«رأفَةً بنا نَحنُ المُغَفّلون!؟»

  • — الجمعة مايو 31, 2024

( د .محمد حمد القنيبط)


آمل بألاّ يَغضَب القارئ الكريم مِن عُنوان هذه “الأكاديمية”، والذي قُصِدَ به لَفت النَّظَر بإعطاء تعريف مجازي للـ “المُغَفَّل” بأنَّه كُلّ شخص تَجَاوَزَ سِنَ الستين سنة. هذه الفئة مِن السكان، سواءً السعوديون أو الوافدون، هي الفئة الأكثر احتمالاً بأنْ تَتَعَرَّض لعمليات الاحتيال عَبر الإنترنت وتطبيقات الهاتف الجوَّال، لأنَّه كما يُقال “السِنّ لهُ أحكام”.
ومِن جانبٍ آخر، فقد أضحَت تطبيقات الهاتف الجوَّال المختلفة وَحشَاً مُرعباً لكُلّ الفئات العُمريَة، “مُغَفَّلون” كانوا أم أذكياء !! فقد أصبَحَ الهاتف الجوَّال في المملكة مِن أهمّ أركان مُستلزمات الحياة اليومية، لا يستطيع أي شخص الاستغناء عنه طَوعاً أو كَرهاً، حيث لا يُمكنِه الاستفادة مِن الخدمات الأساسية والثانوية لمتطلبات الحياة اليومية إلاّ عَبر الهاتف الجوَّال وتطبيقاته.

وفي ظِلّ هذه الأهمية “النووية” للهاتف الجوَّال في حياتنا اليومية، يكون لِزامَاً توحيد جهود جميع الأجهزة ذات العلاقة، حكوميةً كانت أم قطاع خاص، لحماية مُستَخدمي الهاتف الجوَّال مِن مخاطِر استعمال تطبيقات الجوَّال، خاصةً في القطاع والخاص.

المُجرِم: شريحَة الجوَّال الإلكترونية eSIM

مِنْ المعروف أنَّ الجرائم المالية للحساب البنكي للضحيَّة مُعظَمُها تَبدأ في المملكة مِنْ خلال استطاعة الهاكر الحصول على كود دخول حساب الضَحيَّة في شركة هاتفها الجوَّال، ليقوم الهاكر فوراً بطلب إصدار شريحة إلكترونية eSIM، وذلك بعد حصولِه مِن الضحية مرةً أُخرى على كود طلب شريحة إلكترونية، والتي تُلغي مُباشَرَةً الشريحة الحالية في جوَّال الضَحيَّة.

والسبب في ذلك أنَّ الهاكر حتى لو استطاع اختراق الحساب البنكي للضحية بدون أنْ يحصَل على شريحة إلكترونية لجوَّال الضحية وإلغاء الشريحة الموجودة في جوال الضحية، فإنَّ أي اختلاس مالي أو دَفع فواتير يقوم به مِنْ الحساب البنكي للضحية على تطبيق البنك أو موقع البنك في الإنترنت يستلزِم إرسال البنك إلى هاتف جَوَّال العميل كود صالِح للاستخدام مَرَّة واحدة فقط OTP خلال دقيقتين لتنفيذ هذا التحويل.
باختصار، فإنَّ المُجرِم الحقيقي في جرائم سَرِقَة الحسابات البنكية عَبر تطبيق البنك أو موقع البنك على الإنترنت، خاصةً للأفراد، هي الشريحة الإلكترونية eSIM اللعينة للهاتف الجوَّال التي يسـتطيع أنْ يحَصَل عليها الهاكر الذي دَخَلَ حساب العميل لدى شركة الهاتف الجوَّال.

الغريب في عملية اختراق الحساب البنكي التي تَعَرَّضَ لها أحَد الأشخاص أنَّ الهاكر لم يَكتَفِ بتنظيف حسابه البنكي فَقط، بل دَخَل حسابه الإستثماري في الأسهم السعودية وباع جميع أسهمه !! ولكن لم يستطع الهاكر تحويل قيمة الأسهم إلى شركائه في الجريمة في البنوك الأخرى أو إلى خارج المملكة ذلك اليوم، لأنَّ هيئة السوق المالية تَمنع شركات الوساطة المالية تحويل قيمة الأسهم المُباعَه إلاّ بعد مرور يومي عَمَل على أمر بيع الأسهم. وبالتالي استطاع ذلك الشخص استعادة قيمة أسهُمِه التي باعها الهاكر يوم أمس، وذلك بعد أنْ رَفَعَ شكوى إلى البنك في اليوم التالي مِنْ اختراق هاتفه الجوَّال. باختصار، إنطَبَقَ عليه المَثَل الشعبي: “العَوَض ولا القطيعَه” !!

