ممل لكن خطير جدًا! .. كيف يتجاهل مستثمرو سوق الأسهم أخطر جزء في البيانات المالية للشركات؟
في الشطرنج، حيث يكون لقطع اللعب حركات مختلفة وغريبة، بقيم متنوعة ومختلفة، يُخلط دائمًا بين ما هو معقد فقط وما هو عميق، وهنا يأتي دور شحذ الانتباه بشكل كبير؛ فإذا ضعف الانتباه للحظة، يُرتكب سهو بالتبعية يؤدي لخسارة أو هزيمة؛ فالحركات الممكنة ليست متنوعة فقط بل معقدة، وتُضاعف فرص حدوث مثل هذا السهو، وفي تسع حالات من عشر يفوز اللاعب الأكثر تركيزًا وليس الأكثر ذكاءً.
وربما لا يوجد ما هو أشبه بلعبة الشطرنج من سوق الأسهم، ولكن الرقعة هنا هي البيانات المالية للشركات، واللاعبون هم المستثمرون، بنفس المنطق ووفق ذات المعطيات، يوجد للمستثمر الأكثر تركيزًا فرصة أكبر في تحقيق الربح والنجاح في هذا السوق الصعب أكبر بكثير من نظيره الأكثر ذكاءً؛ لأن المستثمر غير الملول وصاحب القدرة الكبيرة على التركيز على أدق التفاصيل لن يفوته أبدًا فحص جزء مهم وحرج جدًا في التقارير المالية للشركات يسمى “الإيضاحات”.
جزء لا يتجزأ من القوائم المالية
“تعتبر الإيضاحات المرفقة من 1 إلى (–) جزءًا لا يتجزأ من هذه القوائم المالية”.. بهذه العبارة تذيل كل الشركات المدرجة في السوق السعودي كثيرًا من صفحات تقاريرها المالية المصدرة بشكل دوري، وهذا ليس تطوعًا منها بل قاعدة محاسبية ملزمة لكل الشركات كي تلفت نظر جمهور المستثمرين إلى أن فهم حقيقة الوضع المالي للشركة لا يستقيم أبدًا بدون الجزء الخاص بالإيضاحات والذي عادة ما يحتل أكثر من نصف صفحات البيان المالي.
يكذب مَن يدعي أنه باستطاعته فهم البيانات المالية للشركة بمجرد إلقاء نظرة على القوائم المالية الثلاث المعروفة (الميزانية وقائمة الدخل وقائمة التدفقات النقدية) دون قراءة الجزء الخاص بالإيضاحات، وذلك لأنه من المستحيل عمليًا أن يكون لهذه الأرقام المتراصة فوق بعضها في القوائم المختلفة أي معنى في غياب ما يفسرها ويوضح سياقها بشكل صريح.
ورغم أهميتها الواضحة إلا أن أكثر مستثمري سوق الأسهم لا ينتبهون إلى “الإيضاحات”، وربما الأصح هو أنهم يعزفون عن قراءتها؛ وذلك لأسباب كثيرة ربما أهمها هو أن هذا الجزء تحديدًا من البيانات المالية يبدو للوهلة الأولى مملًا لاحتوائه على كمية هائلة من التفاصيل المكتوبة بشكل لا يشجع على القراءة، وإدارات الشركات تدرك هذا جيدًا وتعيه، لذلك يحرص بعضها على دفن معلومات في غاية الأهمية وسط هذا الركام من التفاصيل التي نادرًا ما ينظر إليها أحد.
تنظر إليه ولا تراه!
في عام 2010 كشفت شركة الإلكترونيات اليابانية “أولفاك” عن نتائج مالية سيئة تخص أعمالها في عام 2009، حيث تراجعت مبيعات الشركة بنحو 7%، بينما هوى ربحها التشغيلي بواقع 62% على أساس سنوي.
ولكن في العام التالي فاجأت “أولفاك” الجميع حين أعلنت تمكنها من الحفاظ على ثبات مبيعاتها تقريبًا، وزيادة ربحها التشغيلي خلال عام 2010 بنسبة 38%.
على الفور، زادت شعبية السهم في بورصة طوكيو وتحمس له كثير من المستثمرين الذين أثار إعجابهم صافي الربح المعبر عنه في صورة رقم مطلق في نهاية قائمة الدخل التي كشفت عنها الشركة، ولكن ما لم ينتبه إليه جل المشاركين في السوق هو الكيفية التي تمكنت بها الشركة من تحقيق هذه الارتدادة المثيرة للإعجاب.
