“فكِّر عالميَّاً، خطِّط إقليميَّاً، وتصرَّف محليَّاً”
شرعت المملكة في عام 2016م في تبنِّي رؤية وطنيَّة طموحة تستهدف عام 2030م. وعلى الرُّغم من أنَّ المملكة لها تجارب سابقة في الخطط الوطنيَّة قصيرة ومتوسِّطة المدى، مثل خطط التنمية الوطنيَّة التي أُطلقت في السبعينات الميلاديَّة من القرن الماضي، إلَّا انَّ الخطط طويلة المدى لم يتم تبنِّيها من قبل.
تعتبر “الرؤية الوطنيَّة” و “خطَّة التنمية” من المصطلحات التي يتم تداولهما بصورة متبادلة، كلُّ منهما يحمل معنى الآخر، بحيث يصعب التفريق بينهما بصورة واضحة. ولكن على الرُّغم من ذلك فيمكن اعتبار “خطة التنمية الوطنيَّة National Development Plan”، والتي انتشرت عالميَّاً بعد الحرب العالميَّة الثانية، خطَّة للإنفاق العام للدول من أجل توفير بنية تحتيَّة ملائمة لدعم التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
وفي المقابل، وباعتبارها مسعىً أكثر تقدُّماً، فإنَّ “الرؤية الوطنيَّة National Vision” عادةً ما تتجاوز أهداف توفير البنية التحتيَّة أو دعم النموّ لتخاطب قضايا مثل الرفاهيَّة والاستدامة. وفي حين أنَّ معظم دول العالم لديها نوع أو آخر من “الرؤية الوطنيَّة” إلَّا أنَّ الأزمة الماليَّة التي أصابت العالم في 2008م أثَّرت في هذه النزعة المتنامية نظراً لعجز الميزانيَّات وتبدُّل الأولويَّات لمعظم الدول! وعليه، فإنَّ رؤية المملكة 2030 تُعتبر فريدة، ليس فقط لمداها الزمني الطويل الذي يمتد 14 عاماً، ولكن أيضاً لأبعادها المتعدِّدة المرتبطة بالازدهار والرفاهيَّة ولتأثيرها التحوُّلي المؤمَّل على المجتمع.
وعلى الرُّغم من أنَّ رؤية المملكة 2030 يمكن تصوُّرها على أنَّها مجموعة من السياسات، فإنَّ وجود “التخطيط العمراني” كمجال يتعامل مع البيئة الماديَّة يمكن ملاحظته في ثنايا هذه الخطَّة ولكنَّه غير محدَّد بشكلٍ واضح! فعند النظر إلى الأهداف الاستراتيجيَّة الـ 27، وهي تفصيل للأهداف الرئيسيَّة الستَّة للرؤية، يمكن بسهولة تحديد هدف صريح يرتبط مباشرةً بالمشهد الحضري وهو المتعلِّق بالارتقاء بجودة الحياة في المدن. وهذا الهدف نال مزيداً من التركيز عبر تخصيص أحد البرامج الـ 13، التي أُطلقت لتحقيق الرؤية، للمضي قُدماً في تحقيقه وهو برنامج “جودة الحياة 2020”.
وإلى جانب ذلك، نجد أنَّ هناك بعض الأهداف التي ترتبط بالتخطيط العمراني ولكن بصورة ضمنيَّة، مثل هدف استضافة المزيد من الحجَّاج والمعتمرين والذي يستلزم تزويد وإدارة مجموعة واسعة من البنى التحتيَّة الفيزيائيَّة والتقنيَّة، أو هدف تطوير أداء الجهاز الحكومي والذي بدوره يؤثِّر على الإدارة على المستوى الحضري (المحلِّي). وبما أنَّ الأرض هي الحاضن الأساسي للأنشطة البشريَّة، فمن الواضح أنَّ التخطيط العمراني الذي يختص بالاستخدام الأمثل للأرض يمثِّل القناة الأساسيَّة لتحقيق جهود التنمية، وبالتالي فهو بلا شك جزء أصيل من رؤية المملكة 2030، وبصورة تدعو إلى مزيدٍ من الجهود الداعمة والمعزِّزة.