من عجائب ما حدث لأحد الزملاء أن حسابه أُخترق ونُهب منه المقسوم فمضى إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ بالسرقة فطلب منه القسم مراجعة البنك للحصول على رقم الحساب الذي تم تحويل المبلغ المسروق إليه ولكن البنك رفض القيام بذلك ،وهو الأمر الذي يساهم في عرقلة التحقيق وتعطيل سير العدالة!!!

رسائل التوعيَة والتثقيف لا تكفي

لقد تألَّمت كثيراً عندما قال لي أحد المسؤولين بعد قراءته المقال السابق (القانون لا يحمي المُغَفَّلين https://rb.gy/oyzvec) ما مفاده: “هؤلاء الضحايا لا يهتَمون برسائل التحذير والتوعية التي أرسَـلَتها البنوك مئات المرَّات إلى عُملائها أو ينشُرها البنك المركزي السعودي في وسائل التواصل الإجتماعي”، وكانَّه أراد أنْ يقول بأنَّ هؤلاء الضحايا “مُغَفَّلون”، ولكنه خَجِلَ أنْ يقولها أمامي !!

واقِع الأمر يؤَكِّد بأنَّ عدد غير قليل مِن ضحايا الهاكرز في القطاع المصرفي ليسوا مُغَفَّلين، ولكن يقعون ضحايا إلمامهم القليل بتقنيات استخدام الهاتف الجوَّال وتطبيقاته والحاسب وبرامجه. فَكم هي نسبة الأشخاص الذين يستطيعون معرفَة أو تفسير طلاسِم عنوان IP Adress !؟ هل هو عنوان موقع البنك على النت أو فَخّ نَصَبَه الهاكر وأرسله للضحية لفتحه !؟

هذا القُصور في الإلمام بتقنيات الهاتف الجوَّال أو الإنترنت ليس عيباً في حدّ ذاته، ذلك أنَّ الإلمام والتخصص بأمور تقنية الإنترنت لم يَمنَع هاكر مِن تنظيف كامل الحساب البنكي لمدير الحاسب الآلي في إحدى الشركات السعودية، والذي تجاوز أربعمئة ألف ريال !! فهؤلاء الهاكرز يعتمدون بشكلٍ أساسي على عُنصُر المفاجأة للضحية، وهذا ما وقع به ذلك المدير. بل حَدَثَت جريمة هاكر مأساوية قبل سَـنَتين لأحد زملائنا في كلية علوم الأغذية والزراعة بجامعة الملك سعود، رحمه الله وأسكنه جنَّة الفردوس. فقد كان هذا الزميل في العناية المَرَكَّزة يُصارِع الموت، وتَرَكَ جواله مع إبنه الذي وَقَع ضحية لهاكر تَمَكَّن مِن اختراق حساب والده في شركة الهاتف الجوَّال للحصول على شريحة إلكترونية، حيث قامَ بتنظيف كامِل الحساب البنكي لوالده الذي كان إجمالي “تحويشَة العُمر” طِوال عَمَلِه بالجامعة لأكثر مِنْ عشرين سنة. وما كان مِن زُملائه في الكلية وأصدقائه في الجامعة إلاّ أنْ بادروا بجَمع التبَرُّعات لتعويض عائلته قبل مًغادرتها المملكة.

ظاهِرَة، وليست حوادث فردية

جرائم الهاكرز في المملكة على الحسابات البنكية تَتَكَرَّر تقريباً بصفةٍ شبه يوميه، وما يؤكِّد ذلك ما نشرته صحيفة البلاد السعودية بتاريخ 19 ديسمبر الماضي عن دراسة بعنوان “إبقَ آمنـاً”، أجرَتها شركة فيزا للبطاقات الائتمانية عن عمليات الاحتيال التي تَحدُث عبر الإنترنت وتطبيقات الهاتف الجوَّال في المملكة. حيث وَجدَت الدراسة أنَّ 54% مِن الذين شاركوا في استبيان الدراسة وَقَعَ ضحية لعملية احتيال مرة واحدة على الأقل. لكن النتيجة الأكثر إثارة للقَلَق هي تَعَرُّض 13% من الضحايا في المملكة للخداع عِدَّة مرات.

