هل تؤشّر “روبوتات” الدردشة من قبيل «تشات جي بي تي» على بداية عصر جديد من الحضارة، أم أنها مجرد موضة أخرى عابرة، موجة تثير صخباً، وتستقطب دعاية مفرطة قبل أن يحين وقت تواريها؟
الواقع أنه من السابق لأوانه تقديم جواب جازم وحاسم على هذا السؤال، ولكن حينما نتراجع إلى الوراء قليلاً من أجل توسيع زاوية النظر وتأمل الصورة الكبيرة بدلاً من التركيز على التغييرات اليومية العادية، يتسنى لنا تمييز تيارات التغير التكنولوجي الكبيرة. فنجد أن «روبوتات الدردشة» ليست سوى تطبيق واحد من تطبيقات النماذج اللغوية الكبيرة، التي هي نفسها ليست سوى زاوية واحدة من زوايا الذكاء الاصطناعي المعاصر، وأن الذكاء الاصطناعي ما هو سوى الجزء البارز من الموجة التكنولوجية الهائلة التي بدأنا نعيشها للتو.
هذه «الموجة القادمة» هي موضوع -وعنوان – كتاب من تأليف مصطفى سليمان (مع مايكل باسكر)، والذي يُعد أحد مؤسسي مختبر الذكاء الاصطناعي البارز «ديب مايند»، الذي استحوذت عليه «جوجل» في عام 2014.
الكتاب ينظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره جزءاً من عصر تكنولوجي أوسع، عصر مرتبط بالهندسة الوراثية، ولا سيما التحرير الجيني والبيولوجيا التركيبية. وضمن هذا العصر هناك أيضاً أنواع أخرى من التكنولوجيا التي من شأنها إحداث ثورة حقيقية وتغيير قواعد اللعبة مثل الحوسبة الكمومية وطاقة الاندماج. ويحاجج على نحو مقنع بأن أياً من هذه التكنولوجيات لا تتطوّر بمعزل عن غيرها، ذلك أنها تعمل بشكل مترابط ومتداخل، حيث إن التقدم في أحد المجالات يحفّز التقدم في غيره من المجالات الأخرى.
ويرى المؤلفان وجه شبه لافتاً في التكنولوجيات التي تشكّل موجته القادمة: أنها تنشر القوة، وذلك عبر تقليص تكاليف العمل بناءً على المعلومات. وهذا، في رأيه، ما يميّزها عن الموجة السابقة من التكنولوجيات المتعلقة بالإنترنت التي خفّضت تكاليف نشر المعلومات. ولئن كان العالم من الفوضى بحيث يصعب أن يتناسب مع تلخيصات بسيطة من هذا النوع، ويشدد على ضرورة التركيز بشكل أقل على التكنولوجيات التي توجد داخل موجة من الموجات، والتركيز أكثر على ما تمكّن هذه التكنولوجيات الناس من فعله.
ويسوق الكتاب حججاً قوية ومقنعة تؤكد أنه من الممكن أن تحقق البشرية تقدماً هائلاً في ظل ما سيأتي، ولكنه يحاجج في الوقت نفسه بأن هذه الموجة من شأنها أن تلحق بنا أضراراً بالغة إذا لم نعمل بجدية أكبر على توجيهها. ذلك أن هناك الكثير مما يمكن أن ينحو منحى خاطئاً ،ويحدث على نحو مخالفٍ لما يراد له من قبيل استخدام بعض الأدوات القوية كسلاح أو بعض الحوادث المؤسفة ذات حجم غير مسبوق.
ولئن كانت النبوءات الخيالية التي تتنبأ بنهاية العالم قد باتت مصدر انشغال شائعاً في بعض دوائر قطاع التكنولوجيا، فإن الكتاب يقدّم تحليلاً رصيناً مدعوماً بالحجج. وبعيداً عن القائمة الهوليودية المألوفة لقصص استحواذ روبوتات على الحياة البشرية، يجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب نقاشات هادئة ورزينة تُبرز السياقين الاجتماعي السياسي، والاجتماعي الاقتصادي اللذين تتطور فيهما التكنولوجيا. ويبتعد المؤلفان أيضاً عن الموقف الشائع في قطاع التكنولوجيا، ويتوسّل بدروس التاريخ لمساعدتنا على اكتناه الحاضر والاستعداد للمستقبل.
