قال الله تعالى في كتابة العظيم: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(٧٥)﴾ [سورة الإسراء].
قال العلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي-رحمه الله-: يذكر تعالى منته على رسوله محمد -ﷺ- وحِفظه له من أعدائه الحريصين على فِتنته بكل طريق، فقال: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾؛ أي: قد كادوا لك أمرًا لم يدركوه، وتحيَّلوا لك على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك، فتجيء بما يوافق أهواءهم، وتدع ما أنزل الله إليك، وإذًا لو فعلت ما يهوون لاتخذوك خليلًا؛ أي حبيبًا أعز عليهم من أحبابهم، لِما جبَلك الله عليه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب المحببة للقريب والبعيد، والصديق والعدو، ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة إلا للحق الذي جئت به، لا لذاتك؛ كما قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(٣٣)﴾ [سورة الأنعام].
ومع هذا ﴿ لَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ ﴾على الحق، وامتننا عليك بعدم الإجابة لداعيهم ﴿ إذًا ﴾ لو ركنت إليهم بما يهوون، ﴿ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ﴾؛ أي لأصبناك بعذاب مضاعف في الدنيا والآخرة، وذلك لكمال نعمة الله عليك، وكمال معرفتك، ﴿ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ ينقذك مما يحل بك من العذاب، ولكن الله تعالى عصمك من أسباب الشر، ومن الشر، فثبَّتك وهداك الصراط المستقيم، ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه فله عليك أتم نعمة، وأبلغ منحة.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «كان رسول الله -ﷺ- معصومًا، ولكن هذا تعريف للأمة؛ لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه».
وهذه الآيات الكريمات، تذكير الله لرسوله -ﷺ- بمنته عليه، وعصمته من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أن يتفطنوا الإنعام عليهم عند وجود أسباب الشر بالعصمة منه، والثبات على الإيمان، وأنه بحسب علوِّ مرتبة العبد، وتواتُر النعم عليه من الله يعظم إثمه، ويتضاعف جرمه إذا فعل ما يُلام عليه؛ لأن الله ذكر رسوله لو فعل – وحاشاه من ذلك – بقوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ﴾؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(٤٦)﴾ [سورة الحاقة].
…
قال الناظم:
وَكَبائِرُ الرجُلِ الصغِيرِ صَغائِرُ… وصَغائِرُ لرجُلِ الكَبِيرِ كَبائِرُ
فينبغي للمسلم أن يسأل ربه الثبات على دينه دائمًا وأبدًا، ويكثر من ذلك كما كان -ﷺ- يفعل ويقول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، «اللهُم مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».
وصلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.