استعراض الكاتبة : ماري أرانا
هل يمكن لمجتمع التنمية العالمي أن يكون كله على خطأ؟ وهل يعقل أنه كان على خطأ منذ البداية؟
هل كانت الصروح التي شيدت لمحاربة الفقر كالبنك الدولي، والأمم المتحدة، ومؤسسات غيتس وروكفلر، ناهيك عن وكالات المعونة ومراكز البحوث، ومبادرات النوايا الحسنة من قبل خبراء السياسة ونجوم هوليوود، كلها مجرد قصور من رمال؟
هل من المعقول أن كل هذه المؤسسات ظلت وعلى مدى 65 عاماً تعمل بناءً على افتراضات زائفة وأنفقت مليارات لا حصر ولا عد لها لدعم ذات الأنظمة التي تقمع الفقراء؟
نعم.. المستر ويليام إيسترلي يعتقد ذلك.
يقدم المستر إيسترلي من خلال كتابه المثير “استبداد الخبراء”، حجج قوية لدحض النهج التقليدي في التنمية الاقتصادية.
في مجال التدخلات الخيرية، كانت القاعدة السائدة دائما أنه يمكنك الدخول إلى بلد فقير ومعك ما يكفي من الخبراء والإمدادات والإجراءات التصحيحية للممارسات البيروقراطية، كي تجعله بلداً غنياً أو تخفف من ويلات الفقر فيه. ولكن وعلى حد قول المستر إيسترلي، فأن هذه الفكرة حمقاء، وضررها كان أكبر من نفعها.
المستر إيسترلي، وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، ونائب مدير معهد بحوث التنمية بالجامعة، ليس بالقادم الجديد في هذا الميدان. فقد كان مسؤولاً تنفيذياً بالبنك الدولي وعمل في ما يسميه بالجانب “التكنوقراط”، وقضى طيلة فترة عمله في البنك في التعامل مع الخلافات المعقدة بين من يملكون ومن لا يملكون. كما أن هذه ليست المرة الأولى التي يضع فيها نفسه في مواجهة آلية التنمية، حيث أن عناوين كتبه السابقة وحدها تتحدث عن ذلك: ككتاب “عبء الرجل الأبيض: لماذا كانت أضرار جهود الغرب لمساعدة بقية العلم أكثر من نفعها” (2006 ) وكتاب: “السعي المراوغ من أجل النمو: مجازفات الاقتصاديين ومغامراتهم الفاشلة في المناطق الاستوائية” (2001 ). إلا أن كتاب “استبداد الخبراء” غير مسبوق فلم يحدث قط أن خاض معركة حامية كهذه مع البيروقراطية كما فعل في هذا الكتاب.
المستر إيسترلي: منذ البداية، في عام 1949، عندما أعلن الرئيس هاري ترومان عن أول برنامج للمساعدات الخارجية الأمريكية، حيث كان الغرب أسيراً لوهم التكنوقراطية: أي “الاعتقاد بأن الفقر مشكلة فنية بحتة، يمكن علاجها باتباع الحلول التقنية كالأسمدة، والمضادات الحيوية، أو المكملات الغذائية. ” حيث طريقة العمل في كثير من الأحيان كانت تقتضي منح المساعدات النقدية للحاكم الاستبدادي، والدكتاتور، الذي يتمثل دوره في تكريس التسلسل الهرمي الذي يضمن بقاء الفقراء في موقعهم: أي في قاع التسلسل.
نحن نعلم جميعا أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة كثيرا ما كانت تصنع بأيدي الطغاة، والمستر إيسترلي يقدم بعض الأمثلة، حيث يروي لنا قصة الرئيس الغاني، كوامي نكروما، الذي كان يؤيد واشنطن، والذي دفعته شهوة السلطة في النهاية إلى قمع مواطنيه بطريقة وحشية، وكذلك قصة بول كاغامي، الذي تجاهلت الوكالات الأمريكية إدانته بارتكاب فظائع في انتهاك حقوق الإنسان في رواندا، وألهمته بشعور متكلف للإفلات من العقاب.