ولهذا الغرض، نُسجت بشكل جذّاب عبر صفحات كتابه نبذٌ تاريخية عن التقدم التكنولوجي، من الثورة الصناعية إلى محرك الاحتراق إلى أيام الإنترنت الأولى. ومثلما تُظهر هذه الأمثلة، فإن الموجات التكنولوجية لا تكاد تتوقف – وما ينبغي لها أن تتوقف، في الواقع، لأن الركود التكنولوجي ليس هو الحل.
وكما جاء في الكتاب؛ فإن «الحضارة الحديثة تحرّر شيكات لا يستطيع صرفها إلا التطور التكنولوجي المستمر».
إلى ذلك، يتضمن الكتاب نقاشاً رصيناً حول الخطوات الملموسة والعملية التي يمكننا اتخاذها. وفي هذا الصدد، يرفض المؤلف بشدة الليبرالية المفرطة التي يتبناها بعض عمالقة التكنولوجيا مثل بيتر ثيل (المدير السابق لـ«باي بال») داعياً إلى التقنين القوي والتعاون الدولي، لكنه يقرّ بقصر النظر الذي يميّز الحكومات الحديثة والطرق الكثيرة التي يفشل بها التقنين في حوكمة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وفي تحديث السياسات العامة ، ما يعني أن حكومة المستقبل ستخفق في احتواء نظم الذكاء الاصطناعي في المستقبل.
الأسس الرأسمالية للذكاء الاصطناعي
أما في ما يتعلق بالمسائل الاقتصادية، فهو لا يذهب إلى الحد الذي تذهب إليه بعض القراءات النقدية اللاذعة للأسس الرأسمالية للذكاء الاصطناعي، لكنه يذهب إلى أبعد بكثير مما يذهب إليه معظم العاملين في قطاع التكنولوجيا حينما يناقش دور الحوافز المالية في تشجيع المخاطرات الكبيرة. كما يقدّم بعض الأفكار المثيرة للاهتمام بخصوص السياسة الضريبية، وإعادة هيكلة الشركات التي تستحق مزيداً من الاهتمام.
بيد أن الأمر لا يسلم من الوقوع في بعض الفخاخ الشائعة والمألوفة بين قادة قطاع التكنولوجيا من قبيل: النظر إلى التقدّم المتسارع على أنه شيء من المسلّمات، والحال أنه ليس كذلك، والتقليل من شأن التكلفة البشرية لإنشاء أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتسليط الضوء على جهوده الخاصة لدق ناقوس الخطر بشأن الذكاء الاصطناعي مع إغفال الإشارة إلى العديد من الأشخاص الآخرين الذين فعلوا ذلك لسنوات.
ومن غير المعروف حتى الآن ما إن كان «تشات جي بي تي» سيكون محورياً في الموجة القادمة، أم أنه لن يعدو أن يكون حطاماً جرفته التقنية المهمة إلى الشاطئ؟!
وعوضاً عن التركيز على التطبيقات التي ستصمد أمام اختبار الزمن، وأي الشركات الناشئة ستنجح، ربما يجدر بنا استشراف ما هو قادم وبسرعة، وإدراك أن هناك العديد من الأشياء التي يمكن القيام بها استعداداً لذلك.
الكتاب يقدم حلولاً واستراتيجيات مدروسة للتعامل مع التحديات والفرص التي يتيحها التحول الرقمي، ويشدِّد على ضرورة وجود إطار أخلاقي لتوجيه وتطوير التقنية واستخدامها وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، ويدعو إلى نوع من الابتكار المسؤول، والتخطيط الاستباقي، والتعاون الدولي لضمان استفادة الجميع، ويقدم خطوات للاحتواء ، كمايلي:
الخطوات العشر لاحتواء الموجة القادمة
- السلامة أولاً: نموذج برنامج “أبولُّو” للسلامة التقنية
- عمليات التدقيق والمراجعة: المعرفة قوة؛ والقوة سيطرة
- نقاط الاختناق: كسب الوقت
- الصُنَّاع: على منتقدي الاحتواء بناءه
- الشركات: الربح + الأغراض (الغايات)
- الحكومات: الصمود، الإصلاح، التنظيم
- التحالفات: وقت المعاهدات
- الثقافة: قبول الفشل باحترام
- جماعات الضغط: قوة الجمهور
- المسار الضيق: الطريق الوحيد هو المرور
ولهذا، يمكن القول بإن الكتاب يعتبر دليلاً قيّماً لاستشراف المستقبل، وفهم الصورة الكاملة لاتجاهات الذكاء الاصطناعي في “الموجة القادمة.. التقنية، والقوة، ومعضلة القرن الحادي والعشرين”!