لقد وجدت المدن السعوديَّة اهتماماً كبيراً من القيادة الرَّشيدة للمملكة، ويبرهن على ذلك الرعاية التي وجدها النمو الحضري والتأسيس الجيِّد للبنية التحتيَّة للتجمُّعات الحضريَّة، غير أنَّ المدن السعوديَّة في ظل رؤية المملكة 2030 ستكون بيئة جذب وتحفيز للعديد من التدخُّلات والتجارب الهائلة! إنَّ هدف برنامج “جودة الحياة 2020” هو دخول ثلاث مدن على الأقل ضمن قائمة أفضل 100 مدينة من ناحية جودة الحياة على مستوى العالم، وهذا يُبرِز حتماً الدور الحيوي للتخطيط العمراني في هذا العصر التحوُّلي.
تتَّسم ممارسة التخطيط العمراني في المملكة بالعديد من الاتجاهات وتُحيط بها العديد من التحدِّيات، والتي جميعها ستؤثِّر قطعاً على الخطوات الجارية لتحقيق رؤية المملكة 2030. هذه الاتجاهات والتحدِّيات التي سيتم نقاشها في هذه المقالة تتضمَّن التخطيط الإقليمي، صناعة الأماكن، التنمية العمرانيَّة المستدامة، والحوكمة الحضريَّة.
أولاً .. التخطيط الإقليمي
لقد اجتذب التخطيط الإقليمي مزيداً من الاهتمام في العقود الأخيرة بعد فترة لا يُستهان بها من الإهمال. ويعود ذلك للقناعة المتزايدة بأنَّ التخطيط الإقليمي هو المستوى الوسطي اللَّازم للتحقُّق من السياسات الوطنيَّة على المستوى المحلِّي ولتجميع وبلورة الاحتياجات المحليَّة لتصبح اتجاهات متينة على المستوى الوطني. هذه الفجوة المعترف بها أدَّت لفشل مُحبِط أصاب السياسات الوطنيَّة لفترة طويلة. وكجُهد تعاوني لتخطيط القضايا المشتركة ضمن منطقة جغرافيَّة مشتركة ، وكعمليَّة لربط الأهداف الاجتماعيَّة بالأنشطة الاقتصاديَّة ضمن حيِّز أكبر من مستوى المدينة، اكتسب التخطيط الإقليمي مزيداً من الاهتمام ضمن اقتصاد العولمة والذي أصبحت فيه الأقاليم، عِوضاً عن المدن، بؤراً اقتصاديَّة للاستثمارات الرأسماليَّة.
إلى جانب ذلك، فإنَّ القضايا المعقَّدة والمتصاعدة في الوقت الحاضر، مثل التغيُّر المناخي والكوارث الطبيعيَّة، لا يمكن معالجتها بواسطة المدن المنفردة ولا يمكن حصرها ضمن حدود فيزيائيَّة صارمة. وبالتالي، فليس فقط الاهتمام المتنامي بالتخطيط الإقليمي الذي أصبح مسيطراً على المشهد العالمي، وإنَّما أيضاً الطريقة التي أصبح بها أكثر تكاملاً ليستجيب بنجاح لهذه التحدِّيات المعقَّدة والتي غالباً ما تتجاوز حدود الدول.
يعتبر التخطيط الإقليمي حالياً الاتجاه الأكثر بروزاً في المملكة. وعلى الرُّغم من المحاولات الأوَّليَّة التي تعود إلى الثمانينات الميلاديَّة من القرن الماضي، فإنَّ التخطيط الإقليمي مرَّ بعمليَّة متعثِّرة وحقَّق نتائج متفاوتة. وبالمرور على تلك المحاولات، نجد أنَّ مناطق المملكة ما زالت غير مُستكشفة سواءً في طبيعتها أو في نقاط قوَّتها الكامنة، وهذا أدَّى لاحقاً بدوره إلى انتاج مخطَّطات إقليميَّة أقلّ شموليَّةً وأقل تكاملاً، تفتقد لرؤى واضحة واستراتيجيَّات خاصة بالمنطقة..
إنَّ أهميَّة التخطيط الإقليمي للمملكة وفي هذا الوقت بالذات، يعود إلى عدَّة عوامل. أوَّلاً وقبل كلّ شيء يأتي العامل الدائم والمزمن والمتمثِّل في تركُّز سُكَّان المملكة في ثلاثة محاور للتنمية مع مستوى عالٍ لظاهرة “الهيمنة الحضريَّة” ممثَّلةً في المدن الكبرى. هذه النزعة قادت إلى ظهور الفوارق بين مناطق المملكة إلى جانب التنمية غير المتوازنة، وهي حالة أو وضع لا يجني فيه ثمار التنمية إلا المدن الكبرى فحسب!
