نصيحةٌ قَدَّمها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله تعالى، لأشهرِ تلاميذِه، وهو ابنُ قَيِّم الجوزيَّة رحمه الله تعالى، فنِعْمَ النَّاصِحُ، ونعم المنصوحُ!
يقول ابنُ القَيِّم في كتابه [مفتاح دار السعادة] عن هذه النصيحة: “ما أعلَمُ أنِّي انتفعتُ بوصيَّةٍ في دفع الشُّبُهاتِ كانتفاعي بذلك” مع أنَّه قد تلقى عن شيخه عَشَرات بل مئات الوصايا، كما هو واضِحٌ لِمن تتبَّع ذلك في كُتُبِه، لكن هذه الوصيَّةُ كان لها شأنٌ آخَرُ في حياة ابن القَيِّمِ ومنهجه، وقد مرَّ بتجارِبَ متنَوِّعةٍ سطَّر خلاصتَها في «نونيَّتِه» فأنقذه اللهُ من شُبُهاتِ أهلِ الأهواء الذين وقع في شِباكِهم بتتلمُذهِ على شيخ الإسلام وملازمتِه له. وقال -رحمه الله- في عَرْضِه لهذه الوصية: “قال لي شيخُ الإسلام رضي الله عنه، وقد جعلتُ أورِدُ عليه إيرادًا بعد إيرادٍ: لا تجعَلْ قَلْبَك للإيراداتِ والشُّبُهاتِ مِثلَ السفِنْجة، فيتشَرَّبَها، فلا يَنضَحَ إلَّا بها، ولكِنِ اجعَلْه كالزُّجاجةِ المُصمَتةِ، تمُرُّ الشُّبُهاتُ بظاهِرِها ولا تستَقِرُّ فيها؛ فيراها بصفائِه ويَدفَعُها بصلابتِه، وإلَّا فإذا أَشرَبْتَ قَلْبَك كلَّ شُبهةٍ تمُرُّ عليها، صار مَقرًّا للشُّبُهاتِ”.
خلاصةُ الوصيَّةِ عند وُرودِ الشُّبُهاتِ هي: 1- لا تجعَلْ قَلْبَك مثل السفنجة، أي: يتشَرَّبُها ولا ينضَحُ إلَّا بها. 2- واجعَلْه كالزُّجاجة المصمَتة، أي: يراها بصفائِه ويدفَعُها بصلابتِه.
العقائِدُ والعلومُ الفَلسفيَّةُ الفِكريَّة المنحَرِفة، ومقالاتُ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ -قديمًا وحديثًا- ؛ ومنها المذاهِبُ الفِكريَّة المعاصِرة بمُختَلِف تيَّاراتها ومُنطَلَقاتِها سواء كانت شرقيَّةً أو غربيَّةً، أو جاهليَّةً؛ هي الدَّاءُ العُضال الذي إن تسَلَّل إلى القلوب أفسَدَها، وغشَّاها بالشُّبُهاتِ والشُّكوك، وحَوَّلها من يقيِن الإيمانِ وبَردِ التسليمِ والطَّاعة، وسلامةِ القَلبِ وصِحَّتِه وقُوَّتِه؛ إلى الحَيرةِ والترَدُّد وتسلُّطِ الوساوس، وضَعْفِ العبادةِ وقِلَّة الطَّاعة، وتحوُّلِ القَلبِ من الأُنْسِ إلى الوَحشةِ.
والشُّبُهاتُ من أشَدِّ الأشياءِ على القُلوبِ وأثقَلِها حتى تكادَ الشُّبهةُ أن تكونَ جبلًا، وأنَّى للقَلبِ الرقيقِ تحمُّلُه؟!
والمؤمِنُ المستبصِرُ يُدرِكُ مدى خطورةِ الأمرِ، خاصَّةً إذا عَلِمَ أنَّه لا أحَدَ بمأمَنٍ من ذلك مهما علا شأنُه في العِلمِ أو العبادةِ والطَّاعةِ، أو في المجاهدةِ والدَّعوة، أو فيها جميعًا.
