الحاجة لحوكمة “الاقتصاد الرقمي” من وجهة نظر الشرق!

  • — الأحد سبتمبر 01, 2024

الهدف من استكشاف وجهات النظر المختلفة بين الشرق والغرب هو إيجاد أرضية مشتركة لتطوير مجموعة جديدة من القيم الأخلاقية المناسبة للعالم الناشئ التي تلعب فيه البيانات دورا مركزيا؛ بما أن الشرق والغرب يتفقان على فكرة الواجب الائتماني، فقد يشكل هذا نقطة انطلاق جيدة لوضع آليات فعالة لإدارة البيانات تكون مصحوبة بنظام عادل من الضوابط والتوازنات التي تعود بالفائدة على الجميع.

إن البحث عن نُهج جديدة لإدارة التقنية الرقمية، يتطلب التواصل مع مختلف الأطراف المعنية، والنظر أيضا في الطريقة التي يمكن أن تساعد من خلالها وجهات النظر الشرقية لوضع نُهج لإدارة التكنولوجيا الرقمية بطريقة تناسب الجميع. فقد حان الوقت لمراجعة الأسس الفلسفية لاقتصاد السوق الحديث، وبشكل أكثر تحديدا، يجب أن نعيد التفكير في دور النزعة الفردية الأنانية والمؤسسات الرأسمالية الحديثة المشتقة منها والقائمة على مبدأ تبادل الملكية، لصالح المشاركة الاجتماعية الإيثارية للبيانات.

لماذا فشلت مؤسسات الاقتصاد الصناعي في إدارة العالم الرقمي

يتميز الاقتصاد الرقمي عن الاقتصاد الصناعي -على الأقل- بثلاث سمات ، والتي تحثنا على إعادة التفكير في المؤسسات القائمة ومواءمتها مع الاقتصاد المعاصر.

أولا، يتأثر الاقتصاد الرقمي بشكل كبير بعامل “تأثير الشبكة” على البيانات، إذ تزداد قيمة البيانات بسرعة كبيرة نتيجة إقبال المستهلكين. فلنأخذ عينة واحدة من البيانات على سبيل المثال. وحدها، لا تملك قيمة كبيرة، ولكن كجزء من مجموعة من البيانات تظهر أنماطا معينة، فهي ذات قيمة. وهذا يعني أن الكيان المسؤول عن جمع البيانات يتمتع بسلطة احتكارية على القيمة التي يخلقها. وهذا هو أحد الأسباب المهمة التي تجعل إدارة البيانات مسألة مهمة جدا للمجتمع. ويمكننا القول إن عامل “تأثير الشبكة” يقدم حجة قوية لمشاركة البيانات، بدلا من الاحتفاظ بملكية البيانات والحد من إمكانية الوصول إليها والاطلاع عليها.

يثير توسع الاقتصاد الرقمي أسئلة أخلاقية مهمة حول استخدام تكنولوجيا المعلومات وإدارتها وتنظيمها، مثل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.

السمة المميزة الثانية للاقتصاد الرقمي هي التكلفة الإضافية المنخفضة جدا للخدمات الرقمية، إذ أن تكلفة إضافة مستخدم آخر إلى منصة ما ضئيلة مقارنة بالتكلفة الثابتة لتطوير هذه المنصة. ومن الناحية العملية، يعني ذلك أنه يمكن تقديم مجموعة متزايدة من الخدمات عبر الإنترنت مجانا لجذب المستخدمين إلى المنصة. ويؤدي هذا الجانب من الاقتصاد الرقمي إلى خلل في تسعير السوق لتخصيص الموارد، لأن الطلب على الخدمات الرقمية المجانية وتوفيرها هو خارج نطاق آليات التسعير التقليدية التي خدمت الاقتصاد الصناعي بشكل جيد.

أما العامل المميز الثالث للاقتصاد الرقمي هو إمكانية تتبع البضائع بشكل أفضل. تطور الاقتصاد الصناعي على أساس الافتراض بأن القدرة على تتبع البضائع الذي يتم إنتاجها بكميات ضخمة والتي تباع إلى عملاء مجهولين في مواقع بعيدة كانت محدودة. ولكن تكنولوجيا المعلومات اليوم، ولا سيما أجهزة الاستشعار وأنظمة التعرف على البضائع بشكل تلقائي والتكنولوجيا اللاسلكية، تعزز قدرتنا على تتبع وتعقب البضائع في سلاسل التوريد لمختلف الصناعات بتكلفة منخفضة جدا. ويسمح هذا الأمر للبائعين بتتبع موقع أي سلعة قد يبيعونها ويسمح للمشترين بتحديد البائعين الأصليين وتتبع رحلة المنتج.