هذه القدرة على ممارسة “السير أثناء النوم” عبر التاريخ – والتي يقول المستر إيسترلي أن تكنوقراط التنمية قد تعودوا عليها- ربما تفسر لماذا قام جون ماكلوي، كأول رئيس للبنك الدولي، بالجلوس مع الرئيس الكولومبي ماريانو أوسبينا بيريز في عام 1948 لمناقشة تحديات الفقر، ويشير تقرير المتابعة لحقيقة أن هذا البلد قد مزقه العنف وأن زعيم الفقراء الكاريزمي، خورخي جيتان، قد اغتيل في اليوم نفسه. كما لم ينتبه للحقائق التي برزت بعد سنوات، عندما كان البنك الدولي (والولايات المتحدة) يقومان بمساندة الرؤساء المترنحين في كولومبيا – آنذاك – الواحد تلو الآخر، بينما فشلت التقارير في أن تقول الكثير عن غول العنف متعدد الرؤوس، الذي التهم ما لا يقل عن 400 ألف شخص خلال ثماني سنوات.
وعلى حد قول المستر إيسترلي، فالعنصرية العميقة والإهمال المتعمد للتاريخ ألقى بظلاله على علاقة الغرب مع “البقية”، النصف الجنوبي للكرة الأرضية، الذي يتحدى الفقر. هذا التحيز لديه جذور عميقة، ولكن لم يعبر عنه بطريقة أكثر وضوحا من كلمات اللورد لوغارد، الحاكم العام البريطاني لنيجيريا، والذي ألقت نظرته تجاه ذوي البشرة الداكنة بظلالها الطويلة لما يقرب من 100 عام: “في شخصية و مزاجية الإنسان الإفريقي”، حيث كتب لوغار في عام 1922 ” إنه شخص سعيد، غافل، انفعالي، يفتقر إلى الانضباط، والتبصر، وكتب عن الجنوب بشكل عام قائلاً: “نحن نتعامل مع أعراق قاصرة وغير ناضجة في هذا العالم”.
إذا كان المستر إيسترلي محقاً فيما ذهب إليه، فهو يقول لنا أن أعمال التنمية لم تتعثر فقط بسبب النظرة العنصرية التي تعتبر – ضمنيا- مناطق بأكملها من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا “عاجزة”، ولكن بسبب الإهمال المتعمد لحقائق التاريخ. ذلك أن الماضي، والجغرافيا، والهويات العرقية والفروق الاجتماعية – هذه كلها لا قيمة لها في الحسابات التنموية في الوقت الحاضر. وفي العقلية “البيضاء”، هناك قناعة بأن المساعدات لا تحتاج إلى الإحصاءات لمقارنة معدلات النمو – وغالبا ما تكون هي القاعدة السائدة في دوائر التنمية.
إن موقف الغرب الاستعلائي تجاه بقية الشعوب يعود الى فرساي في عام 1919م، وحسب قول المستر إيسترلي، عندما اسقطت الوفود الغربية مقترح اليابان بالمساواة، ورفضت أن يكتب في القانون أن الآسيويين يحق لهم التمتع بنفس الحقوق الأساسية التي يتمتع بها البيض، كان في ذلك الوقت هناك سبب جعل الاميركيين يمتنعون عن التوقيع : ففي الولايات المتحدة، على الرغم من تدفق المهاجرين البيض إلى البلاد، منع الصينيين من دخول البلاد أو المواطنة على أساس قانون استبعاد عنصري. ويقول المستر إيسترلي: واليوم لا يزال الغرب أسيراً للسياسات والأنظمة الديكتاتورية التي تمنعه من العمل بحياد.
قد تبدو هذه مجرد هفوات غير متصلة من جانب الغرب الغازي، ولكن في نظر المستر إيسترلي، تشكل تعبير عن عقلية واضحة. نحن لا نستطيع أن نرى الحقائق التاريخية الكبرى؛ نشيح بعيدا بأبصارنا عن الفظاعات التي يرتكبها الاستبداد، نعامل الفقراء كالأطفال، نسعى لاستقطاب الأقطاب من اليمين واليسار، على الرغم من أن هناك طرق أفضل لتقسم العالم، وعلى سبيل المثال: نحن ننظر إلى النازيين والشيوعيين كمناوئين في السياسية، عندما نرى أن كلاهما يمجد كتلة على حساب الكائن البشري.