والمتتَبِّعُ لواقِعِ المسلمين المعاصِرِ، يرى كيف تسلَّلَت شُبَهٌ كثيرةٌ إلى القلوب (تسلُّلُ شُبُهاتِ الملاحدة والزَّنادقة والعَلمانيِّين والمستَشرِقين والحَداثيِّين وأضرابِهم)، وانتَقَلت إلى الواقِعِ العملي من خلالِ الوسائِلِ الحديثة ، وتحوَّلت إلى ما يمكِنُ أن يسَمَّى بـ(شللِيَّة فِكرية) تتبنَّى عددًا من مسائِلِ العقيدة والشَّريعة والثَّقافة بمنهَجٍ عقلانيٍّ عَصرانيٍّ مُنحَرِفٍ. حيث صار هؤلاء يَعرِضونها، وهناك من يتشَرَّبون هذه الشُّبُهات، وينوبون عن أولئك الزَّنادقة وأهلِ البِدَع في نَشْرِها والحماسِ في الدِّفاعِ عنها.
والمُلفِتُ للنَّظَرِ أنَّ كافَّةَ هذه الشُّبُهاتِ ليست جديدةً، بل هي ممَّا سبق أن عُرِضَ ودُوِّن في كُتُبِهم ورَدَّها العُلَماءُ المسلمين، وكَشَفوا زَيْفَها، فما الجديدُ؟
الذي استجَدَّ إنما هي حربٌ مُرَكَّزة على الإسلامِ وعلى منهجِ السَّلَفِ الصالح خاصَّةً، ودَعَمَت هذه الحَربَ قُوًى مختَلِفةٌ من الأعداء ، وقابَلَ ذلك ضَعفُ الإيمانِ وخَلَلٌ في الثقة بالمنهج ما جعل هذه الشُّبُهاتِ تَلِجُ القلوب، فتُغيِّرُ الكثير منها. فصارت هذه القلوبُ كالإسفِنجة تمتَصُّ هذه الشُّبُهاتِ كما تمتَصُّ الماءَ العَفِنَ!
إن سؤالَ المسلِمِ الهدايةَ {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} يكرره في اليومِ والليلةَ أكثَرَ مِن سبعَ عَشْرةَ مَرَّةً، وأخبر رسولُ الله ﷺ في الحديث الصحيح المشهور بأنَّ سبيلَ اللهِ واحِدٌ، وما عداه سُبُلُ الشيطان، وأصلُ الهداية هدايةُ القلوبِ؛ لأنَّ القَلبَ سَيِّد البَدَنِ، كما أنَّ أساسَ الضَّلالة -عياذًا باللهِ- غوايةُ القلوبِ وضَلالُها وانحراُفها، فجاءت هذه الوصِيَّةُ الغالية من شيخ الإسلام، والتي تقول خلاصتُها: “لا تجعَلْ قَلْبَك للشُّبُهاتِ مِثلَ الإسفنجة، فيتشَرَّبَها ولا ينَضَحَ إلا بها”.
فما وَجهُ تشبيهِ هذا النوع من القُلوبِ بالإسفِنجةِ؟
– الشَّبَهُ بينهما من ناحيةِ التكوين؛ فكُلٌّ منهما رقيقٌ ليِّن ليس في داخِلِه صلابةٌ من عظامٍ ونحوِها.
– الإسفنجةَ معروفةٌ بطَبْعِها؛ فهي تمتصُّ كُلَّ سائل؛ فإن أدخَلْتَها طيِّبًا؛ من ماء عذبٍ، أو لبنٍ، أو شَرابٍ، فإنَّها تمتَصُّه، كما أنَّك إن أدخَلْتَها في ماءٍ عَفِنٍ أو بولٍ أو نَجَسٍ؛ كخَمرٍ ونحوِه، فإنها تمتَصُّه أيضًا.
– الإسفِنجةَ إذا امتَّصَت السَّائِلَ فلا بدَّ أن تنضَحَ بما فيها؛ حيث يخرجُ منها القطَراتُ، بل أكثَرُ من ذلك إذا ضُغِطَ عليها ولو بقليلٍ من القوَّةِ، وقلَّما تحتَفِظُ بما فيها حتى ينشفَ، ولو نشفَت لَمَا أقبَحَ ما فيها؛ إن كان ما امتصَّتْه من المجاري وأشباهِها!