تعزز إمكانية التتبع الاستخدام المشترك للسلع التي يتم إدارتها بواسطة آليات التحكم والمراقبة. خذ، على سبيل المثال، “الاقتصاد التشاركي”، حيث يتم تقديم المنازل والسيارات وغيرها كخدمات، إما من خلال دفع رسوم الاشتراك أو من خلال ترتيبات الإيجار المؤقت وليس عن طريق تبادل الأشياء المادية مقابل المال. وبالتالي، فإن الملكية الحصرية للسلع المتبادلة في السوق، وهي خاصية مهيمنة للاقتصاد الصناعي، لم تعد ضرورية.

وتبين هذه العوامل الثلاثة السابقة أن الاقتصاد الرقمي يتخطى بسرعة معايير الاقتصاد الصناعي ويخلق قوى جديدة مهمة الذي يدفع إلى إعادة التفكير في الأسس الفلسفية للمجتمع الحديث.

خصائص المجتمع الصناعي

إن إدراك الحاجة إلى طرق جديدة للتفكير يتطلب فهم المجتمع الصناعي بشكل أفضل.

تطلب الإنتاج الضخم الذي أتاحته الثورة الصناعية توزيعا واسع النطاق للسلع على الأسواق الكبيرة. وفي ظل غياب تكنولوجيا الاتصالات المتقدمة الموجودة اليوم، ظهر ما يسمى بـ “الاقتصاد المجهول” وسيطر عليه تبادل البضائع مقابل المال بين الغرباء، غالبا في الأراضي البعيدة. وقد تم تطوير العديد من الآليات والمؤسسات لجعل الاقتصاد المجهول يعمل بشكل جيد. وكانت حقوق الملكية (الحق الحصري في التصرف في السلعة) والسوق ركائز الاقتصاد الصناعي وكانت مدعومة من قبل الدول القومية القوية لضمان استمرارية وظيفتها. وكانت هذه الآليات ضرورية للنشاط الاقتصادي إلى جانب أنظمة النقل الحديثة التي حسنت القدرة على نقل البضائع.

ومنذ الثورة الصناعية، اتسم عصر التحديث بالسعي إلى شمل السلع والخدمات والأصول غير الملموسة، مثل المعرفة، في مجال حقوق الملكية. وترتبط هذه الحقوق أيضا ارتباطا وثيقا بقيم النزعة الفردية، والتي تعتبر مركزية جدا للفلسفة الغربية التي تدعم المجتمع الصناعي واقتصاد السوق. وتفترض النزعة الفردية أن الشخص المستقل قادر على اتخاذ قرارات مستقلة وله الحق في المطالبة بثمار أفعاله وهو مسؤول عن عواقبها. وبالتالي، يتمتع الفرد بحقوق الإنسان الغير قابلة للانتهاك، بما في ذلك حقوق الخصوصية والملكية، والتي يمكن تبادلها في السوق.

ولكن ظهور الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة يتحدى الافتراضات الأساسية للمجتمع الصناعي، لا سيما فيما يتعلق بالاعتقاد بأن البشر يحتكرون الذكاء.

إدارة البيانات الضخمة: تصاعد التوترات

يظهر التيار الأساسي، الذي أوجدته التغييرات المؤسسية التي فرضها صعود الاقتصاد الرقمي، في أشكال مختلفة؛ على سبيل المثال، يتصارع الغرب حاليا مع خصوصية البيانات وإدارة البيانات الضخمة [مجموعات البيانات الضخمة التي جمعت من مصادر متعددة بواسطة العديد من مستخدمي الإنترنت].

وبالنسبة للمجتمع الصناعي، يتمحور هذا الصراع حول الحاجة إلى تحقيق التوازن بين استخدام البيانات للأغراض التجارية والمنفعة الاجتماعية النابعة من حماية الخصوصية الشخصية والكرامة.

وفي هذا السياق، ترتبط الخصوصية ارتباطا وثيقا بالقيم الفردية للمجتمع الغربي الحديث وتعتبر حقا من حقوق الإنسان. ولكن، بدلا من رؤية البيانات كأصول خاصة يتم تبادلها تجاريا، فإن الفلسفات الشرقية، القائمة على الثقة المتبادلة بين الناس، تعترف بالبيانات كمورد جماعي يخدم الصالح العام، حيث يتم احترام المساهمين وحمايتهم ومكافأتهم.

هل يمكن أن تقدم الفلسفات الشرقية الإيثارية التقليدية بديلا أكثر فعالية لإدارة البيانات ومشاركة البيانات مع الحفاظ على كرامة الأفراد وحمايتها؟

المثير للاهتمام هو أن مفهوم الواجب الائتماني يشير إلى وجود أرضية مشتركة بين الفلسفات الشرقية والغربية فيما يتعلق بهذا الموضوع.

