وفقا لقادة التكنولوجيا وعدد كبير من الخبراء والأكاديميين، يوشك الذكاء الاصطناعي على تحويل العالم كما نعرفه من خلال مكاسب إنتاجية غير مسبوقة. وفي حين يعتقد بعض المراقبين أن الآلات سوف تفعل قريبا كل ما يستطيع البشر أن يفعلوه، مؤذنة بعصر جديد من الرخاء بلا حدود، فإن هناك تنبؤات أخرى تتبنى نظرة غير واقعية على الأقل؛ فعلى سبيل المثال، يتوقع “جولدمان ساكس” أن يعمل الذكاء الاصطناعي التوليدي على تعزيز الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7٪ على مدار العقد المقبل، ويتوقع معهد “ماكينزي” العالمي أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي من الممكن أن يزيد بنحو 3 إلى 4 نقاط مئوية في غضون الفترة من الآن وحتى عام 2040. ومن جانبها، تتوقع مجلة “الإيكونيميست” أن يخلق الذكاء الاصطناعي ثروة عظيمة لطبقة العمال الكادحة…فهل هذا واقعي؟
في بحث حديث (٢٠٢٤)، نشر في موقع معهد “ماساتشوستس” للتقنية فإن الآفاق أشد غموضا مما تشير إليه معظم التوقعات والتخمينات. مع ذلك، وبرغم أنه من المستحيل في الأساس التنبؤ بأي قدر من الثقة بما قد يفعله الذكاء الاصطناعي في غضون عشرين أو ثلاثين عاما، فمن الممكن أن نتوقع شيئا عن السنوات العشر المقبلة، لأن أغلب هذه التأثيرات الاقتصادية في الأمد القريب لابد أن تشتمل على التكنولوجيات القائمة وتحسيناتها.
من المعقول أن نفترض أن تأثير الذكاء الاصطناعي الأكبر سيأتي من أتمتة بعض المهام (تشغيلها آليا) وجعل بعض العاملين في بعض المهن أكثر إنتاجية، حيث توفر النظرية الاقتصادية بعض الإرشاد لتقييم هذه التأثيرات الكلية، وفقا لنظرية هولتن (التي تحمل اسم الاقتصادي تشارلز هولتن)، فإن تأثيرات “إنتاجية العامل الكلي” الإجمالية هي ببساطة نتاج حصة المهام التي يجري تشغيلها آليا مضروبة في متوسط التوفير في التكاليف.
على الرغم من صعوبة تقدير متوسط التوفير في التكلفة واختلافه حسب النشاط، فقد أُجريت بالفعل بعض الدراسات الدقيقة حول التأثيرات التي يخلفها الذكاء الاصطناعي على مهام بعينها. فعلى سبيل المثال، قام شاكيد نوي وويتني تشانغ بدراسة تأثير روبوت المحادثة ChatGPT على مهام الكتابة البسيطة (مثل تلخيص المستندات أو كتابة مقترحات المنح الروتينية أو مواد تسويقية)، في حين قام إريك برينجولفسون، ودانييل لي، وليندسي ريموند بتقييم استخدام مساعدي الذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء. تشير هذه الأبحاث في مجموعها إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي المتاحة حاليا تحقق متوسط توفير في تكلفة العمالة يبلغ 27% فضلا عن توفير في إجمالي التكاليف بنسبة 14.4%.
ولكن ماذا عن حصة المهام التي ستتأثر بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات المرتبطة به؟
هناك دراسات حديثة، تشير إلى أن هذه النسبة تبلغ نحو 4.6%، وهذا يعني ضمنا أن الذكاء الاصطناعي سوف يزيد إنتاجية العامل الكلي بنسبة ضئيلة 0.66% فقط على مدى عشر سنوات، أو بنسبة 0.06% سنويا. وبما أن الذكاء الاصطناعي سيقود أيضا طفرة استثمارية، فإن الزيادة في نمو الناتج المحلي الإجمالي قد تكون أيضًا ضئيلة في نطاق 1% إلى 1.5%؛ هذه الأرقام أقل بكثير من الأرقام التي قدرها “جولدمان ساكس” و”ماكينزي”؟!
ولكي تحقق التقديرات الأكبر لتلك الأرقام، فيجب عليك إما أن تعمل على تعزيز مكاسب الإنتاجية على المستوى الجزئي، أو تفترض أن مهمات أخرى كثيرة في الاقتصاد ستتأثر. لكن لا يبدو أن أيا من السيناريوين معقول؛ لإن التوفير في تكاليف العمالة بما يتجاوز 27% كثيرا لا يخرج عن النطاق الذي توفره الدراسات القائمة فحسب؛ بل ولا يتماشى أيضا مع التأثيرات الملحوظة التي تخلفها تكنولوجيات أخرى واعدة؛ على سبيل المثال، نجحت الروبوتات الصناعية في تحويل بعض قطاعات التصنيع، ويبدو أنها نجحت في خفض تكاليف العمالة بنحو 30%!!!
وعلى نحو مماثل، فمن غير المرجح أن نرى أكثر من 4.6% من المهام يُستَولى عليها، لأن الذكاء الاصطناعي لم يقترب حتى من القدرة على أداء أغلب المهام اليدوية أو الاجتماعية (بما في ذلك وظائف تبدو بسيطة وتنطوي على جوانب اجتماعية، مثل المحاسبة).