عامل آخر لأهميَّة التخطيط الإقليمي يتمثَّل في المشاريع التي تمتد بين عدَّة مناطق، والتي تجعل من التعاون الإقليمي أمر لابدَّ منه، حيث تأتي مشاريع النقل في مقدِّمتها. فمشاريع مثل قطار الشرقيَّة الذي يربط الرياض بالدمَّام، وقطار الشمال الذي يربط المناطق الشماليَّة بالوسطى، وقطار الحرمين السريع الذي يربط ما بين المناطق والمشاعر المقدَّسة، كلُّها تمثِّل مظهراً من مظاهر التخطيط الإقليمي الذي كان سائداً في بدايات القرن العشرين.
إنَّ توفير شبكة فعَّالة تربط ما بين وجهات مختلفة على امتداد البلاد يتطلَّب مخطَّطات إقليميَّة تعمل على تحديد النقاط الأكثر أهميَّة على طول المسار المحدَّد لكل منطقة من أجل استغلال مقوِّماتها لخدمة السكَّان ونقل البضائع وذلك تعزيزاً للتنمية والازدهار، وليس فقط كوسيلة للنقل والتنقُّل. علاوةً على ذلك، فقد تمَّ مؤخَّراً إطلاق عددٍ من المشاريع التنمويَّة الكبيرة، مثل مشروعَي “نيوم” والقديَّة، التي تستهدف مستوىً جديداً من نمط الحياة. إنَّ وجود هذه المشاريع الكبيرة على أراضٍ بكر بعيداً عن التجمُّعات المركزيَّة، ودورها في إعادة تعريف الوجهات ونمط الحياة، إلى جانب أثرها على الاقتصاد المحلِّي، كلَّها تؤكِّد أبعادها الإقليميَّة التي تتطلَّب نهجاً تكامليَّاً ومستداماً. وإذا تمَّ إضافة موجة المدن الصناعيَّة والاقتصاديَّة تحت التطوير حالياً، برغم التحدِّيات الناشئة، فذلك بالتأكيد يسلِّط الضوء على أهميَّة التخطيط الإقليمي كأداة لاتخاذ القرارات والتنسيق من أجل صناعة مشاريع متناغمة على المستوى الأكبر بصورة تتفادى النهج الأُحادي للمشاريع.
وهناك أيضاً عامل ضغط رئيسي يأخذ التخطيط الإقليمي إلى مستوى أعلى من الاهتمام، وهو النظام الجديد لهيئات المناطق والمدن، والذي مكَّن هذه الهيئات من القيام بمهام أوسع وأكثر شموليَّةً فيما يتعلَّق بالتخطيط الإقليمي لهذه المناطق، وزوَّدها بالسُّلطة والميزانيَّة اللَّازمتَين لتكون أكثر فعاليَّةً من مجالس المناطق الحاليَّة، والتي افتقدت لهذه الأدوات الدَّاعمة وواجهت العديد من العقبات.
ثانياً .. صناعة الأماكن
صناعة الأماكن هي مفهوم وممارسة حديثة نسبيَّاً سيطرت على الخطاب المعاصر في مجال التخطيط العمراني منذ التسعينيَّات الميلاديَّة من القرن الماضي. ويُعتبر هذا المفهوم أحدث الاتجاهات الحالية في التصميم الحضري، والذي يتعامل مع التصميم الحضري من منظورَي القيمة الجماليَّة والمعاني الاجتماعيَّة. حيث يركِّز على الاهتمام بالمظهر والصورة البصريَّة للعناصر التصميميَّة للمكان، وفي نفس الوقت يُولي عنايتُه إلى الطريقة التي يستخدم بها الناس المكان بصورة فعَّالة ومتنوِّعة وإلى الكيفيَّة التي أصبح بها المكان جزءً من الذاكرة الجمعيَّة للمجتمع.
