«نعمة العقل وثمرته»

  • — السبت يوليو 22, 2023

العقلُ نِعْمَة عظيمةٌ من أَجَلِّ نِّعم الله، ومن خِلالِه يستطيعُ المَرْء أن يدْرِكَ مَا حَوْلَهُ، ويتعلم ما الذي ينبغي عليه أن يأتيه أو يَجتنبُه، وبه يَعرفُ المرء ربه ، ويعرف نفسه ويهذبها ، وُيبصرُ طريقه ويبني علاقات وطِيدَة، ويَعْقد صِلات حميمة مع من حَولَهُ وينتفع هو وينفع غيره.

والآيات القُرآنية كثيرة في بيان نِعْمَة من يستخدمون عقولهم، وقد أفاض المولى سبحانه في مدح من انتفع بعقله بالمواعظ والعبر والآيات، فقال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)} [البقرة]. وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)} [المائدة].

وذم الله سبحانه من عطلوا عقولهم، وفي ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم منها قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)} [يس]. وقال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)} [الأنفال].

قال الماوردي: “واعلم أنّ بالعقلِ تُعرفُ حقائقُ الأمورِ .. ، وبه يَمتَازُ الإنسانُ عن سائرِ الحيوانِ، فإذا تَمَّ في الإنسانِ سُميَ عاقلًا، وخرج به إلى حَدِّ الكمال” .

وقال صاحب المحكم كما في “تهذيب الأسماء واللغات”: العقل ضد الحمق، والجمع عقول، عقل يعقل عقالًا، وعقالًا فهو عاقل من قوم عقلاء.

قال أبو حاتم: “وأفضل ما وهب الله لعباده العقل”، “فالواجب على العاقل: أن يكون بِمَا أحْيَا عقله من الحكمة أكلَفَ (أي أشد تعلقًا وانشغالاً) منه بما أحيا جسده من القوت؛ لأنَّ قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول إذا فَقَدت قُوتَها من الحِكْمة ماتت”.

وقال العلامة ابن قيم الجَوْزية -رحمه الله- في مدارج السالكين: “وحياة العقل: هي صحة الإدراك، وقوة الفهم وجودته، وتحقق الانتفاع بالشيء أو التضرر به، وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه، وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه، ووجوده وعدمه، يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم، ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين” .

فمن هو العاقل؟

العاقل هو الذي يحبس نفسه ويرُدُّها عن هواها، وسُمي العقلُ عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه، وقيل: العقلُ هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان ، والعاقل من اتَّعظَ بِغَيِره، والأَحْمَق أَو الجَاهِل من اتَّعظَ به غيره، والعاقل من يكون حاضر العقل والقلب، فلا طيش ولا ضلال.

قال ابن الأنباري: رجل عاقل، وهو الجامع لأمره ورأيه.

وقال أبو حاتم في روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: “فإن الزمان قد تبين للعاقل تغيره، ولاح للبيب تبدله، حيث يبس ضرعه بعد الغزارة وذبل فرعه بعد النضارة، ونحل عوده بعد الرطوبة وبشع مذاقه بعد العذوبة، فنبع فيه أقوام يدعون التمكن من العقل باستعمال ضد مَا يوجب العقل من شهوات صدورهم، وترك مَا يوجبه نفس العقل بهجسات قلوبهم، جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عَلَيْهِ عند المعضلات: النفاق والمداهنة، وفروعه عند ورود النائبات حسن اللباس والفصاحة، وزعموا أن من أحكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل الذي يجب الاقتداء به ومن تخلف عَن إحكامها فهو الأنوك الذي يجب الإزورار عنه”.

وقد نجد أقوامًا ادعوا التَّمكُن ورجَاحة العقل، غير أنَّهم إلى الشهوات والشُّبُهات يَركُضُون، ومع النِّفاق وسُوء الأَخلاق يَجْرونَ، وهم بذلك يخالفون حتى مسمى العقل، فما سُمي العقلُ عقلًا إلا أنه يَمْنَعُ الإنْسَانَ مِنْ الإِقْدَامِ عَلَى شَهَوَاتِهِ إذَا قَبُحَتْ، ويلزمه صراط الله المستقيم، والعاقل مَنْ عَقَلَ عَنْ اللهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وتمسّك بشرعه.