هذه الدراسة تؤكِّد ضخامة عدد الذين تَعَرَّضوا للسَرِقَة عبر تطبيقات الإنترنت والهاتف الجوَّال في المملكة، مما يعني أنَّ هذا الموضوع تَحَوَّل مِن كونه موضوع يوَاجِهه فَرد أو عدد قليل مِن الأفراد إلى “قضية” اختلاسات مالية خطيرة يُعاني منها المجتمع السعودي ومُجتَمَع الوافدين العاملين في المملكة، تَتَسَـبَّب في خسائر مالية كبيرة بمئات ملايين الريالات أو أكثر، وصعوبات اجتماعية ونفسية على ضحايا عمليات الاحتيال عَبرَ الإنترنت وتطبيقات الجوَّال.

وهُنا نتساءل مع كُلٍّ مِنْ معالي وزير الاتصالات وتقنية المعلومات رئيس مجلس إدارة هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية وكذلك معالي مُحافِظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية: لماذا لا تُجبرون شركات الهاتف الجوَّال في المملكة على إلغاء خاصية إصدار شريحة إلكترونية للهاتف الجوَّال مِنْ خلال تطبيق الشركة دون الحضور إلى أحد فروع الشركة، أو على الأقل إجبار شركات الهاتف الجوَّال تأخير تفعيل الشريحة الإلكترونية يوم أو يومين، مع تعطيل الشريحة الحالية للعميل حتى يَشعُر بأنَّه تَمَّ طَلَب إصدار شريحة إلكترونية على جواله !؟

الخَبَر الجديد في مواجهة قضية الاختلاسات المالية مِنْ خلال تطبيقات الهاتف الجوال، أنَّ شركات الهاتف الجوال (وكذلك البنوك) بدأت مؤخَّراً استخدام مُطابَقَة صورة وجه العميل في حساب التطبيق مع صورته في تطبيق “أبشـر” حتى يتَمَكَّن مِن إجراء عمليات على حسابه في شركة الجوال (أو البنك). وهذا الإجراء مهم جداً، ولَعَلَّهُ يُعَمَّم على بقية تطبيقات الخدمات للحدّ مِن جرائم الاحتيال عبر تطبيقات الجوال.

وفي ظِلّ التَطَوُّر الكبير الذي تعيشه المملكة في جميع القطاعات مُنذُ تبنيها رؤية 2030، وعلى رأسها “رَقمَنـَة Digitization” تلك القطاعات وما يقع تحتها مِن أجهزةٍ حكومية وقطاع خاص، حتى حَقَّقَت المملكة خلال الثلاث سنوات الماضية المركز التاسع في مؤشر القدرات الرقميَّة، بحَسَب تقرير التنافسية من المنتدى الاقتصادي العالمي؛ فإنَّ هذا التقدُّم الكبير في “الرَّقمَنَه” لا محالة سيزيد مِنْ كَثرَة وخطورة جرائم الاحتيال عَبر الإنترنت وتطبيقات البنوك وشركات القطاع الخاص ما لَم يَتِمّ كَبح جماح أولئك المُجرمين.

«المُغَفَّلون» وشركات تأجير السيارات

المُعاناة (الأخرى) التي يُواجِهُها مَنْ تجاوَزَ سِـنَّ الستين عام لا تَقِف عند كَثرَة تَعَرُّضِهم أكثر مِنْ غيرهم لجرائم الهاكرز على حساباتهم البنكية، بل يواجهون مُعاناة مع شركات تأجير السيارات التي تَرفُض أغلبها تأجير سيارة لأي شخص تجاوَزَ سِنّ الستين، وكان على رأسهم الصديق الدكتور حمزة المزيني الذي “جَفَّ” قلمه مِنْ كَثرة ما كـتَبَ عنها في تويتر (إكس).

وقد عَلِمت مؤخَّراً أنَّ رَفض شركات تأجير السيارات تأجير “المغفلين” قد يكون بسَـبب إمتناع شركات التأمين التي تتعامل معها شركات التأجير بتغطية السائق الذي تجاوزَ سِنّ الستين !! وهذه طامَّة أكبر مِنْ سابقتها. فكأنَّ كُلّ مَن تَجَاوزَ الستين مِن العُمر إنسان مُنتهي الصلاحية ولا يحقُ له الخروج مِن منزله، وعليه فقط انتظار زيارة عزرائيل.