في عام 2019، وجدت دراسة استقصائية شملت في الأساس كل الشركات الأمريكية أن حوالي 1.5٪ منها فقط تدير استثمارات في الذكاء الاصطناعي، وحتى لو ارتفعت هذه الاستثمارات خلال العام ونصف العام الماضيين، فلا يزال الطريق أمامنا طويلا قبل أن يصبح الذكاء الاصطناعي واسع الانتشار.
وبطبيعة الحال، قد يخلف الذكاء الاصطناعي تأثيرات أكبر مما يسمح به هذا التحليل إذا أحدث ثورة في عملية الاكتشاف العلمي أو نجح في خلق عدد كبير من المهام والمنتجات الجديدة، والواقع أن الاكتشافات الحديثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي لهياكل بلورية جديدة والتطورات التي طرأت على عملية طي البروتين تشير إلى مثل هذه الاحتمالات، لكن هذه الإنجازات الخارقة من غير المرجح أن تصبح مصدرا رئيسيا للنمو الاقتصادي في غضون عشر سنوات، وحتى لو تسنى اختبار الاكتشافات الجديدة وتحويلها إلى منتجات فعلية بشكل أسرع كثيرا، فإن صناعة التكنولوجيا تركز حاليا بشكل مفرط على التشغيل الآلي وتسييل البيانات، بدلا من تقديم مهام إنتاج جديدة للعمال.
وعلاوة على ذلك، قد تكون التقديرات أعلى مما ينبغي.
يمكن تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي مبكرا يحدث بشكل طبيعي عندما يكون أداؤه جيدا بدرجة معقولة، وهذا يعني المهام التي توجد مقاييس موضوعية لنجاحها، مثل كتابة إجراءات فرعية بسيطة للبرمجة أو التحقق من المعلومات؛ هنا، من الممكن أن يتعلم النموذج على أساس معلومات خارجية والبيانات التاريخية المتاحة بسهولة.
لكن كثيرا من المهام الواقعة ضمن النسبة 4.6% والتي يمكن تشغيلها آليا بشكل عملي في غضون عشر سنوات ــ تقييم التطبيقات، وتشخيص المشاكل الصحية، وتقديم المشورة المالية ــ لا تشتمل على مثل هذه المقاييس الموضوعية المحددة بوضوح للنجاح، وتنطوي غالبا على متغيرات معقدة تعتمد على السياق (ما قد يفيد مريض بعينه لا يصلح لمريض آخر)، وفي هذه الحالات، يكون التعلم من المراقبة الخارجية أصعب كثيرا، ويجب أن تعتمد نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي بدلا من ذلك على سلوك العاملين الحاليين.
ولذلك وفي ظل هذه الظروف، سيكون الحيز المتاح لإدخال تحسينات كبيرة على العمل البشري قليل، وعلى هذا فإن حوالي ربع المهام الواقعة ضمن نسبة 4.6% تنتمي إلى فئة “الأصعب في التعلم” وستكون مكاسب الإنتاجية المترتبة عليها أقل، وينخفض معدل نمو إنتاجية العامل الكلي من 0.66% إلى نحو 0.53%.
وماذا عن التأثيرات على العمال والأجور ومستويات التفاوت بين الناس؟
لعل الخبر السار هنا هو أن التأثيرات المترتبة على الذكاء الاصطناعي، مقارنة بموجات سابقة من التشغيل الآلي ــ كتلك التي اعتمدت على الروبوتات أو أنظمة البرمجيات ــ قد تكون موزعة على نطاق أوسع عبر مجموعات ديموغرافية. وبالتالي فلن يكون تأثيرها موسعا كما فعلت تكنولوجيات التشغيل الآلي السابقة.
ومع ذلك، لا يوجد أي دليل على أن الذكاء الاصطناعي سيحد من التفاوت أو يعزز نمو الأجور.
إن بعض المجموعات ستكون أكثر عرضة لهذا الخطر بدرجة كبيرة وستتأثر سلبا، وسوف تكون مكاسب رأس المال أكبر من مكاسب العمالة في الإجمال!!!
تبرر النظرية الاقتصادية والبيانات المتاحة نظرة أكثر تواضعا وواقعية للذكاء الاصطناعي؛ إذ لا يتوفر من الأسباب ما قد يدعم الحجة القائلة بأننا لا ينبغي لنا أن نقلق بشأن التنظيم، لأن الذكاء الاصطناعي -كما يزعم- سيكون المد الصاعد الذي يرفع كل القوارب؟!!
الذكاء الاصطناعي هو ما يسميه أهل الاقتصاد تكنولوجيا الغرض العام؛ وبوسعنا أن نستفيد منه في مجالات عديدة، وهناك بكل تأكيد أشياء أفضل نقوم بها من تشغيل العمل آليا وتعزيز ربحية الإعلانات الرقمية، ولكن إذا احتضنا التفاؤل التكنولوجي دون انتقاد أو سمحنا لصناعة التكنولوجيا بتحديد الأجندة التي تريد، فقد يٌهدَر قدر كبير من الإمكانات والجهد والوقت دون طائل يذكر.
Don’t Believe the AI Hype by Daron Acemoglu – Project Syndicate (project-syndicate.org)