– الإسفِنجةَ متى ما اعتادت امتصاصَ العَفَن، تحوَّلت هي إلى عَفَن؛ فلا ينفَعُ معها تنظيفٌ ولا غَسلٌ.
وكذلك القلوبُ؛ فهي:
أولًا: رقيقةٌ لأنَّها موطِنُ الإرادةِ والحُبِّ والبُغضِ، والمحبَّةِ والكُرهِ، وهي موطِنُ أعمال القلوب؛ من خوفٍ ورجاءٍ، ومحبةٍ وإنابةٍ، وإخلاصٍ وصدقٍ، وتوبةٍ وتوحيدٍ وتوكلٍ وغيرها؛ ولذا فهي تابعةٌ لِمن خضَعَت له:
أ) فإن انقادت لمولاها وسَيِّدها ومالِكِها بتوحيدِه والتوكُّلِ عليه وَحْدَه لا شريكَ له، وبمحَبَّتِه ورجائِه وخَوْفِه وسائِرِ أعمالِ القُلوبِ، فقد اتَّصَفت بصِفَتينِ عَظيمتَينِ:
إحداهما: كمالُ الافتقارِ لمولاها؛ فهي لا تستغني عنه لحظةً من ليلٍ أو نهارٍ، مع كمال الانقيادِ والطاعةِ، فهي تقودُ أبدانَها إلى مولاها بالاستجابةِ التَّامَّةِ، بفِعلِ الأوامِرِ واجتنابِ النواهي، فإن أذنب العبدُ فهي لرقَّتِها تبادِرُ إلى التوبة والاستغفارِ، والحسَناتِ الماحياتِ.
والأخرى: كما القُوةَّ في الحَقِّ، والنُّفور من الباطِلِ (شبهات وشهوات)، وسَبَب ذلك أنَّ قُوَّتَها بالله (عبادةً واستعانةً وتوكلًا)، وهذا من عجيبِ أحوال قلوب المؤمنين الصَّادقين؛ حيث تجِدُها أعظَمَ ما تكونُ رقَّةً ورحمةً، وأقوى ما تكون صلابةً في الحَقِّ ونفورًا من الباطِلِ وشجاعةً في الدِّفاعِ عن الدِّينِ الحَقِّ وأهلِه، والموالاةِ لهم، وردِّ الباطِلِ وأهلِه، والبراءةِ منهم ومن أعمالهم؛ فهي في الإيمانِ لا تخافُ لومةَ لائمٍ.
ب) وإن انقادت القُلوبُ -عياذًا بالله- إلى غير اللهِ؛ من نفسٍ أمَّارةٍ، أو هوًى، أو شيطانٍ، وتمثَّل ذلك في معبودٍ غيرِ الله، أو تعَلُّقٍ بجاهٍ أو دنيا أو شهوةٍ قُدِّمَت على عبادة الله وطاعته؛ تحوَّلت القلوبُ إلى محبَّةٍ وخضوعٍ لذلك المعبودِ مِن دونِ اللهِ، وصارت على الضِّدِّ من صفاتِ المؤمنين:
– فهي قاسيةٌ في عبادةِ اللهِ وطاعتِه والانقيادِ له حتى تكونَ كالحجارةِ أو أشَدَّ قَسوةً.
– وهي ذليلةٌ رقيقة خاضعة لمن مالت إليه؛ فيها من الضَّعة والاستكانة والحقارة والعبودية لذلك المعبودِ من دون الله ما لا يكادُ يُصَدِّقه الإنسانُ السَّوِيُّ.
