«هل أفسد نموذج “ماكينزي” ممارساتنا الإدارية؟»

  • — السبت مايو 25, 2024

عندما لا تعيين كبار المسؤولين التنفيذيين من الداخل، بل تعيينهم من شركات استشارية ويتنقلون -إلى حد كبير- بين المناصب في صناعات مختلفة، فقد يفقدون الصلة لخلق قيمة للشركة. وعلى أية حال، هناك دلائل تشير إلى أن ممارسات الإدارة “التكنوقراطية” للاستشاريين اصبحت قديمة ولا تتماشى مع الوقت الحاضر!

كتب “كريستيان باسون” الرئيس التنفيذي لـمركز التصميم الدنماركي (DDC)، عن كيف أفسد نموذج  إدارة “ماكينزي آند كومباني” (والشركات الاستشارية الأخرى المماثلة) الممارسات الادارية في الشركات الدنماركية، حيث يقول:

منذ سنوات مضت، حضرت دورة تدريبية في القيادة في كلية هارفارد للأعمال. لقد كانت تجربة مثيرة. وأتذكر أنني اندهشت من قصص الأساتذة وتحليلاتهم: بتسليط الضوء على شركة الاستشارات “ماكينزي آند كومباني” مراراً وتكراراً.

كان الأمر كما لو كان هناك تكافل بين تدريب كبار مديري المستقبل من ناحية وبيت استشاري معين، وأساليبه من ناحية أخرى.
وكان من الواضح أن الأساتذة لديهم معرفة متعمقة بأساليب “ماكينزي” ونموذج أعمالها وعملوا بشكل وثيق مع هؤولاء المستشارين.

لقد لاحظت أيضًا المجلة الأمريكية The Atlantic هذا الارتباط؛ حيث أشار الكاتب “دانييل ماركوفيتس”، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة “ييل”، في مقال بعنوان “كيف دمرت ماكينزي الطبقة الوسطى” إلى أن الشركات الأمريكية الكبرى تأثرت في نصف القرن الماضي – تحت الانطباع المباشر للفلسفة الإدارية لشركة ماكينزي والشركات الاستشارية الأخرى المماثلة.

وفي الولايات المتحدة، كان هذا يعني تحول جوهري بعيد عن نموذج الإدارة، الذي عزز الفرص المتاحة للموظفين العاديين، وأضاف إليهم كفاءات جديدة، وخلق حركة تصاعدية في التسلسل الهرمي للشركات.
إن نموذج الإدارة الأمريكي التقليدي، الذي سيطر منذ الأربعينيات وحتى أوائل السبعينيات، كان يعني -على سبيل المثال- ما يلي:

  • يقوم الموظفون العاديون وأفراد الإنتاج بمهام إدارية مهمة مثل التخطيط المستمر وتنظيم العمل والتنسيق.
  • استثمرت الشركات الكبيرة (مثل IBM) ما يصل إلى 10% من وقت الموظف في تطوير الكفاءات مدفوعة الأجر بالكامل.
  • كانت المناصب في البداية مدى الحياة (الوفاة)، مما يعني حركة تصاعدية في التسلسل الهرمي على مر السنين واحتمال حقيقي أن يصبح الموظف العادي -يومًا ما- عضوًا في المجلس التنفيذي.

لقد كان نموذج الإدارة الموزع والمتضمن ما سبق يعني أن الموظفين العاديين والمديرين المتوسطين قاموا بزيادة رواتبهم بشكل أسرع من الإدارة العليا؛ وقد أدى هذا النموذج إلى خلق الطبقة الوسطى الأمريكية.

إدارة خالية من الدهون

ولكن مع ظهور شركات الاستشارات الإدارية مثل ماكينزي وشركاه منذ السبعينيات فصاعداً، أصبح نموذج الإدارة مختلفاً، واستلهاماً قوياً من مقولة رجل الاقتصاد الأميركي “ميلتون فريدمان” بأن المسؤولية الاجتماعية للشركات تهدف إلى خلق الربح لحملة الأسهم، وركز المستشارون على تحسين وتقليص الشركات لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح المالي.

وجاء الحل من الشركات الاستشارية، بإزالة أو إعادة معايرة “الطبقة السمينة” في شكل الإدارة الوسطى. وأدى ذلك إلى إلغاء فكرة التوظيف مدى الحياة، وإعادة تنظيم الشركات -بشكل مستمر- سواء كانت النتائج جيدة أو سيئة؛ عام جديد، مدير جديد، استراتيجية جديدة.

وبطبيعة الحال، لم تكن العواقب الإنسانية ضئيلة؛ حيث يصف “دانييل ماركوفيتس” -على سبيل المثال- أنه عندما ألغت شركة آي بي إم الوظائف الدائمة في التسعينيات، طلب الرؤساء المحليون من تجار الأسلحة القريبين في المنطقة البقاء بعيداً لا يستقبلون أحد حتى يستوعب الموظفون الصدمة؛ حيث لم يتم إزالة الأمن الوظيفي لعمال الإنتاج العاديين فحسب، بل جزئت مهامهم الوظيفية وأزيل عنهم مهام وظائف الإدارة والتخطيط[!!!]