إدارة الذكاء الاصطناعي: وجهات نظر مختلفة

بالنسبة للذكاء الاصطناعي، ومفهومي “العقل” و “الاستقلالية”، وخاصة فيما يتعلق بالآلات، فإننا نرى تناقضا بين المنظورين الغربي والشرقي؛ يرى الغرب أن البشر متفوقون على الكائنات الأخرى (والآلات) بسبب “العقل” البشري أو الفكر والاستقلالية المستمدة منه.

وبالتالي، فإن احتمال ظهور “الذكاء الاصطناعي” والذي من المفترض أن يكون شبيها بذكاء الإنسان (والذي قد يتجاوز الذكاء البشري) يشكل تهديدا خطيرا لسيطرة البشر على الكون بالنسبة للغرب؛ تقدم التقاليد الروحية الشرقية، التي تعتبر البشر جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وجهة نظر بديلة مثيرة للاهتمام.

يتقبل الآسيويون بشكل عام الروبوتات بشكل أكبر من الشعوب الأخرى، إذ يعتبرون أنها صديقة للإنسان وتتمتع بعقول وعواطف. يتناقض هذا بشكل صارخ مع التصور الغربي للروبوتات الذي يعتبر أن العلاقة يجب أن تكون علاقة السيد والعبد، مع اعتبار أي تغير في هذه العلاقة تهديدا.

مع انتقالنا من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد الرقمي، حان الوقت لمراجعة الأسس الفلسفية لاقتصاد السوق الحديث.

بعض التأملات في تجربة اليابان

كانت اليابان أول دولة آسيوية تتبنى الفلسفة الغربية للنزعة الفردية، فمنذ القرن التاسع عشر، قبلت اليابان التكنولوجيا والمعايير القانونية الغربية، بما في ذلك كل ما يتعلق بالملكية الفكرية، وأصبحت من أهم الاقتصادات الصناعية. ولكن، في العصر الرقمي، يبدو أن الاستراتيجية التي اتبعتها دولة اليابان تتعثر، إذ لحقتها اقتصادات آسيوية أخرى، وفي بعض الحالات، تجاوزت اليابان في المجال الرقمي. وقد اعتبر بعض المراقبين أن النجاح في الاقتصاد الرقمي يتطلب نهجا مختلفا تماما عن النهج المعتمد في العصر الصناعي.

أما النجاح الملحوظ الذي حققته الصين في المجال الرقمي (المدعوم بالتقاليد الكونفوشيوسية والماركسية) فهو يدعم بشكل قوي فكرة أن الفلسفات الشرقية التقليدية قد تسمح بإدارة البيانات بشكل أفضل. ويغذي هذا التفكير الجديد الحاجة إلى إيجاد أرضية مشتركة لوضع قيم مقبولة على نطاق واسع تستند إليها عملية تطوير آليات حوكمة للمجتمع الرقمي الناشئ. وكما ذكرنا سابقا، يمكن أن يكون مفهوم الواجب الائتماني نقطة انطلاق جيدة لهذا المسعى.

(اقتصاد التبادل التشاركي)

حان الوقت لنموذج جديد يتجاوز النزعة الفردية الأنانية

تدعم العديد من الأسباب الاعتقاد بأن آلية الحوكمة القائمة على السوق للاقتصاد الصناعي يجب أن تتطور لمعالجة الواقع الاقتصادي والتكنولوجي للاقتصاد الرقمي الآخذ في الاتساع.

فنحن نشهد بالفعل ظهور نماذج أعمال رقمية جديدة، مثل نموذج الاشتراكات ونموذج المشاركة حيث تكون “حقوق النفاذ” لاستخدام سلع معينة “مرخصة” “للأعضاء الموثوق بهم” في المجتمعات الإلكترونية. وتتناقض نماذج الأعمال هذه مع تلك الخاصة باقتصاد السوق الصناعي حيث يتم مقايضة ملكية الممتلكات (أي الحق الحصري بالتصرف بها) بالمال بشكل مجهول بين الأفراد (والشركات).

يقدم الرسم البياني السابق تصورا لتصميم للاقتصاد في عالم يتمتع بإمكانية تتبّع متقدمة، حيث يملك كل فرد سلعة (بما في ذلك البيانات) مفيدة للآخرين ويساهم كل فرد في الحق في استخدام تلك السلعة. ويمكن تسمية هذا الاقتصاد “الاقتصاد التشاركي” Potluck economy، وتتم مراقبة هذا الاستخدام المشترك للسلع المادية (والبيانات) ومكافأته من قبل المجتمع. يحافظ النموذج على مفهوم الملكية لأن المنصات التي تنظم عملية منح التراخيص تتحمل مسؤولية ائتمانية لحماية مصالح المشاركين أو الأمناء.

