إعداد وتأليف الدكتور صلاح نيُّوف
|مدخل|
العديد من العلوم المتعلقة بالإنسان لديها فرضية أو “مسلّمة” وهي ادعاء الفهم و الإدراك لظاهرة ما أكثر من هؤلاء الذين يعيشونها. والإستراتيجية هي إحدى هذه العلوم الإنسانية التي تؤمن بهذه الفرضية. إنها تحاول أن تكون علما شاملا يقود جميع أنواع الصراعات، ولكن مهما كان تعريفها أو اختلفنا فيه مع الآخرين فهي عمل “نبيل” لا يمارسه إلا نخبة من الناس لهم مستوى عال من المسؤولية وأهمها العلمية و المعرفية. لقد طرأ على علم الإستراتيجية تحولات مختلفة وكثيرة، فقد تحدث ” هيربرت روزينسكي” في الماضي عن الإستراتيجية الفطرية “الغريزية”، أما في العصر الحديث فقد تحول علم الإستراتيجية إلى مادة تدرس في الأكاديميات العسكرية وبهذا تكون قد تحولت الإستراتيجية إلى “علم الإستراتيجية” أو “الإستراتيجية العلمية”.
هناك من يقارن الإستراتيجية بلعبة الشطرنج، حيث نكون أمام معسكرين متعارضين.هذان المعسكران لهما هدف واحد دفعهما إلى المنافسة وهو إرغام أو قسر الخصم، مع العلم أنهما قبلا بوجود قاعدة للسلوك أو التصرف، إنها “قاعدة اللعبة”. أما الذي يتصرف بسرعة أكبر وبتفكير على المدى البعيد سيكون له الحظ الأوفر بالنصر. ونذكر هنا أن الكثير من الدراسات الإستراتيجية قارنت نابليون بونابرت بلاعب شطرنج. فهل، بالفعل وبكل بساطة، الإستراتيجية هي لعبة شطرنج؟ وكيف نستطيع القول أنها كذلك، مع العلم أن لاعب الشطرنج يفكر دائما بشكل افتراضي، وليس مادي!
أيضا، هل يمكننا أن نختزل الإستراتيجية أو تطبيقاتها إلى منافسة بين إرادة فردين أو شخصين؟ وهنا نقول أن الإستراتيجية لا توضع أو تطبق لوحدها، أما الزعماء وحتى مدراء الشركات فهم لا يمارسون الإستراتيجية بأنفسهم، بل يكتفون بتوجيه أو إعطاء الأوامر للآخرين. ولكن فيما بعد هؤلاء الذين يخضعون للأوامر سيجدون أنفسهم لوحدهم في أماكن تطبيق الإستراتيجية، بالتالي سيكون عليهم التصرف لوحدهم كما سيمتلكون مساحة اكبر للتصرف وحرية الحركة بعيد عن رؤسائهم أو مدرائهم. طبعا، هنا نجد الفصل بين من يخطط ومن ينفذ، وهذا ما سنجده في مراحل لاحقة في التمييز بين الإستراتيجية العملية و الإستراتيجية النظرية.
إن الدلالة الأولى التي ترافق مفهوم الفعل الإستراتيجي أو المفهوم الذي يرتبط به هو ” التوافق أو التلاؤم”. فالإستراتيجية ليست شكلا بسيطا أو سهلا نتحدث عنه أو ننظِّر له، بل يجب أن تترافق مع الممارسة من قبل أشخاص مسئولين و أكْفَاء. وفي اللغة الدارجة، عندما نقول عن شيء أنه إستراتيجي فهذا يعني انه مهم. أيضا بالنسبة لرجل السياسة، أو لمدراء الشركات ومن شابههم في المسؤولية، الإستراتيجي يعني المهم. كما أننا نطلق هذه الصفة “إستراتيجي” على الأشياء التي لا تقدر بثمن أو بأهميتها.
أما الدلالة الثانية التي ترافق مفهوم الفعل الإستراتيجي فهي “المستقبل”. حيث أن الإستراتيجية تنقل نظرنا إلى أبعد من اللحظة التي نعيشها أو الحاضرة، إذا إنها، وكما يقول بعض الإستراتيجيين، كل ما يمنعنا من الخضوع إلى دكتاتورية اللحظة. ولكن الإستراتيجية لا تختزل إلى فعل أو مخطط للتطبيق، فالمخطط هو توقع أو عمل مسبق يجعل من الممكن القيام بالفعل مستقبلا، أما الإستراتيجية فهي شكل من أشكال تخيل المستقبل بأكمله. إذا وبعكس العمل الذي يقوم به الإداريون، فالإستراتيجي هو من يملك رؤية كاملة وبعيدة.
إننا في هذا الكتاب نعتمد على العديد من المصادر الفرنسية[1] و الإنكليزية المترجمة إلى الفرنسية، ثم إلى المصادر الإنكليزية. طبعا لا ننسى القول بأنه وأثناء قراءتنا للكتاب سيمر معنا عدد كبير من أسماء الإستراتيجيين الألمان، الإيطاليين و الأنكلوـ سكسون، حيث يشار إلى بعض نصوصهم الإستراتيجية والتي تم تحليلها من قبل مؤرخي الإستراتيجية الغربيين. أيضا يتناول هذا الكتاب بعض الأسماء الكبيره في العلوم الإستراتيجية التي ظهرت في القارة الآسيوية، لاسيما في الصين.
تمت صياغة الكتاب بأقرب ما يمكن إلى المحاضرات التي تلقى في العادة على طلاب الجامعات، وبالتالي حاولنا الاختصار بطريقة لا يُرى فيه الكتاب على أنه همَّا أو مصدرا للقلق عند الطالب، وكما درجت العادة في إعداد الكتب الجامعية في العالم العربي. لذلك كان لدينا طموح منذ البداية وهو أن يكون للطالب الوقت والقدرة على الإطلاع على الكتاب بأكمله. ونأمل، كما سنعمل جاهدين على إعداد تكملة أو جزء ثان لهذا الكتاب يبدأ من حيث انتهى الجزء الأول وذلك لإيماننا العميق بأهمية معرفة العلوم الإستراتيجية من ألفها إلى يائها، وأيضا لأن هذا العلم لم يأخذ حقه في الجامعات العربية، لا بل هو شبه غائب ويعاني من ندرة كبيرة في المصادر المكتوبة باللغة العربية.
لتحميل الكتاب : كتاب مدخل إلى الفكر الإستراتيجي