لكي تحقق الأرباح التي أعلنت عنها، فإن كل ما فعلته “أولفاك” هو أنها غيرت طريقة اعترافها بإيراداتها من طريقة “العقد المنجز” إلى طريقة “نسبة الإتمام أو الإنجاز” والتي تسمح للشركة بإثبات الإيرادات المترتبة على العقود طويلة الأجل على أساس نسبة تكاليف ما تم إنجازه خلال تلك الفترة إلى إجمالي التكاليف التقديرية اللازمة لإنجاز تلك العقود، وذلك على عكس الطريقة الأولى التي لا تسمح بتسجيل الإيرادات إلا بعد إكمال العقد.
على عكس ما قد يتبادر إلى أذهان بعضكم، لم تخالف الشركة القانون ولم تخدع المستثمرين؛ لأنها ببساطة أشارت إلى ما فعلته في الجزء الخاص بالإيضاحات الموجود أسفل تقريرها المالي، أما الجزء الأكثر إثارة للسخرية، فهو أن “أولفاك” ذكرت نصًا في سطر شارد بالإيضاحات أنها وفق طريقتها السابقة في الاعتراف بالإيرادات قد حققت خسارة صافية خلال عام 2010.
هذه المعلومة كانت موجودة هناك وتحت أنظار الجميع، ولكن لم يرها أو ينتبه إليها أحد، هل فعلت الشركة ما فعلته بسوء نية؟ لا يهم، وفي الحقيقة أن المستثمر ليس لديه إلا نفسه ليلومها.
معلومات مهمة لن تجدها إلا في الإيضاحات
قبل واقعة “أولفاك” بخمسة أعوام تقريبًا، وتحديدًا في ديسمبر 2005، قامت شركة “أوبنيوف سيستمز” الأمريكية بتعديل سياسة اعترافها بالحسابات المستحقة القابلة للتحصيل كإيرادات، ما فعلته “أوبنيوف” ببساطة هو أنها اعتمدت سياسة محاسبية جديدة تسمح لها بالاعتراف فورًا بالحسابات المستحقة كإيرادات بغض النظر عن الحالة المالية للعميل وما إذا كانت الأموال التي لديه قابلة أو غير قابلة للتحصيل، وذلك بعد أن كانت في السابق تنتظر حتى تستلم المال من العميل لكي تعترف به كإيراد.
على إثر هذا التعديل المحاسبي بدت إيرادات الشركة أفضل مما هي عليه في الواقع، واستمر سعر السهم في الارتفاع حتى وصل إلى أعلى 20 دولارًا في مارس 2006، ولكن المستثمرين أصحاب العين المدربة اكتشفوا بسهولة ما حدث وذلك لأن الشركة أشارت إلى ما فعلته في سطرين أو ثلاثة بقسم الإيضاحات في تقريرها المالي، أما الأغلبية الكاسحة من المستثمرين فلم تكن لديهم فكرة عما حدث، وظلوا محتفظين بالسهم حتى هبط إلى 6 دولارات في يوليو من نفس العام.
وبعيدًا عن فكرة التلاعب المحتمل بالإيرادات والمستثمرين الذي من الممكن أن يتم دفنه في الإيضاحات، تحرص أكثر الشركات على ذكر معلومات مهمة وجوهرية في قسم الإيضاحات لا يوجد مجال لذكرها في القوائم المالية المعروفة، على سبيل المثال تضمنت الإيضاحات الواردة في البيان المالي الصادر عن شركة “آبل” في نهاية العام المالي 2011 التحذير التالي:
“اعتبارًا من 24 سبتمبر 2011 واجهت الشركة إجراءات ودعاوى قانونية مختلفة تمت مناقشتها أدناه، بالإضافة إلى بعض الإجراءات القانونية الأخرى التي لم تتم تسويتها بعد، ووفقًا لتقدير الإدارة فإنه لا يوجد احتمال معقول بأن تتكبد الشركة خسائر مادية على إثر تلك الدعاوى، ومع ذلك فإن نتيجة الإجراءات والدعاوى المرفوعة ضد الشركة تخضع لشكوك كبيرة”.
