يتعين على المدن الذكية أخذ المخاطر الرقمية على محمل الجد وفرض متطلبات الأمان الرقمي (السيبراني) عبر جميع الأجهزة المتصلة بالشبكة العنكبوتيّة (الإنترنت) لتصبح أكثر ذكاءً ولا تتسبب بمصائب للبشر.
يزداد الزخم حول العالم لبناء مدن أكثر تطوراً من الناحية التقنية، فيما يعرف باسم “المدن الذكية”.
وثمة العديد من التعريفات للمدن الذكية بقدر عدد المدن التي تدعي أنَّها ذكية، حسب التعبير الذي ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن المدن الذكية بقدر ما تقدم لنا وعداً مغرياً بحياة آمنة وسهلة ومنظمة، فإنها في حقيقة الأمر تسيطر على حياتنا، إنها تراقب كل تصرف نقوم به، إنها تعلم عنا أكثر مما نعلم عن أنفسنا.
ولكن مخاطر المدن الذكية لا تقتصر على انتهاك خصوصياتنا أو حتى فضحها، بل تنذر المدن الذكية إذا استمرت بشكلها الحالي بكوارث تهدد نمط حياة ملايين البشر.
ما الهدف من المدن الذكية؟
بصفة عامة، فالمدن الذكية هي مدن تستخدم مجموعة من تقنيات الاتصالات والمعلومات –من بينها شبكات اتصال عالية السرعة وأجهزة استشعار وتطبيقات الهاتف النقّال- لتعزيز مرونة التواصل والاتصال وتحسين كفاءة تقديم الخدمات وتحفيز الاقتصاد الرقمي وتحسين كفاءة الطاقة بهدف تمكين السلطات العامة ورفع مستوى رفاهية السكان.
مهما كانت صيغة التعريف المطروحة، يزداد عدد المدن التي تعتمد على تقنيات الاتصالات وتسخير البيانات. يشير أحد التقديرات إلى أنَّ ثمة ما يزيد عن ألف مشروع مدن ذكية قيد التنفيذ حول العالم.
تنتشر التصنيفات والمؤشرات، حيث تأتي عادةً مدن مثل سنغافورة وهلسنكي وسيول وزيورخ على رأس قائمة المدن الذكية في العالم. على الرغم من الحماس العالمي للمدن شديدة الاتصال بالإنترنت، يحمل هذا العالم الرقمي المتصل جانباً مظلماً. علاوة على ذلك، قد تفوق مخاطره في وقتٍ قريب الفوائد المفترضة.
إنها تراقب سكانها عن كثب …
في الواقع، أصبح استخدام كلمة “ذكية” كناية لطيفة عن الخضوع للمراقبة، حسب تقرير المجلة الأمريكية.
نشرت مدن في 56 دولة على الأقل حول العالم تقنيات مراقبة مدعومة بالتنقيب التلقائي عن البيانات وتقنية التعرّف على الوجه وأشكال أخرى من الذكاء الاصطناعي. تعد أنظمة المراقبة صناعة بمليارات الدولارات تقودها الشركات الصينية والشركات العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية مثل “Axis” و” Hikvision” و”Huawei” و”ZTE”. سواء كان مقر الشركة في الصين أو في أي مكان آخر، عادةً ما توصف المدن الذكية بعبارات جذابة مع وعد مُطمئِن بالمستقبل الأكثر خضرة وحركة المرور الأكثر سيولة والشوارع الأكثر أماناً.
ومع ذلك، ثمة مخاوف متزايدة في عدد متزايد من الأماكن -بدايةً من نيويورك إلى هونغ كونغ- بشأن الطرق التي تتعدى بها تقنيات المراقبة واسعة النطاق على حرية التعبير والخصوصية وحماية البيانات. لكن الحقيقة هي أنَّ تقنية التعرف على الوجه والتقنيات ذات الصلة بعيدة كل البعد عن أن تكون السمة الأكثر إثارة للقلق في المدن الذكية.
يرتبط جعل المدن أكثر ذكاءً بحجم نشر وتكامل تقنيات المراقبة فيها، مثل أجهزة الاستشعار وأنظمة جمع البيانات بالقياسات الحيوية (البيومترية). تُشكّل أجهزة الاستشعار الإلكترونية والحرارية والعاملة بالأشعة تحت الحمراء وتقنية الليدار أساس الشبكة الذكية، وهي تنفذ كل شيء بدءاً من تشغيل مصابيح الشوارع وتحسين تدفق حركة المرور إلى اكتشاف الجرائم.
