«عن الرَّحْمَة بين الناس»

  • — الإثنين أغسطس 21, 2023

إن الرَّحْمَة كلمة صغيرة.. ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها، والشمس في حقيقتها.

لو تراحمَ الناس؛ لما كانَ بينهم جائع ولا مَغبون ولا مهضوم. و لأقفرت الجُفون مِن المَدامع، ولا طمأنت الجُنوب في المضاجِع، ولَمَحت الرحمة الشقاء مِن المُجتمعِ كما يمحو لِسان الصُّبح مداد الظلام.

الفَرد هو المُجتمع، وإنما يَتعدد بتعدد الصُّوَر.
أتدري متى يكون الإنسان إنسانًا؟ متى عَرَفَ هذهِ الحقيقة حق المَعرفة وأشعرها نفسه.

إن مِن الناسِ من تكون عنده المعونة الصالِحة للبرِّ والإحسان فلا يفعل. فإذا مشى مشى مندفعاً مندلثاً لا يلوي على شيء مما حوله من المناظرِ المؤثرة المحزنة. وإذا وقعَ نظره على بائسٍ لا يكون نصيبه منه إلا الإغراق في الضحك سخريةً به وببذاءةِ ثوبه. وإن من الناسِ من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيفَ يحتلب درتهم ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته، لا يطعمها ولا يسقيها إلا لما يترقب من الربحِ في الاتجار بألبانها وأصوافها. (وهذا النوع) لو استطاعَ أن يهدم بيتًا ليربح حجرًا لفعل!

وإن من الناسِ لا حديث له إلا الدينار والدرهم وأينَ مستقره وكيف الطريق إليه وما السبيل إلى حبسهِ والوقوف في وجههِ والحيطة لفراره. يبيتُ ليله حزيناً كئيباً لأنَّ خزانته ينقصها درهم كانَ يتخيَّل في يقظتهِ أو يحلم في منامهِ أنه سيأتيه فلم يقيض له.

وإنّ من الناسِ من يؤذي الناس لا يَجلب لنفسه بذلكَ مَنفعةً أو يدفع عنها مضرة، بل لأنهُ شرير يدفعهُ طبعه إلى ما لا يعرف وجهه أو ليضرِّي نفسه بالأذى مخافة أن ينساه عند الحاجة إليه. حتى لو لَمْ يبقَ في العالمِ شخص غيره لكانت نفسه مدب عقاربه وغرض سهامه.

وإنّ مِن الناسِ مَن إذا كشفَ لكَ أنيابه رأيتَ الدم الأحمر يَترقرق فيها، أو عن أظافرهِ رأيتَ تحتها مَخالب حادة لا تسترها إلا الصورة البشرية، أو عن قلبِهِ رأيتَ حجرًا صلدًا من أحجارِ “الغرانيت” لا يبضّ بقطرةٍ من الرحمة، ولا تخلص إليه نسمة مِن العظة.

أيُّها الإنسان؛ احْذر الحذر كله أن تكونَ واحدًا مِن هؤلاءِ فإنهم سباع مُفترسة وذئاب ضارية.

فيا أيُّها الإنسان؛ ؛ ارحَم!

ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها، ويعبث الهم بقلبها، فتؤثر الموت على الحياة.

ارحم الزوجة أم ولدك، وقعيدة بيتك، ومرآة نفسك، وخادمة فراشك؛ لأنَّها ضعيف؛ ولأنَّ الله قد وكل أمرها إليك، وما كان لك أن تكذب ثقته بك.

ارحم الفقير الذي لا يمتلك أيّ شيء، و ارحم المسكين الذي يملك القليل ولا يكفيه لتغطية احتياجاته الأساسية.

ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه، ونفسه، فإنَّك إلا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين.

ارحم الجاهل، لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرًا تربح فيه، ليكون من الخاسرين.

أيها السعداء المقتدرون، أحسنوا إلى البائسين والفقراء والمساكين، وامسحوا دموع الثكالى، وساعدوا العاطلين ليتعففوا، و”ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.

[ من مقال لمصطفى لطفي المنفلوطي (رحمه الله) بتصرف] .