جذور “صناعة الأماكن” تعود إلى الفشل الذي أصاب مشاريع التجديد الحضري الكبيرة التي طُبِّقت على مراكز المدن خلال منتصف القرن العشرين. وذلك ممَّا أدَّى إلى أن يكون التركيز الأساسي لمفهوم صناعة الأماكن على “أنسنة” وإعادة تنشيط الأماكن العامة. وفي بداية القرن الحادي والعشرين، بدأ مفهوم صناعة الأماكن يكتسب زخماً إضافيَّاً نتيجة لموجات التحضُّر المتسارعة والتي قادت إلى زيادة تركُّز المزيد من السكان في المدن. ترك هذا الاتجاه مجالاً ضئيلاً، وفي بعض الأحيان معدوماً، للأماكن العامة بوصفها أماكن للتواصل الاجتماعي ونقاط ارتكاز ضمن النسيج الحضري للمدن. وعلى ضوء النزعة المتزايدة للمشاركة المجتمعيَّة التي نشأت ضمن مجال السياسة العامة، أعاد مفهوم صناعة الأماكن تعريف نفسه وتطوَّر كمبادرة تستند على المجتمع، وتمَّ تدعيم ذلك بمجموعة من الأدوات التقنيَّة لتساعد أفراد المجتمع على تحقيق المفهوم عبر خطوات محدَّدة.
يُعتبر مفهوم صناعة الأماكن عنصراً جوهريَّاً ولا غنى عنه لتحقيق جودة الحياة في المدن، وبناءً على ذلك يصبح أهميَّةً قصوى للمملكة. لقد مرَّت المدن السعودية، وبالأخص الكبرى، بعمليَّة تحضُّر مذهلة طُبَّقت من خلالها العديد من أساليب التخطيط العمراني الغربيَّة، والتي أدَّت بدورها للعديد من المشاكل مثل الاعتماد الكبير على السيارات، التمدُّد الأُفقي لحدود المدن، وتدهور المجاورات والأحياء السكنيَّة. ونتيجةً لذلك، نجد أنَّ قِيَم مثل احتياجات المشاة والاحساس بالمكان قد تمَّ تجاهلهما، وهما جزءٌ لا يتجزَّأ من فلسفة صناعة الأماكن!!
هناك حاجة ماسَّة لمفهوم صناعة الأماكن أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ليس فقط لتجديد الأماكن العامة في المدن السعوديَّة، ولكن أيضاً لإعادة اكتشاف المجاورات والأحياء السكنيَّة التي تُعاني من تدهور مستمر من فترة لأخرى ومن ضعف العلاقات الاجتماعيَّة.
أحد أهمّ الأسباب التي تجعل صناعة الأماكن أمراً بالغ الأهميَّة هو التطوير الجاري حالياً لعدد من مشاريع النقل العام في عددٍ من المدن وبالأخص الرياض وجدَّة والدَّمام. إنَّ مشاريع النقل العام القائمة على نظام “المترو” كالتي يجري تطويرها حالياً تحتاج لبيئة كاملة تُساعد على المشى وتتميَّز بجودة المكان كي تكون محفِّزاً على رفع نسبة الإركاب، وذلك في سبيل تعزيز الجودة الاقتصادية لنظام النقل، وهذا ببساطة يعني تبنِّي مفهوم صناعة الأماكن. إنَّ أهم الأماكن لتطبيق هذا المفهوم تتمثَّل في المناطق المحيطة بمحطَّات المترو إلى جانب محطَّات الحافلات الدَّاعمة، وهذا يعني الاهتمام بجزء كبير من الأماكن العامة في المدن السعوديَّة.
فضلاً عن ذلك، فإنَّ الفعاليَّات الثقافيَّة والترفيهيَّة التي يجري الترويج لها ودعمها من قِبل رؤية 2030 تستلزم رفع مستوى المناطق الحضريَّة لتوفير أماكن ذات جودة تعمل على تسهيل الوصول والتواصل الاجتماعي والاستمتاع بهذه الفعاليَّات.
ثالثاً.. التنمية العمرانيَّة المستدامة
أصبح مصطلح “التنمية المستدامة” شائعاً منذ العقد الأخير للقرن العشرين، بعد إطلاقه من قِبل الأمم المتحدة لتحذِّر وبصورة جديَّة من مصير كوكبنا إذا ما استمرَّ استنزافنا للموارد بنفس الوتيرة الحالية! تدعو التنمية المستدامة لنمط متوازن من الانتاج والاستهلاك للسلع والخدمات دون أن يُؤثِّر ذلك سلباً على البيئة الطبيعيَّة. كما أنَّها تؤكِّد على تطوير البيئة المبنيَّة ليس فقط بصورة تحترم الطبيعة وتتناغم معها، وإنَّما أيضاً بصورة تعمل على تعزيز التفاعل بين الناس والشكل العمراني الذي يتواجدون فيه لتحقيق مستوى معيشى ملائم للجميع.