من لم يقرأ ركن الإيضاحات من مستثمري آبل على الأرجح لن يكون لديه أي فكرة عن أن الشركة تواجه خطر دعاوى قضائية مرفوعة ضدها، وهذه معلومة مهمة جدًا قد تؤثر في القرار الاستثماري؛ لأنه على الرغم من أن الشركة الأمريكية قالت إنها لا تتوقع أي خسائر مادية من تلك الدعاوى إلا أنها أشارت أيضًا إلى احتمال أن يكون تقديرها للأمر خاطئًا.
ما الذي ستجده في هذا الجزء الممل؟
الإيضاحات دائمًا ما تأتي في نهاية التقرير المالي، وكما أسلفنا تحتوي تلك الإيضاحات على كنز من المعلومات التي قد تكشف عن مشكلات تتعلق بالصحة المالية للشركة، وسبب إدراج تلك المعلومات في الإيضاحات وليس في القوائم المالية هو أنها كثيرة ومتشعبة وإدراجها في القوائم المالية سيؤدي إلى تشويه البيانات ولن يزيد المستثمر إلا حيرة وتشتتًا، ويوجد بالإيضاحات بنود كثيرة ولكن في السطور التالية سنركز على أهمها.
أول شيء ربما ستقع عليه عيناك حين تدقق في الإيضاحات هو ملخص أهم السياسات المحاسبية التي تتبعها الشركة، هذا البند مهم وخطير في الوقت ذاته لأن الشركات العاملة في نفس السوق لا تستخدم بالضرورة نفس السياسات المحاسبية، وكل سياسة محاسبية لها تأثير مختلف على الكيفية التي تظهر بها نتائج الشركة، وقد تقرر الشركة فجأة إدخال تعديل على سياستها المحاسبية، ولذلك يعتبر هذا البند مفتاحًا مهمًا لفهم البيانات المالية للشركة بشكل أفضل.
من بين البنود المهمة أيضًا التي تشتمل عليها الإيضاحات هو البند الخاص بعمليات الاستحواذ والتصفية، في هذا البند ستجد جميع المعلومات الخاصة بأي عمليات استحواذ أو تصفية قامت بها الشركة خلال الفترة التي يغطيها التقرير المالي، والأثر المتوقع لهذه العملية، وعلى الأغلب ستوضح الشركة دور هذه العملية سواء كانت استحواذًا أو تصفية في استراتيجية النمو الخاصة بها.
بند آخر مهم يتواجد عادة في الإيضاحات وهو البند الخاص بالأحداث الجارية المهمة وتأثيرها المتوقع على الشركة والقطاع الذي تعمل فيه، على سبيل المثال، في مطلع العام الجاري، ضربت أزمة وباء “كورونا” العالم وقلبت أموره رأسًا على عقب، وأصبح مصير الكثير من الشركات والقطاعات الاقتصادية محل شك، وعلى إثر ذلك قامت الكثير من الشركات بتوضيح التأثيرات المتوقعة لأزمة “كورونا” عليها وعلى أعمالها بشكل مفصل في قسم الإيضاحات.
أما البند الأهم على الإطلاق في قسم الإيضاحات والذي لا يجب أن يغيب عن نظر أي مستثمر حريص على أمواله هو الذي تتحدث فيه الشركة عن الديون أو القروض، في هذا البند ستجد كل ما يتعلق بديون الشركة طويلة وقصيرة الأمد، فضلاً عن تواريخ استحقاق تلك الديون، وهذا سيساعدك كمستثمر على فهم أشياء كثيرة من بينها حجم الرافعة المالية التي تستخدمها الشركة، ومدى قدرة الشركة على سداد تك الديون في ضوء تدفقاتها النقدية الحرة الموضحة في قائمة التدفقات.
أخيرًا، إن كل ما سبق يشير إلى ضرورة أن يغالب المستثمر ملله ويدرب عينه وذهنه على فحص الإيضاحات الواردة في البيانات المالية بدقة، وكما يتفاخر الرجل القوي بقدرته الجسدية مستمتعًا بالتمارين حين يدفع عضلاته للعمل، فإن المستثمر الذكي يستمتع بالنشاط الذهني المبذول في تحليل أصغر تفصيله في البيانات المالية، عارضًا في كل استنتاج يصل إليه قدرًا من الفطنة والذكاء يبدو لإدراك عامة الناس خارقًا للطبيعة.
[ أرقام – خاص]