إذن ما هو الوضع اليوم؟
لم ترتفع الأجور النسبية للطبقة المتوسطة الأمريكية منذ السبعينيات، فيما تجاوزت الرواتب التنفيذية العليا الأسقف مقارنة بالموظفين العاديين؛ حيث كان في السابق، متوسط راتب المدير يبلغ 20 مرة ضعف راتب موظف الإنتاج. واليوم، يصل أجر المدير التنفيذي إلى 300 ضعف أجر موظف الإنتاج. وفي الوقت نفسه، كان هناك تحول هائل من الوظائف مدفوعة الأجر إلى التوظيف التعاقدي، ومناصب (عقود) المقاولين من الباطن في شركات مثل بينيتون في أوروبا وأوبر في الولايات المتحدة.

وأين انتهى الدور القيادي؟
انتهى الدور القيادي في أعلى التسلسل الهرمي، حيث يتركز كل التخطيط والإدارة.

ومن أين يأتي التوظيف في الإدارة العليا؟
لم يعد للموظفين الداخليين والمديرين المتوسطين الذين شقوا طريقهم بشق الأنفس حظ في الإدارة العليا؛ حيث يأتي مرشحو الإدارة العليا من مؤسسات النخبة مثل كلية هارفارد للأعمال وبالطبع من الشركات الاستشارية نفسها؛ وهو الاتجاه الذي يمتد إلى ما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة وأصبح الآن هو المعيار العالمي.

سعر السهم اصبح هو النجم الإرسترشادي!!

إنها ضربة عبقرية حقًا: إنشاء نموذج إداري يجعل أكبر الشركات في العالم تعتمد على نصيحة شركات مثل ماكينزي وعلى توظيف مستشاريها في المناصب الإدارية؛
لم يعد من الضروري معرفة ثقافة الشركة وقيمها وممارساتها؛ ومن الأهمية بمكان إتقان أدوات إدارة المستشارين ووضع شيء واحد في الاعتبار: القيمة للمساهمين.

على الرغم من أن العديد من أكبر شركاتنا في الدنمارك مملوكة لصناديق أو عائلات، فإننا نرى عناصر من نفس نموذج الإدارة حيث يتنقل كبار المديرين ورؤساء مجالس الإدارة في شركات مثل Lego، وDanfoss، وGrundfos، وØrsted بين الشركات؛ حتى لا تعرف متى كانت آخر مرة “نشأ فيها” أحد كبار المديرين الدنماركيين في الشركة التي أصبح رئيس لها؟ وما الذي ضاع؟

ومع ذلك، فإن السؤال الحاسم اليوم هو ما إذا كان نموذج الإدارة الذي تتبناه شركة “ماكينزي”، والذي بُني على مدار الخمسين عاماً الماضية، والذي وضعت العديد من الشركات الدنماركية الكبرى نفسها في مهب الريح، لا يزال نموذجاً مستداماً إلى اليوم؟!

أود أن أزعم أن الوقت قد حان لإعادة اختراع نموذج الإدارة لدينا؛ ليس بالعودة إلى نماذج الماضي، ولكن نموذج القيادة الذي يتوافق مع الحاضر.

الوقت يدعو إلى التعاطف

نحن في عصر يدعو إلى التعاطف بديلا عن الكفاءة، والتفاهم الإنساني بديلا عن التكنوقراطية، فنحن في وقت مضطرب حيث نرى (مرة أخرى) قيمة الإدارة اللامركزية والموزعة والتعاونية، حيث يتحمل جميع الموظفين مسؤولية كبيرة، بحيث تعمل العديد من الشركات على إعادة اختراع نموذجها التنظيمي، فلربما نكون وصلنا الآن إلى مرحلة زمنية أصبح من الأهم فيها التأكيد على التماسك الإجتماعي والاستمرارية بديل عن التفكيك والتدمير للطبقات العاملة؟

وأخيرًا، نحن في زمن أصبحت فيه القيم والاعتبارات النهائية غير الاقتصادية البحتة لها حساب، ومع ذلك، يبقى سؤال واحد: إذا كان تفكير شركة ماكينزي الإداري ونصائحها هو الذي دمر الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة، فما هو نوع التفكير والمشورة التي ينبغي إعادة بنائها؟

هل سيظهر نوع جديد من المستشارين الذين يمكنهم جلب المزيد من وجهات النظر الفريدة والنماذج الجديدة إلى الساحة؟

أعتقد أن الجواب هو: نعم! 

وأعتقد أن تفكير المصممين وأساليبهم ستلهمهم بقوة؛ فقد أخبرتني بعض وكالات التصميم الرائدة في الدنمارك أنها تركز أكثر فأكثر على التنظيم الداخلي لعملائها، وإن إعادة التفكير في الطريقة التي ننشئ بها المؤسسات هي البحث على بديل لنموذج إدارة “ماكينزي” وهي واحدة من أكبر المهام وأكثرها تحديًا وإبداعًا والتي يمكن لجميع القادة المشاركة فيها.

المصدر : مركز التصميم الدينامركي