تعتمد بعض المدن هذه الأنظمة الرقمية بسرعة أكبر من غيرها. تضم الصين، على سبيل المثال، 18 مدينة من أكثر من 20 مدينة خاضعة للمراقبة في العالم. تغطي مدينة شنغهاي منطقة وسط المدينة بالكامل بشبكات اتصال الجيل الخامس، بالإضافة إلى 99% نسبة تغطية جميع أنحاء المدينة بشبكة الألياف الضوئية جنباً إلى جنب مع انتشار أنظمة المراقبة بالفيديو وأجهزة التعرف على الوجه في الأماكن العامة والخاصة.
وطائرات بدون طيار تلتقط صور المواطنين في المدن
علاوة على ما سبق، تلتقط مجموعة من الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار والكاميرات الثابتة أكثر من 20 مليون صورة يومياً، وثمة نظام تتبع لحركة الحافلات والمترو وبطاقات الائتمان الخاصة بالسكان المحليين. يتنامى حجم انتشار هذه الأدوات ليس في المدن الصينية فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.
تعمل الشركات الصينية بنشاط على تصدير تكنولوجيا المراقبة إلى دول أمريكا اللاتينية وأجزاء أخرى من آسيا وأفريقيا، الأمر الذي يساعد على تمكين ما يسميه بعض النقاد “الاستبداد الرقمي”.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد كُشف عن عملية تجسس للصين على الاتحاد الإفريقي عبر الاستفادة من بنية الاتصالات بمقر الاتحاد التي بنتها شركة هواوي الصينية (المقر الفخم كله مبني من قبل الصين، وتبين أن جدرانه كانت مليئة بأجهزة التصنت)، وقد كشف مؤخراً عن استمرار عمليات التجسس هذه، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
باتت تقنيات المراقبة منتشرة على نطاق واسع أيضاً في المدن الأمريكية؛ حيث بدأت سلطات إنفاذ القانون والشركات الخاصة في نشر تقنيات مراقبة بدعوى تحسين السلامة والأمن العام والخاص خلال تسعينيات القرن الـ20 والعقد الأول من القرن الـ21. أدت هجمات 11 سبتمبر/أيلول وما أعقبها من إقرار قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي (Patriot Act) إلى تسريع وتيرة انتشار مثل هذه التقنيات بصورة كبيرة.
تصاعد الخوف من المدن الذكية
يبدو أنَّ الدعم المقدم لتثبيت أنظمة التعرف على الوجه آخذ في الانحسار داخل الولايات المتحدة. كانت سان فرانسيسكو أول مدينة رئيسية في البلاد تحظر وكالاتها الأمنية من استخدام تلك الأنظمة في عام 2019. ومع ذلك، رفع ناشطون في مجال الحقوق الرقمية في عام 2000 دعوى قضائية ضد المدينة لاختراقها كاميرات خاصة لمراقبة الاحتجاجات الجماهيرية، وهو ما يشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الجديد.
في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، تتمحور التوترات المتعلقة بالمدن الذكية حول مخاوف بشأن كيفية تمكين تكنولوجيا المراقبة من جمع البيانات الشخصية والاحتفاظ بها وإساءة استخدامها من جهات فاعلة، بدايةً من سلطات إنفاذ القانون إلى الشركات الخاصة.
تركز المناقشات في كثير من الأحيان على مدى تقويض هذه الأدوات للشفافية والمساءلة والثقة. ثمة مخاوف أيضاً (بل وأدلة متزايدة) متعلقة بالكيفية التي قد تكون بها تقنيات التعرف على الوجه متحيزة عنصرياً وغير دقيقة عندما يتعلق الأمر بالمواطنين الأمريكيين أصحاب البشرة السوداء والتمييز ضد الأمريكيين الآسيويين والأفارقة.
يساعد ذلك في توضيح السبب وراء سير 13 مدينة أمريكية على خطى سان فرانسيسكو في حظر تقنيات التعرف على الوجه خلال العامين الماضيين، من ضمنها بوسطن وبيركلي وأوكلاند وبورتلاند.
التهديدات الرقمية كارثة أخطر من انتهاك الخصوصيات
يقلل الانشغال ضيق الأفق بتقنيات المراقبة، رغم كونها مقلقة حقاً، من أهمية التهديدات التي تلوح في الأفق القريب؛ تمثّل المدن الذكية مشكلة محتملة في حد ذاتها لأسباب مختلفة تماماً. حيث تتبنى تلك المدن توجهاً تقنياً يفتح المجال لربط كل الأشياء والأجهزة معاً عبر شبكة الإنترنت، أو كما يُشار إليه بمصطلح “إنترنت كلّ شيء “internet of everything,” “؛ ينطوي هذا التوجه على مستويات غير مسبوقة من المخاطر المرتبطة باتصال مليارات الأجهزة غير الآمنة ببعضها البعض.