مليون “مُغَفَّل”، ويزدادون يومياً !؟

المُشكِلَة التي نواجهها نحنُ المُتقاعدين كِبار السِّن حالياً (أو المُغَفَّلين، برأي بعض الشباب البيروقراطي أو شباب ستاربكس !!؟) هي أنَّ كُلّ شيء في حياتنا مربوط بالهاتف الجوَّال، مِنْ استلام الراتب التقاعدي إلى حجز موعد في مستوصف الحي ومُروراً بمئات الخدمات الضرورية للحياة اليومية.

والسؤال هُنا: ماذا لو بدأ كبير السِّن ينسيان الرقم السري لعشرات التطبيقات على الجوَّال !؟ مَنْ سيقوم بالاهتمام به !؟ سيقول قائل: أبناؤه وبناته. ولكن، ماذا لو لم يكُن لديه أبناء وبنات !؟ أو أنَّ أبناؤه وبناته يعيشون بعيداً عنه أو أنَّهُم عاقّون به أو … أو … !؟

قد يستطيع كبير السِّن هذا مُعالَجة الحصول على راتبه التقاعدي بالذهاب إلى البنك، ولكن لن يستطيع تسديد فواتير الكهرباء والماء والهاتف وغيرها مِن فواتير الخدمات والرسوم والمخالفات نقداً، بل عليه إجراء ذلك عَبر تطبيق البنك على الهاتف الجوال. وهذا يُعيدنا إلى موضوع قُدرَة كبير السِّن بذاكرةٍ هَشِّة على التعامُل مع تطبيقات البنك والأجهزة الخَدَمية الأخرى على الهاتف الجوَّال.

الحقيقة المؤلِمَة هُنا هي أنَّ كِبار السِّنّ، رجالاً ونساءً، قد يكونون تحت رحمَة طَرَف آخر في موضوع الوفاء باحتياجاتهم والتزاماتهم الحياتية التي تعتمد جميعها على تطبيقات الهاتف الجوَّال. ولا مَحَالَة سـتَتَعَرَّض نسبة غير قليلة مِن كِبار السِّن لكثيرٍ مِن المشاكل العائلية والاحتيالات بسَـبب اضطرارهم للاستعانة بشخصٍ آخر لمُساعدتهم في استخدام تطبيقات الهاتف الجوَّال للحصول على الخدمات الحياتية اليومية، حيث لن يستطيعوا مُمارسة حياتهم الطبيعية بدون الهاتف الجوَّال.
مِن جانبٍ آخر، يجب ألاّ نستهين بهذه النسبة مِنْ كبار السِّن التي قد تَتَعَرَّض لهذه المشاكل، خاصةً إذا ما عَلِمنا أنَّ عدد السعوديين ذكوراً وإناثاً فوق سِن 60 سنه تجاوزَ المليون شخص مِن إجمالي السكان السعوديين (8,18 مليون)، وِفقَاً لتعداد السكان 2022م (https://rb.gy/yanlda)؛ والذي لا محالة سيَتزايد خلال السنوات القادمة.

وبالتالي، يجب على الأجهزة الحكومية والخاصة إيجاد وسائل وبدائل للهاتف الجوَّال تُعين مَن هُم بحاجة مِنْ كبار السِّن للحصول على الخدمات المُتاحّة حالياً فقط على تطبيقات الهاتف الجوَّال، حيث لا يخفى على القائمين على هذه الأجهزة أنَّهم لا يستطيعون إيقاف عَجَلَة الزمن وأنَّهُم أنفُسَهُم سـيكونون “مُغَفَّلين” مِنْ فريق فوق الستين عام، عاجلاً أم آجلاً.

خُلاصَة هذه “الأكاديمية” الطويلة، أنَّنا نَحن “المُغَفَّلون” الذين تجاوزنا سـِنَّ الستين بحاجَةٍ ماسَّة لاهتمام أصحاب السمو والمعالي القائمين على الأجهزة الحكومية التنفيذية، على الأقَلّ بمُساواتنا في الحصول على نفس أسعار الخدمات والتسهيلات التي يَتَمَتَّع بها حالياً “الأذكياء” الذين لم يتجاوزا سِنّ الستين؛ وكذلك الرَّأفة بنا في جوانب حمايتنا مِنُ جرائم “تنظيف” الهاكرز “لتحويشَة العُمر” في حساباتنا البنكية، وإيجاد بدائل وحلول لكبار السِّن عن حتميَّة استخدام تطبيقات الجوال لقضاء حاجاتنا المعيشية، فلا قُدرَةَ لنا على إعادَة عقارب الساعة إلى ما قَبل سِـنّ الستين لنكون “أذكياء” وأكثَر قُدرَة على استيعاب التطوُّرات التقنية الرقميَّة !!


المصدر:  مجلة اليمامة