وثمرة العقل، وفضل العقلاء “معرفة الله سبحانه وتعالى، وأسماؤهُ، وصفاتُ كماله، ونعوتُ جلاله، والايمان بكتبه، ورسله، ولقائه، وملائكته، وبه عُرفت آياتُ ربوبيته، وأدلهُ وحدانيته، ومعجزاتُ رسله، وبه امتُثلتْ أوامره، واجتنبت نواهيه، فهي شجرةٌ عرقُها الفكر في العواقب، وساقها الصبر، وأغصانها العلم، وورقها حسن الخلق، وثمرها الحكمة، ومادتها توفيق من أزمة الأمور بيديه، وابتداؤها منه، وانتهاؤها إليه”.

قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: “لقد سبق إلى جنات عدنِ أقوامٌ ما كِانوا بأكثر الناس صلاةَ، ولا صيامًا، ولا حجًّا، ولا اعتمارًا، لكنهم عقلوا عن الله مواعظه، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، ففاقوا الناس بطيب المنزلة، وعلوّ الدرجة عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة”. وقالت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: ” قد أفلح من جعل الله له عقلًا”.

وعلى المسلم أن ينزل العقل منزلته اللائقة به، وهي وسط بين طرفين:

الطرف الأول: من جعل العقل أصلاً كليًا أوليًا، مستقلًا بنفسه عن الشرع، مستغنيًا عنه.
الطرف الثاني: من أعرض عن العقل، وذمه وعابه، وقدح في الدلائل العقلية مطلقاً.

وأهل الوسط في ذلك هم أهل السنة والجماعة، فقالوا :

١ – إن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال الأعمال وصلاحها؛ لهذا كانت سلامة العقل شرطًا في التكليف، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، وتدبر القرآن يكون بالعقول؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: ٨٢]، فالعقل هو المدرك لحجة الله على خلقه.
٢ – إن العقل لا يستقيم بنفسه، بل هو محتاج للشرع.
٣ – إن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به.
٤ – إن الشرع دلّ على الأدلة العقلية، وبينها، ونبَّه عليها .

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: “إذا تعاضد النقلُ والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدَّم النقلُ فيكون مَتْبُوعًا، ويتأخر العقلُ فيكون تابعًا؛ فلا يَسرح العقلُ في مجال النظر إلا بقَدَر ما يُسرِّحه النقل”.

هذه ثمرة العقل، وفضل العقلاء، أما من طَالَع أحوالَ الجَهلة يَرى عَجَبًا لسُوء أخْلاقهم مع ما عندهم من نِعَمة العقل، ولقد أحسن الذي قال:

وَأَفضَلُ قَسمِ اللَّهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ .. فلَيسَ مِنَ الخَيراتِ شَيءٌ يُقارِبُه
إِذا أَكمَلَ الرَّحمنُ لِلمَرءِ عَقلَهُ .. فَقَد كَمُلَت أَخلاقُهُ وَضَرائِبُه
يَعيشُ الفَتَى بِالعَقلِ في الناسِ إنَّهُ .. على العَقلِ يَجري عِلمُهُ وتَجارِبُه
وَمَن كانَ غَلاباً بِعَقلٍ وَنجدَةٍ .. فَذو الجَدِّ في أَمرِ المَعيشَةِ غَالِبُه
يَزينُ الفَتَى في النَّاسِ صِحَّةُ عَقلِهِ .. وَإِن كانَ مَحظُوراً عَلَيهِ مَكاسِبُه
ويُزرِي بِهِ في الناسِ قِلَّةُ عَقلِهِ .. وإِن كَرُمَت أَعراقُهُ وَمَناسِبُه

والله الموفق للسداد والهادي إلى الرشاد، وإياه أسأل إصلاح بالأسرار وترك المعاقبة على الأوزار إنه جواد كريم رءوف رحيم


[من “موسوعة الأخلاق” لخالد الخراز]