https://archive.org/details/old_20201024