وبحلول عام 2025، قد يكون هناك أكثر من 75 مليار جهاز متصل حول العالم يفتقر عدد كبير منها إلى أبسط سمات الأمان الرقمي وأكثرها بدائية، من بينها أدوات مراقبة في الوقت الفعلي مثل الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار وكاميرات المراقبة بالفيديو. كلما أصبحت المدن أكثر اتصالاً، ازدادت مخاطر التهديدات السيبرانية وحجم الضرر الذي قد تلحقه جهات خبيثة. لذا، لا تزال هذه المدن غير مستعدة تماماً لهذه الثورة الرقمية القادمة.
المدن الذكية عرضة لسرقة البيانات والهجمات السيبرانية
تتمثّل إحدى مفارقات العالم شديد الاتصال في أنَّه كلما أصبحت المدينة أكثر ذكاءً، باتت أكثر عرضة لمجموعة واسعة من التهديدات الرقمية، من بينها سرقة البيانات والهجمات السيبرانية، التي قد تؤدي جميعها إلى تقويض أنظمة تشغيلها وقدرتها على توفير الخدمات الأساسية، الأمر الذي يُشكّل تهديداً وجودياً بالنسبة لهذه النوعية من المدن.
أبلغت مئات المدن في جميع أنحاء العالم عن تعرضها لاختلالات كبيرة في شبكات مراكز الاتصال الخاصة بحالات الطوارئ والأنظمة الصحية ومرافق إمدادات الطاقة أو المياه. عندما يتعرض أمن المدينة وخصوصية البيانات للخطر، يقوض ذلك ثقة السكان في الخدمات والأنظمة المتصلة رقمياً بوجهٍ عام، الأمر الذي يجعلهم أقل ميلاً للمشاركة في خدمات الرعاية الصحية عن بعد أو الخدمات الرقمية للمرافق أو فرص التعلم عن بُعد أو الخدمات المصرفية الإلكترونية أو المبادرات الخضراء، وهي مبادئ وركائز أساسية للمدينة الذكية.
التعامل مع المخاطر؟
لكن مع حقيقة أنَّه لا يمكن مواجهة جميع التهديدات الرقمية، تحتاج المدن إلى تأمين آليات قوية لردع الهجمات السيبرانية والرد عليها والتعافي منها مع الحفاظ، قدر الإمكان، على حماية البيانات والخصوصية.
في البداية، يتعيّن على سلطات المدينة الذكية والشركات التقنية والسكان مراعاة تصميم الأمن الرقمي وفقاً لاحتياجات وضوابط محددة. ينبغي تجنّب المراقبة غير المتناسبة التي تقوض الحريات الأساسية أو تنتهكها، لاسيما الخصوصية.
ويتعيّن على الحكومات الوطنية والإقليمية وحكومات المدن أيضاً فرض معايير تضمن أن تكون جميع الأجهزة المعتمدة على الاتصال بالإنترنت المستخدمة في نطاق حدود ولايتها ذات حد أدنى من الحماية الرقمية بكلمة المرور أو آليات المصادقة والتشفير. ينبغي للمدن أيضاً تشجيع محو الأمية الرقمية للأفراد والقطاع العام والخاص والمجتمع المدني للمساهمة في الحد من العديد من التهديدات المحتملة من خلال نشر الوعي الرقمي والتدابير الاحترازية.
وقبل كل شيء، يتعيّن على المدن أخذ المخاطر الرقمية على محمل الجد وفرض متطلبات الأمان الرقمي عبر جميع الأجهزة المتصلة بالإنترنت. ينبغي للمدن معرفة نقاط ضعفها لتصبح أكثر ذكاءً. يتطلب ذلك متابعة واسعة النطاق لتحديد نقاط ضعف الشبكات والأجهزة اللاسلكية وإصلاحها. قد يأتي السعي وراء جعل المدن أكثر ذكاءً على حساب السلامة أو الخصوصية أو الحريات الأساسية. لكن يجب التنبيه إلى أنَّه لا ينبغي حدوث ذلك؛ لأنَّ الفشل في إعطاء الأولوية لتحقيق رفاهية الإنسان وأمنه في عالم يزداد تعقيداً على نحوٍ مطرد هو نوع من الحماقة الخطيرة.
(*) من تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.