إنَّ القضيَّة الأساسيَّة لمفهوم التنمية العمرانيَّة المستدامة هي ظاهرة “التشتُّت الحضري”، والتي يتم فيها تطبيق سياسة الكثافة المنخفضة، واستراتيجيَّة عدم الخلط بين استخدامات الأراضي، ومبدأ التمدُّد الأُفقي بصورة أصبحت تُسيطر على إدارة ونموّ المناطق الحضريَّة. وهذه الممارسة ستؤدِّي بوضوح إلى الضغط المكثَّف على البنى التحتيَّة بالإضافة إلى زيادة الرحلات التي يقطعها السكَّان يوميَّاً، والذي بدوره يُمهِّد الطريق للمزيد من العواقب الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة.
إنَّ أهداف التنمية المستدامة (SDG)، والتي تمثِّل خطَّة عمل للالتزام العالمي باتجاه 2030، حدَّدت 17 هدفاً تسعى لتحقيقهم ومن ضمن ذلك الهدف الحادي عشر “مدن ومجتمعات مستدامة”. إنَّ المزيد من الاهتمام والالتزام عبَّرت عنه الأجندة الحضريَّة الجديدة، والتي تمَّ تبنِّيها عام 2016 كرؤية عالميَّة لمستقبل أفضل، حيث تعمل على حثِّ السلطات والمجتمعات على إعادة التفكير في ممارسات التنمية العمرانيَّة الحاليَّة والتحوُّل إلى نُهج واستراتيجيَّات أكثر استدامةً.
إنَّ التنمية العمرانيَّة المستدامة للمدن السعوديَّة لم تعُد خياراً وإنَّما خطوة إلزاميَّة! فالممارسات غير المستدامة في التنمية العمرانية للمملكة يمكن رؤيتها من خلال الأعراض المصاحبة لها: تشتُّت حضري، ازدحام مروري، تطوير منخفض الكثافة، إلى جانب فقدان شخصيَّة المكان! يبدو واضحاً أنَّ المدن الرئيسيَّة الكبرى: مثل الرياض، جدَّة، مكة المكرَّمة، المدينة المنوَّرة، والدمَّام جميعها شهدت انخفاضاً متزايداً في الكثافة الحضريَّة أثناء مسيرة نموُّها وتطوُّرها.
كما يمكن ملاحظة عدم الاتِّساق بين نمو سكان الرياض من جهة ونمو الحدود الحضريَّة للمدينة من جهة أخرى، حيث تجاوز معدَّل نمو الحدود المعدَّل الخاص بنمو السكان! وعلى الرُّغم من تطبيق سياسة حدود التنمية لمدينة الرياض إلَّا أنَّه لم يتم تحقيق الكثير من النجاح في منع التنمية العمرانيَّة من التمدُّد والانتشار خارج حدود التنمية!
وتمثِّل مشكلة الأراضي البيضاء التي لم يشملها أيّ تطوير من قِبل مُلَّاكها، على الرُّغم من مواقعها المميَّزة وتمتُّعها بالبنى التحتيَّة الَّلازمة، إحدى المعضلات المستمرَّة في مسار التنمية العمرانيَّة غير المستدامة. وهي على كل حال قد تبدأ في الانخفاض، حيث بدأت السلطات الحكوميَّة في فرض ضريبة على الأراضي البيضاء في محاولة لتشجيع ملَّاك تلك الأراضي على تطويرها.
وعلى الرُّغم من أنَّ التمسُّك والالتزام بالموجِّهات الخاصة بالاستدامة عند تطوير مدن جديدة أو مشاريع تطوير جديدة يبدو أمراً سهلاً وغير قابلٍ للتفاوض، إلَّا أنَّ التعامل مع المناطق الحضريَّة القائمة والتي تُعاني من مشاكل متراكمة يبدو تحدِّياً حقيقيَّاً يدعو للنظر والتدخُّل الفوري. ويمكننا القول أنَّ صناعة المستقبل المزدهر الذي تدعو له رؤية المملكة 2030 يتطلَّب تبنِّي التنمية المستدامة بصورة كاملة في البيئة المبنيَّة كونها تمثِّل الحاضن المكاني لتحقيق الرؤية. وهذا ما يجب التفكير فيه بعناية سواءً للمراكز الحضريَّة القائمة أو مشاريع التطوير الجديدة، ليس فقط لحماية البيئة الطبيعيَّة ولا لتعزيز مستوى معيشي لائق، ولكن أيضاً لدعم التنافسيَّة الاقتصاديَّة للمدن والمناطق في المملكة.
