جاء في كتاب “فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء” لإبن عربشاه الذي وضع الحكم والأمثال والعبر على ألسنة الحيوانات؛ الوحوش والطيور والحيتان والهوام، عل الإنسان المكرم علي سائر الأنام بالعقل يتعظ أو يرعوي.
من تلك القصص قصة صغيرة عن الفأرة ورئيس الحارة، والقصة كما سيتضح لا تخلو من بعض السذاجة، بيد أنها تصلح كهدية متواضعة ونصيحة مجانية للمتصارعين علي المناصب في كل زمان ومكان: المتشبثون بكراسيها ، والحالمين بنعيمها المادي الزائل، والساعين إلى مجدها الكذوب الخادع. فإلى القصة (مع بعض التصرف):
“بلغني أيها النفيس أنه كان رئيس ضيق العطن، له زوجة ذات صيانة ودين وأمانة، لم تزل تتجنب الخيانة وتتعاطى العفة والرزانة، وله دجاجة تبيض على الدوام فيسرق بيضها “أبو راشد” وهم نيام، فإذا افتقد الرئيس بيضته طالب به زوجته، فتحلف أنها ما رأتها ولا تعرف يدا أخذتها، فيؤلمها سبا ويوجعها ضربا ولا يصدق قولها ولا يرحم عولها، ففي بعض الأحيان رأته الزوجة وهو يجر البيضة إلي حجره وقد بلغ بها باب وكره، فدعت بعلها لتريه الفأرة وفعلها، فعلم براءة ساحتها وعمل على راحتها وأعتذر إليها وطلب الفأرة وحنق عليها، وأعمل المكيدة ونصب للفارة دون البيضة مصيدة.
فلما رأت الفأرة الشرك علمت أن وراءه الدرك فشعرت بما وضع عليه فلم تتقدم إليه، إلى أن زار الجرذان أحد أقاربه من الفئران فلم يجد شيئا يضيفه فاعتذر إلى الضيف بما هو مخيفه وأراه من البيضة سعاد وأن دونها خرط القتاد، وكان الضيف الغر لا يعرف هرا من بر، فحمله السفه والحرص والشره على أن قال أنا أخوض هذه الأهوال وأرد من الموت حوضه وأصل إلي هذه البيضة، ثم قصد المصيدة فقبضت وريده وفجعت به وليده ووديده، فتنكدت الفأرة وتكدرت والتقطت أحشاءها وتسعرت، وتألمت ضيفها وبلغ جيرانها حديث حيفها، فخجلت منهم واختفت عنهم وشاعت قضيتها وذاعت بليتها، فلم تجد لبرد النار سوى أخذ الثأر.
فأخذت تفتكر في وجه الخلاص فرأت أنها لا تخلص من عتب الجيران إلا بالقصاص، فشرعت في أخذ الثأر من صاحب الدار، وكان لها صاحبة قديمة عقرب خبيثة لئيمة، معدن السموم في زبان إبرتها وطعم المنايا مودع في شوكتها، فتوجهت إليها وترامت عليها قالت، إنما تدخر الأصحاب للشدائد ولدفع الضرر والمكايد، وإنزال الداء بساحة الأعداء ولأخذ الثأر والانتقام من المعتدين اللئام، وقصت عليها القصة وطلبت منها إزاحة هذه الغصة، وأن تأخذ لها بضرباتها القصاص ليحصل بين جيرانها من العتب الخلاص.
فأجابتها إلي ما سألت وأقبلت إلي وكرة الفارة بما اقتبلت وأخذا في إعمال الحيلة. فأدت أفكارهما الوبيلة إلي أن تخدعا صاحب البيت بالذهب وتلقياه بذلك في اللهب، ثم أمهلا إلي أن دخل الليل وشرعا في إيصال الويل، فأخرجت الفارة دينارا وألقته في صحن الدار ووضعت آخر عند جحر الفار، وأظهرت نصف دينار من ذلك الذهب وسترت النصف الآخر عند العقرب، واستترت العقرب تحت ذيل الكمون، وقد عبت في زبانها ريب المنون.
فلما أصبح الصباح ونودي بالفلاح وجد صاحب الدار في وسطها الدينار فتفاءل بسعد نهاره ولم يعلم أنه علامة دماره، ففتح عينيه ونظر حواليه، فرأي عند جحر الباب أخا الدينار، ففرح وطار ونشط واستطار وزاد في الطلب على بقية الذهب، فرأي نصف دينار داخل جحر الفار فمد يده إليه وقد أعمى القضاء عينيه عما قدره الله عليه، فضربته العقرب ضربة قضى منها نحبه، فبرد مكانه ولاقى هوانه، وأخذت الفارة ثأرها وقضت من عدوها وطرها.”
الفائدة من القصة : مَنْ عاش بالحيلة والمكر والخداع مات بالفقر ؛ فمن مكر بالباطل مُكر به، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خُدع!