الحضارة السيبرانية الغربية من منظور العدسة الشرقية

في الوقت الذي يتصارع فيه صانعو السياسات، الذين يعتنقون الفلسفة الغربية للنزعة الفردية، مع تحديات المجتمع الرقمي الآخذ في الاتساع، قد تساعدنا الفلسفات الإيثارية الآسيوية في تطوير الفلسفات الأساسية والنواحي الأخلاقية للتحكم في الهياكل الاجتماعية الرقمية الناشئة التي تؤكد على احترام الثقة التي يضعها الآخرون في كيان أو مؤسسة اجتماعية؛ ويتناقض هذا الأمر مع التركيز الغربي الرأسمالي على حماية حقوق الأفراد.

تُسلط طريقة التعامل مع البيانات الشخصية الضوء على وجهات النظر المختلفة هذه. إذ يعتبر التفكير الغربي الحديث انتهاك الخصوصية انتهاكا لحقوق الأفراد الذين يجب أن يتحكموا في بياناتهم الشخصية. في المقابل، تعتبر الفلسفات الشرقية إساءة استخدام البيانات الشخصية الموضوعة في عهدة منصة ما بمثابة خيانة للثقة الممنوحة للمنصة.

ورغم أن الاختلافات في النَهج دقيقة، إلا أنها مهمة من حيث كيفية تصميم آليات الحوكمة.

ينصب التركيز الغربي الليبرالي على التأكد من أن جمع البيانات وإدارتها يتوافق مع “إرادة” الأفراد الذين يقدمون البيانات لكي يتمكنوا من الحفاظ على تحكمهم بها، في حين ينصب التركيز الشرقي على ضمان حماية البيانات واستخدامها بطرق تحافظ على “مصالح” أولئك الذين يعهدون بالبيانات، بغض النظر عن وجود أذونات صريحة لجمعها وإدارتها.

يثير هذا النقاش أيضا مسألة تحديد المسؤولية؛ فمن النقاط الشائعة النقاش في مجال إدارة الذكاء الاصطناعي، مسألة مدى واقعية الاستمرار في تحميل البشر المسؤولية النهائية عن أي خلل في الأشياء التي يصنعها الإنسان من خلالها.

وإن الافتراض الغربي بأن البشر يحتكرون الاستقلالية والذكاء، يمنح البشر السلطة المطلقة على جميع الأشياء التي يصنعها الإنسان ويجعلهم مسؤولين عنها بشكل كامل، ويظهر ذلك بوضوح في قوانين المسؤولية عن المنتجات (المسؤولية القانونية عن الضرر الناتج عن المنتجات) لمختلف الأنظمة القانونية المدنية والجنائية الغربية.

وفي المقابل، لماذا تصبح الحكمة الآسيوية بشأن التعايش مع الطبيعة مبدأ توجيهيا؟

لأنه مع مرور الوقت، يبدو أنه لا مفر من أن تمتلك الآلات، على الأقل، قدرات شبيهة بقدرات الذكاء البشري. ولذلك، يجب أن نستعد للاعتراف بشخصية الآلات إذا أردنا السماح لها بالتفاعل مع البشر بشكل وثيق.

الهدف من استكشاف وجهات النظر المختلفة بين الشرق والغرب هو إيجاد أرضية مشتركة لتطوير مجموعة جديدة من القيم الأخلاقية المناسبة للعالم الناشئ التي تلعب فيه البيانات دورا مركزيا؛ بما أن الشرق والغرب يتفقان على فكرة الواجب الائتماني، فقد يشكل هذا نقطة انطلاق جيدة لوضع آليات فعالة لإدارة البيانات تكون مصحوبة بنظام عادل من الضوابط والتوازنات التي تعود بالفائدة على الجميع.

في الختام.. إن البشرية ذكية بما يكفي لتطوير مثل هذا النظام واستخدام الفرص التكنولوجية الهائلة التي خلقتها بطريقة حضارية، نحو مبادئ مقبولة بشكل عام تقوم على الثقة والقيم الأخلاقية.


هذه نسخة مختصرة ومعدلة من مقالة ل جيرو كوكوريو، كلية إدارة السياسات، جامعة كيو، طوكيو، اليابانAn Asian perspective on the governance of cyber civilization” وجهة نظر آسيوية حول إدارة الحضارة الإلكترونية).