إنَّ النهج الرئيسي لدمج التنمية المستدامة في المراكز الحضريَّة القائمة يتمثَّل في الاستفادة من الفرص المتزايدة التي تُتاح، ومراعاة التكامل بين المشاريع التي يتم تطويرها في نفس الوقت، وتطبيق سياسات خاصة بالمكان تستند على الخصائص المحليَّة ونقاط القوَّة الكامنة.
وإذا حاولنا تطبيق هذا النهج على الرياض، فيمكن القول أنَّ “برنامج جودة الحياة 2030” يمكن اعتباره المظلَّة الشاملة التي تمثِّل الأساس للتنمية المستقبليَّة، بينما يمثِّل مترو الرياض العمود الفقري لهذه التنمية ومفهوم صناعة الأماكن الأداة المعالِجة، وكل ذلك مع استصحاب محدِّدات الموقع والقيود البيولوجيَّة للنظام البيئي للرياض. إنَّ تطبيق هذا النهج من شأنه أن يجعل المدينة تقطع شوطاً بعيداً في التغلُّب على مشاكلها الحضريَّة.
وبالمثل، يمثُّل النهج التكاملي أهميَّة لا غنى عنها، فعلى سبيل المثال يجب أن تأخذ مشاريع التطوير الكبرى وعلى الأخص التي أُطلقت حديثاً في الرياض، مثل مشروع “المسار الرياضي” ومشروع “الرياض الخضراء”، مواقعها ضمن مسار شبكة المترو لتوفِّر منصَّة داعمة لنجاح هذا المشروع الحيوي. هذا من شأنه أن يؤدِّي إلى تأثير مضاعف يتجاوز التأثير الفردي للمشاريع لينتج أماكن ذات جودة.
رابعاً.. الحوكمة الحضريَّة
لقد حدث تحوُّل في ممارسات التخطيط العمراني الحديثة من نمط “الإدارة الحضريَّة” إلى نمط “الحوكمة الحضريَّة” نظراً للعديد من الدَّوافع، مثل الكوارث الطبيعيَّة ذات الأثر المدمِّر على مستوى العالم، وظاهرة التحضُّر السريع مع عواقبه التي لا مفر منها، والتعقيد المتزايد للمشاريع الحضريَّة، والنزعة المتنامية نحو المشاركة المجتمعيَّة في مجال السياسة العامة. كل هذه الدَّوافع أدَّت إلى إعادة التفكير في الطريقة التي يتم بها التعامل مع المناطق الحضريَّة من قِبل السُّلطات المختصَّة.
إنَّ نمط “الإدارة الحضريَّة” الذي يتبنَّى نهج أعلى – أسفل، والذي يميل بطبيعته نحو السيطرة والتوجيه، قد فشل في المعالجة الناجحة للقضايا الناشئة ضمن السياق الحضري. ويُشير نمط “الحوكمة الحضريَّة” إلى العمليَّة التي تتعاون فيها العديد من الجهات الفاعلة مثل الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع في العمل المشترك لتخطيط وتمويل وإدارة المناطق الحضريَّة..
لقد نشأت الممارسة وتطوَّرت في المملكة، وما زالت، على مفهوم الإدارة الحضريَّة، وذلك تحت مُسمَّى “الإدارة المحليَّة”. وهي تُشير إلى الطرق التي يمارس عبرها العديد من الجهات الحكوميَّة واجباتها في اتخاذ القرارات وصنع السياسات المتعلِّقة بإدارة وتنمية المناطق والمدن والقرى.
تمثِّل الحوكمة الحضريَّة القوَّة الدافعة للتغيير الذكي والفعَّال في الوسط الحضري. إنَّ نظرة سريعة على القضايا المذكورة أعلاه من التخطيط الإقليمي وصناعة الأماكن والتنمية العمرانيَّة المستدامة تكشف لنا أنَّه لا يمكن إقرار أو تبنِّي أو تنفيذ أيّ قضيَّة منها بدون وجود حوكمة حضريَّة سليمة، وهذا بدوره يبرِّر أهميَّة الحوكمة الحضريَّة للمملكة. وعلى الرُّغم من ذلك، فإنَّ ممارسة الإدارة الحضريَّة (الإدارة المحليَّة) في المملكة تُجابه بعددٍ من التحدِّيات التي تُضعف الأداء الحضري بكامله.