ثانيًا: القلوب بحسَبِ ما تُحمل وتُرَبَّى عليه؛ فإن حُمِلَت على حبِّ الحَقِّ والاستجابةِ له والنُّفورِ من الباطِلِ والشُّبُهات، أمَّا إن تُرِكَت مرتعًا لكلِّ عارضٍ مما يعرِضُ لها، تتقَبَّله من غير تمييزٍ، فإنها تكون عُرضةً للخَطَراتِ والوساوس التي يُلقيها شياطينُ الإنس والجِنِّ، فتصبِحُ مَرتَعًا للشُّبُهاتِ، فتصير كالسفنجة التي حَذَّر منها شيخُ الإسلام؛ تمتَصُّ الشُّبُهات وربما تنضَحُ، وتُصبِحُ مريضةً بذلك.
ثالثاً: أن تجعَلَ قَلْبَك كالزُّجاجةِ الصَّافية المصمَتةِ، كما أوصى شيخُ الإسلامِ، فيكون لقلبك بصرٌ نافذٌ عند وُرودِ الشُّبُهاتِ، فيعرف أنَّها شُبهةٌ وليست عِلمًا، فيتعامل معها على هذا الوَضعِ، وتشبيهُ القَلبِ بالزُّجاجةِ فيه كثيرٌ من المعاني البلاغيَّةِ والعِلميَّةِ والإيمانيَّةِ؛ منها:
– أنَّ القَلبَ في هذه الحالةِ يكونُ مقابِلَ القَلبِ الرِّخوِ الشَّبيه بالإسفنجة؛ فهو صُلبٌ في إيمانِه وعِلْمِه وبَصيرتِه، واثِقٌ من منهَجِه، غيرُ مترَدِّدٍ فيه ولا شاكٍّ.
– أنَّ هذا القَلبَ صافٍ كصَفاءِ الزُّجاجة البلُّوريَّة النظيفةِ يُبصرُ الأمورَ والمسائِلَ على حقيقتِها، فيُفَرِّقُ بين الحَقِّ والباطِلِ، والمعروفِ والمنكَرِ، والدليلِ الصَّحيحِ والاستدلالِ الفاسِدِ، والواضِحِ من حقائِقِ الدِّينِ والعِلمِ والإيمانِ، وشُبُهاتِ الباطِلِ، والخاطِرِ الإيمانيِّ الرَّبَّاني والخواطِرِ الشَّيطانيَّة؛ فإذا أقبلت الشُّبهةُ أو الفتنةُ أبصَرَها بوضوحٍ تامٍّ، فقد نُوِّرَ هذا القلبُ بأنوارِ الإيمانِ والعلمِ والطاعةِ، فهو يعرفُها ويعرِفُ منشَأَها وغايَتَها وأثَرَها الفاسِدَ، فلا يزالُ يراها كذلك ويتعامَلُ معها على هذا الوَجهِ وهذا لَونٌ من الفِراسةِ يَهَبُه رَبُّ العالمين لِمَن صَفَت قلوبُهم، وخَلَصت لرَبِّها تعالى.
– أنَّ هذا القَلبَ صُلبٌ؛ لأنَّ الزُّجاجةَ مع صفائِها هي مُصمَتةٌ مُغلَقةٌ ليس فيها كسورٌ أو شقوقٌ، فهو لصلابته يدفَعُ الشُّبَهَ ويَرُدُّها ويُنكِرُها، فهي من أجْلِ هذه الصلابة لا تجِدُ إليه مدخلًا.
فالشُّبُهاتُ حول هذا القَلبِ تدورُ وتحاوِلُ بأساليبَ مُتعَدِّدةٍ ومحاولاتٍ مُتكَرِّرةٍ أن تدخُلَ ولو بفِناءِ القَلبِ أو عندَ بابِه، ولكن هيهاتَ هيهاتَ! والقَلبُ صُلبٌ مُصمَتٌ عن الباطِلِ وشُبَهِه، فترجِعُ الشُّبُهاتُ مُوَلِّيةً هارِبةً مَهزومةً.
كان ﷺ يدعو يقول : «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بعزَّتِكَ ، لا إلهَ إلَّا أنتَ ؛ أن تُضلَّنِي ، أنتَ الحيُّ الّذي لا يَموتُ ، والجِنُّ و الإنسُ يَموتُونَ» «يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك» آمين.