وضع الإسلام ضوابط لتزكية الناس أو ذمهم، فجعل معرفة الموصوف معرفة جيدة شرطا في وصفه بالخير أو الشر ، كما حذر من وصف الإنسان بما ليس فيه والمبالغة في المدح الزائد والإطراء المتكلف.
جاء في صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال : « المدح هو الذّبح، المدح هو الذّبح ، المدح هو الذّبح – كررها ثلاثاً- إن كان أحدكم لا بد مادح أخاه فليقل : إني أحسبه كذا وكذا والله حسيبه ولا أزكّي على الله أحداً»، وقد صح عنه ﷺ أنه قال : «إياكم والتمادُح فإنه الذَّبحُ»
وزجر النبي ﷺ رجل أَثْنَى على رجل عِنْدَه فَقَالَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ» مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ» رواه البخاري في صحيحة.
تكرار النبي ﷺ ؛ تحذيرا وتنبيها لهول الكلمة، فربما جره ذلك المدح إلى العجب والغرور، فيصبح كالمقطوع الرأس المتوقف عن الحركة فيضره ويهلكه، فإذا كان لا بد من المدح؛ لأن المقام يقتضي التزكية، أو الثناء لمصلحة مشروعة أخرى، فليقل: «أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه»، وليقتصر على وصفه بما يعلم فيه من خصال الخير الموجودة ، ويقول أثناء وصفه له: أحسبه كذا، فلا يقطع ولا يجزم بعاقبة أحد بخير أو غيره؛ ولا يقل: أتيقن ولا أتحقق أنه محسن، جازما به.
قال الإمام الغزاليّ -رحمه الله-: “والمدح يدخله ست آفات، أربعا في المادح واثنتين في الممدوح.
فأما المادح :
فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب .
والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقد لجميع ما يقوله فيصير به مراء منافق.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه.
الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز،
وأما الممدوح فيضره من وجهين : أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان.
الثاني: هو أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصرا فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام «قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح».
ثم قال -رحمه الله-: ” اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح.”
والمداحون موجودون قدم التاريخ، وهؤلاء يسارعون إلى مدح من يرون أنه سبب في تحقيق مصالحهم، فلا يضيعون الفرصة ولو على حساب مبادئهم ؛ فيمدحون بما ليس في الممدوح؛ بألفاظ منمقة وبعبارات “غلو” مرفقة متكلفة، وكأن الدنيا بين أيديهم معلقة!
وكان سلف هذه الأمة، رضي الله عنهم، إذا بلغ أحدهم المدح قال: “اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون”.. وبعضهم كان يبكي مما قاله المادحون عنه!
وفي الحياة المعاصرة مر بنا أُناس عظماء لا يعيرون الأمر التفاتة، ويواصلون رسالتهم كما هم دون تأثر بالمدح المتزلف، والاطراء المتكلف!
قد نحتاج لمدح الناجحين والثناء على المُتميِّزين ولكن بقدر واتزان؛ يُراعي فيه مقام الحال والزمان، مع الحذر من المُبالغة والزيادة، والضابط: أن لا يكون في المدح مجازفة، ويؤمن على الممدوح الفتنة والإعجاب والغرور وتضخيم “الـ أنا”!!
وتذكروا دائما.. أن إذا سمعتم لمن يقولون فيكم ما ليس فيكم، فلا تأمنون أن يقولوا فيكم ما ليس فيكم، و «احثُوا في وجوه المدَّاحينَ التُّرابَ»!
أسألُ الله أن يُصلِح قلوبنا وألسنتنا وأعمالنا .