إنَّ توزيع المهام والمسؤوليَّات الحضريَّة على عددٍ من الجهات التي لها مرجعيَّات إداريَّة مختلفة والتي تفتقد في نهاية المطاف إلى التنسيق اللازم يمثِّل التحدِّي الأبرز. إنَّ المدن والمناطق في المملكة تتعامل مع العديد من الجهات الحكوميَّة، والتي في بعض الأحيان تكون دوافعها متضاربة، دون وجود منصَّة مشتركة للتنسيق ولا قناة مناسبة للوصول لرؤية موحَّدة!
بالإضافة إلى ذلك فإنَّ محدوديَّة الموارد سواءً ما يتعلَّق بالسلطات المخوَّلة أو الميزانيَّات المخصَّصة يمثِّل عائقاً آخر أمام الإدارة الحضريَّة في المملكة. وفي هذا الخصوص، فإنَّ تأسيس هيئات التطوير لتوجيه وقيادة الإدارة المحليَّة على مستوى المناطق والمدن، في بعض المناطق الإداريَّة، يُمثِّل قفزة إلى الأمام لتزويد الجهات المحليَّة بالسلطات اللازمة إلى جانب تعزيز البُعد الإقليمي في التخطيط العمراني للمملكة.
وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الجهات الإداريَّة على مستوى المناطق والبلديَّات والقرى/الهجر مازالت في حاجة إلى فرق إداريَّة على مستوى عالٍ من المهنيَّة تعمل على تعزيز مفهوم الحوكمة الحضريَّة، وتستجيب بحنكة وذكاء للتحدِّيات الحالية والمستقبليَّة. وفي حين أنَّه ليس مهمَّاً نوع النمط المستخدم، فإنَّ الإداريِّين الحضريَّين المؤهَّلين المُزوَّدين بالمعرفة والمهارات والحكمة هم وقود الحوكمة الفاعلة التي تنقل الممارسات الإداريَّة بعيداً عن الإجراءات البيروقراطية والأوامر الصارمة إلى أُفُق واسع من الإبداع وريادة الأعمال والقيادة.
إنَّ الدور المتغيِّر للمخطِّط العمراني المعاصر من التقني المختص (التكنوقراط) إلى الوسيط يستلزم تحوُّلاً كبيراً في دور ونهج الإدارة للمناطق الحضريَّة. فمثلاً، يمكن للمسؤول (الإداري) الحضري أن يقود عمليَّة الإعداد لسياسة طويلة المدى تتعلَّق باستدامة التنمية العمرانيَّة، أو ينخرط في صياغة استراتيجيَّة للتنمية الإقليميَّة، أو يكون مشاركاً بصورة مباشرة في تحويل حديقة الحي عبر مفهوم صناعة الأماكن، أو يكون منغمساً وبحماس في إطلاق حدث حضري احتفالي. كل هذه الأدوار تتطلَّب حوكمة حضريَّة ذكيَّة تستجيب بمرونة للمشاكل ذات التحدِّيات الكبيرة وتعمل على القيادة بصورة استباقيَّة وبقدرٍ من الشغف والحدس السليم.
إنَّ الإطار القانوني والتشريعات الحضريَّة تحتاج بالمثل لأن يشملها التطوير لتهيئة مسار ممهَّد لإحياء وتجديد الحوكمة الحضريَّة الذكيَّة، مدفوعةً بقوَّة بأحد الأهداف الرئيسيَّة الستَّة لرؤية المملكة 2030 والتي تؤكِّد على تعزيز فاعليَّة الحكومة.
قضايا التخطيط العمراني مجموعة متكاملة
إنَّ قضايا التخطيط العمراني المذكورة ترتبط بصورة مباشرة برؤية المملكة 2030، وذلك لأهميَّة البُعد المكاني كحاضن للتنمية. وبغضِّ النظر عن هل هذا الرَّبط كان صريحاً، مثل الارتقاء بجودة الحياة في المدن، أو تمَّت الإشارة إليه ضمنيَّاً، كاستضافة المزيد من الحجَّاج والمعتمرين، فإنَّ عنصر المكان يُحتِّم اعتبارات معيَّنة فيما يتعلَّق بصُنع السياسات فضلاً عن الجهود الموجَّهة للتنفيذ والإدارة.
