من أهم الفضائل وأسمى الأخلاق وأنبل الصفات التي اهتم بها الإسلام ودعا إليها وحث عليها: خلق التواضع؛ وهو زينة الأخلاق!
ومن أعظم النعم التي ينعم الله بها على عبده «نعمة التواضع» بأن يألف ويؤلف، أن يكون هينا لينا قريبا سهلا سمحا.
والتواضع خلق الكبار، وله تأثير عجيب في تماسك الأفراد والمجتمع، فلا يدعه حتى يصير كل أفراده على قلب رجل واحد، فلا يشقى بينهم يتيم، ولا يضيع وسطهم محروم، ولا يظلم في جوارهم ضعيف.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال -ﷺ-: «ما من آدمي إلا في رأسه حَكَمَة بيد مَلَك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته» حسن
وعلق المناوي على هذا الحديث «ما من آدمي…» في كتاب “فيض القدير” بقوله: “من زائدة وهي هنا تفيد عموم النفي، وتحسين دخول ما على النكرة «إلا في رأسه حكمة» وهي بالتحريك: ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام، والحنك متصل بالرأس (بيد ملك) موكل به «فإذا تواضع) للحق والخلق «قيل للملك» من قبل اللّه تعالى «ارفع حكمته» أي قدره ومنزلته، يقال: فلان عالي الحكمة، فرفعها كناية عن الإعزاز «فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته» كناية عن إذلاله، فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه، فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه، وفي الآخرة نار الإيثار، وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار”
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: (وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع).
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (إن الرجل إذا تواضع لله رفع الله حكمته. وقال: انتعش نعشك الله، فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس كبير، وإذا تكبر العبد وعدا طوره، وهصه الله إلى الأرض، وقال أخسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس صغير).
وقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (إنكم لتغفلون أفضل العبادة: التواضع).
يقول ابن حبان في “روضة العقلاء ونزهة الفضلاء” : (الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره، والتواضع نوعان: التواضع المحمود ويكون بترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم، والتواضع المذموم وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه).
سيد المتواضعين رسول رب العالمين
كان -ﷺ- سيد المتواضعين، جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ وقال له رجل: يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله -ﷺ-: «يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله».
وكان من تواضعه -ﷺم- يقول: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»، أراد به استكانة القلب والتواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين.. قال ابن تيمية: فالمسكين المحمود هو المتواضع الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال بل قد يكون الرجل فقيرا من المال وهو جبار، فالمسكنة خلق في النفس وهو التواضع والخشوع واللين ضد الكبر، كما قال عيس عليه السلام: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32)}[ سورة مريم]
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال -ﷺ-: «يا عائشة، لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا».
قالت: وكان رسول الله -ﷺ- بعد ذلك لا يأكل متكئا: يقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم. وقال أيضاً : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -ﷺ- فتنطلق به حيث شاءت.
وعن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -ﷺ- يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم .
وعن الحسن البصري -رحمه الله- أنه ذكر رسول الله -ﷺ- فقال “لا والله ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزا من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، وكان يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، يلبس الغليظ، ويركب الحمار ويردف عبده ويعلف دابته بيده صلى الله عليه وسلم.
همسة في أذن كل متكبر معاند مغرور:
ذكر الإمام القرطبي -رحمه الله- في التذكرة في أحوال الموت وأمور الآخرة : “إذا كانت الهداية إلى الله تعالى مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة، والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخر بمتاع غيره، وربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبت عليها الريح العقيم، كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم، فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم، ذلك من فعل العزيز الحليم الخلاق العليم”.
قال الشاعر :
وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إلَّا تَوَاضُعًا . . فَكَم تَحْتَهَا قوم هُم مِنْك أرفعُ
فإن كنت فِي عز وخير ومنعة . . فَكَم مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمْ مِنْك أمنعُ
هذا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيد المتواضعين وإمام المتقين وخاتم الأنبياء والمرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.