النتيجة نوع من العمى يصيب مكاتب التنمية، وهو الفشل في أن ترى أن الفقراء أيضاً يستحقون الحصول على الحقوق الفردية مثلهم مثل أي مواطن في مجتمع مزدهر. وكما يقول المستر إيسترلي، انها فكرة اليد الخفية لآدم سميث – الانسياب الطبيعي للعملية الديمقراطية، وإرادة الشعب، والقدرة على جعل الحكومة مسؤولة عن أفعالها، والحق في معالجة المظالم – هو حافز قوي للمجتمعات الفقيرة كما هو الحال في البلدان الغنية. وإلا كيف أصبحت أحياء المعوزين من المهاجرين في أمريكا مجتمعات مزدهرة كما هي عليه اليوم؟ وكيف أصبحت الصين قوة اقتصادية ضاربة بمجرد السماح بالقليل من الحريات الأساسية؟
عندما تذهب وكالة التنمية الغربية إلى بلد فقير وتسلم مقاليد الحكم إلى ديكتاتور، فإنها تتخلي عن أهم عامل من شأنه أن يجعل الفقراء أحراراً، كما يقول المستر إيسترلي. فهذا يعبر عن عدم الاحترام للشعب الذي تريد مساعدته للحصول على حقوق الإنسان، وعلى مبادئ الحرية والمساواة التي تدعي أنها تدافع عنها.
وكما يقول المستر إيسترلي، يتلخص الأمر في النقاش -الذي لم يحدث بين الاثنين- من الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد: غونار ميردال وفريدريك هايك. حيث ادعى ميردال، السويدي الحائز على الجائزة أن “الفقراء لم يكونوا مهتمين بالحقوق وليسوا قادرين على المبادرة الفردية، حتى لو منحوا مثل هذه الحقوق، وقال أن الحكومات الوطنية يجب عليها تحقيق التنمية على الرغم من أن “قسما كبيرا من المواطنين أميين وغير مبالين بما حولهم.” واضاف “انه يؤمن بالتحكم في عدد السكان والهندسة الاجتماعية، بحجة أن العالم الثالث بحاجة لقهر الأمية وسوء التغذية والمرض قبل أن تعلن عن الحريات الفردية.
وأما النمساوي حايك، الحائز على نفس الجائزة، فقد ندد بجهود التنمية لأنها مفرطة “بولع السلطة”، وكان جل اهتمامه “بسياسة حرية الفرد”، وهي الاستراتيجية الوحيدة القابلة للتطبيق. واعتبر أن النظام الذي شكل مواطنيه حياتهم بأنهم جذور للازدهار في الغرب لماذا يجب أن يكون مختلفا عن نصف الكرة الجنوبي؟ لماذا ينكر الغرب حق الآخرين في الحصول على الحريات؟
ومع ذلك، فإن فلسفة ميردال عن الفقراء العاجزين والتي يفاخر بتأييد توصياته من قبل “الحكومات والخبراء في الدول المتقدمة” في العالم الذين يُعتمدون في نهاية المطاف من قبل مجتمع التنمية العالمي، وأصبحت كلماته قوانين.
إن رواية المستر إيسترلي تتشابك مع المزيج بين النظرية والتاريخ في حي المهاجرين في حي مانهاتن السفلى، وكيف أن مفاهيم حقوق الفرد أحدثت تحولاً في حياة جميع الذين مروا من ذلك الحي، ويذكرنا قائلاً: نحن أيضا في يوم من الأيام، كنا فقراء، كنا مجتمعا تنهشه الجراثيم، بالجهل المتفشي وارتفاع معدلات وفيات الرضع، ولكن الديمقراطية (المساواة الاجتماعية) هي التي جعلتنا نتطور وننمو.
المستر إيسترلي لا يقدم حلا معيناً، ولا برامج محددة، ولا يقدم خارطة طريق للاستغناء عن سخاء مجتمع التنمية، ولكن رسالته بسيطة، مفادها: قبل أن تقدم يد العون، ابحثوا عن القناعات الأساسية التي جلبت لكم الحظ الجيد.
المصدر : الواشنطن بوست