لقد أصبح الناس في هذا العالَم المتطوِّر بشكل متزايد، أكثر حساسيَّةً في إدراك وتقدير قيمة الجودة وكذلك الدفاع عنها في مدنهم الحديثة. وعليه، فإنَّ المبادرات التي تُشجِّع على وتحتفي بجودة الحياة في المدن تأتي وبشكل ملحوظ في مقدِّمة الخطاب العام للمجتمع.
إنَّ القضايا الأربع: التخطيط الإقليمي، صناعة الأماكن، التنمية العمرانيَّة المستدامة والحوكمة الحضريَّة تُعتبر مثاراً للجدل نظراً للطريقة التي يتعامل بها الناس معها، فمن جهة، تعتبر هذه القضايا “اتجاهات” ستُسيطر على الأرجح على ممارسات التخطيط العمراني في المملكة، ومن جهةٍ أخرى، تبدو أيضاً “تحدِّيات” نظراً لدورها وأثرها في تشكيل مستقبل المدن السعوديَّة. ومع ذلك، فيجب أن تُؤخذ هذه القضايا كـمجموعة متكاملة وليس كعناصر فرديَّة منفصلة وذلك نظراً لتأثيراتها المتبادلة.
ولإظهار وتأكيد هذا الترابط، فإنَّ فريقاً مؤهَّلاً للحوكمة الحضريَّة، مدعَّماً بالموارد ومزوَّداً بالمهارات والأدوات اللازمة، سيتبنَّى ويحافظ على مبدأ الاستدامة كمظلَّة شاملة لإعداد مخطَّط إقليمي يعمل على الاستفادة من نقاط القوَّة والإمكانات الاقتصاديَّة للإقليم وذلك من منظور صُنع السياسات، وفي نفس الوقت ينزل إلى مستوى التفاصيل المكانيَّة لمفهوم صناعة الأماكن التي تعمل على تعزيز المشهد الحضري للمدن وإثراء جودة الحياة للسكَّان. وهذا التكامل بالتأكيد سيكون وضعاً مثاليَّاً ربَّما نادراً ما يأخذ مكانه على أرض الواقع، ومع ذلك، تُعدُّ الشموليَّة والتكامليَّة عنصرَين أساسيَّين لمجابهة المشكلات الحضريَّة المتنامية.
هناك عنصر آخر حاسم يُبرز حتميَّة التعامل بنهج “المجموعة المتكاملة” وهو الخوف من أن ينتهي الأمر إلى محصِّلة صفريَّة! فإذا لم يتم اعتبار هذه الاتجاهات – التحدِّيات والتعامل معها بنظرة شموليَّة كحِزمة واحدة، فإنَّ قراراً يتم اتَّخاذه في جانب واحد من إحدى القضايا قد يأتي سلباً على حساب القضايا الأخرى ويؤدِّي في النهاية إلى نتائج مخيِّبة للآمال.
وختاماً.. فقد تمَّ الاتفاق بشكل عام على أنَّ التخطيط العمراني للمملكة يُعتبر أحد المكوِّنات الرئيسيَّة لرؤية المملكة 2030، والتي تُعتبر بدورها حلماً كبيراً وتحوُّلاً هائلاً في الروح والعزيمة الوطنيَّة. وللمساهمة بصورة إيجابيَّة في هذه الأجندة الوطنيَّة، يجب على ممارسات التخطيط العمراني أن تستفيد من الاتجاهات السائدة وتواجه بذكاء تلك التحدِّيات التي تكتنفها والمتمثِّلة في التخطيط الإقليمي، صناعة الأماكن، التنمية العمرانيَّة المستدامة والحوكمة الحضريَّة.
وعلاوةً على ذلك، وبما أنَّها تتداخل وتتفاعل في البُعد المكاني وبُعد صنع السياسات، فيجب التعامل مع هذه الاتجاهات – التحدِّيات على أساس مجموعة واحدة متكاملة لتحقيق النتائج المرغوبة وتفادي الوصول إلى المحصِّلة الصفريَّة. وفي الواقع، يمكن اعتبار ذلك تماشياً مع الشعار السائد “فكِّر عالميَّاً، خطِّط إقليميَّاً، وتصرَّف محليَّاً”.
(*) الورقة من إعداد مركز الإدارة المحليَّة (www.ksclg.org)، الذي يُعدُّ أول مركز فكرٍ في المملكة متخصص في الإدارة المحلية، وهو مركز غير ربحي في إطار جامعة الأمير سلطان، وتحت مظلَّة مؤسَّسة الرياض الخيريَّة للعلوم..