“إن الطريقة التي نحيا ونعمل ونموت بها، وحدنا، ومع أميركيين آخرين، تحوي كثيراً من الجوانب الخفية، وهو ما يدفعنا إلى القول إن ثمة أميركيتين اثنتين؛ واحدة نظن أننا نعرفها، والأخرى مجهولة فعلاً بالنسبة لنا” “جون هيور” مؤلف الكتاب!
[سخريات خفية، متناقضات، أوهام وضلالات، مفارقات، معضلات وسخافات في الحياة الأمريكية]
كتاب «الفردوس الأمريكي»” عبارة عن حقيقة صادمة لكل من توهَّم أن ثمة فردوس وراء بحر الظلمات. كما أنه صرخة نذير للمجتمعات التي جعلت من ذلك الفردوس الموهوم مثالاً يُحتذى حتى لاحت في آفاقها بعض أدوائه“.
في المقدمة وبعد أن رحَّب المؤلف بالقارئ قائلاً:” مرحباً بك في الفردوس الأمريكي“، أخبرنا عن فحوى كتابه الماتع باختصار: إنه ”يتحدث عن الجانب الآخر من الحياة في أمريكا، والتي هي في جوهرها فردوس حمقى“.
سلِّط الكاتب الضوء على خفايا الحياة الأمريكية، وكشف للقارئ وجهها الحقيقي بعد إزالة المساحيق التجميلية عنه، فتتبدّى ملامحها القبيحة المؤذِنة بكل شر!، ويعترف قائلاً:” أمراضنا الاجتماعية ليست سوى نتاج حماقاتنا الشخصية وخياراتنا الطائشة“. وهذا مدخل جيّد لنقدِ الذات.
”المجتمع الأمريكي هو فردوسٌ زائف فعلاً“ وهذا من قبيل (وشهد شاهد من أهلها)، والمؤلِّف هو باحث أمريكي، حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كاليفورنيا، ويعمل حالياً أستاذاً لعلم الاجتماع بالكلية الجامعية بجامعة ميريلاند.
وقبل أن يشرع في العرضِ والنقد لفردوس الحمقى في عشرين فصلاً، قدَّم بإلماعة إلى «النقد الاجتماعي» الذي يُعتبر أهم فرع من فروع دراسة المجتمعات، ولكنه -حسب هيور- يحظى بأقلِّ اهتمام وتقدير، والسبب في ذلك هو أنه لا أحد يحب التعرّض للنقد، حتى وإن كان نقدًا لمصلحته.
فالمجتمع يكره دائمًا أن يكون عرضة للانتقاد، ولكن الناقد الاجتماعي يجب أن يتعلّم «فن اللامبالاة» تجاه مشاعر المجتمع، إذا كان منطلقاً في نقدِه من أُسس صادقة وواقعية، ويحمل على عاتقهِ هم إصلاح مجتمعه؛ ويقول -هيور- عن الناقدِ الاجتماعي بأنه” الشخص المقتنع بضرورة تحسين مجتمعه من خلال إطلاع المجتمع على أوجه القصور فيه“. ولكنه يرى وجوب أن يكون معيار تحديد القصور هو” المُثل العليا التي كان المجتمع قد حدّدها“.
ثم ينبِّه على مسألة مهمة، وهي: هل الناقد يضمر الكراهية لمجتمعه؟
وهذه تهمة مُعلَّبة جاهزة توجه دائمًا لكل مصلح. والحقيقة أن الناقد يرى أن المهلِّلين لانحراف المجتمع عن مُثُله العليا هم أولى بهذه التهمة، لأنهم يُلحقون الضرر بمستقبلها وحظوظها. ولكن كما قال المؤلف: ”غالباً ما يغدو الناقد صوتاً صارخاً في البريةِ، يميل الجميع إلى بغضهِ أو تجاهله“.
في نهاية المقدمة يخبرنا “هيور” أن: ”من بين جميع أُمم الأرض اليوم، تُعد الولايات المتحدة الأمة الوحيدة التي تُصُوِّر أنها كانت -وما زالت- مجتمعاً مثالياً للإنسان“. وهذا نتاج ضلالات وأوهام، وما الولايات المتحدة اليوم إلا فردوساً للحمقى، لِمَ، وكيف؟ هذا ما يتمحور عليه هذا الكتاب المدهش.
ويكتب “هيور” في الفصل الـ١٨:” سنقوم باستجماع شجاعتنا الأخلاقية، وحكمتنا التاريخية، وبصيرتنا الاجتماعية، ونُدلي بوصيَّتنا النهائية، لأنفسنا ولأجيالنا القادمة“.
من أهمِّ فصول الكتاب -وكلّه مهم- الفصل العاشر، الذي تحدَّث فيه عن «الفردية والعدالة العليا»، ومما ذكره أن المجتمع الذي يعاني من الفردانية، وتخنقه الوحدة؛ هو أكثر مجتمع محموم في بحثهِ عن الترفيه ومطالبته باللهو في العالم اليوم.
يقول المؤلف: ”نحن في أمريكا أكثر الناس شعورًا بالوحدة على الصعيد العالمي، وللحصول على حلٍّ فعلينا إما أن نُصرِّح أننا مخطئون في نزعتنا الفردية، أو أن نسابق لخلق المزيد من الترفيه واللهو بُغية التغلّب على شعورنا بالوحدة“.
وعندما ذكر المجتمع عديم الفائدة، وأشار إلى قصة نجاح أمريكا، قال:” فتفوّقها في التنمية الاقتصادية هو ما أدى إلى إنشاء طلب هائل على الترفيه. فتقليدياً كان الترفيه -الذي هو وسيلة تسلية أنفسنا- مرغوبًا عند الناس الذي يمتلكون فائضاً من الوقت الفارغ والطاقة . . باختصار، أي نشاط بشري منظَّم مرتبط بالترفيه سيمثل ذاك الجزء المهدر من حياتنا أو الذي لا حاجة ملحّة له على الأقل“. هذا ما أورده المؤلِّف كإجابة على سؤال: ما هو الترفيه؟ لكنه بعد ذلك أراد أن يوضِّح التعريف للقارئ أكثر، فقال:
”الترفيه: هو أي شيءٍ نرغب في القيام به ولا يُطورنا كبشر -ونحن نعلم أنه لن يطورنا كبشر- لكننا ما زلنا راغبين في فعلهِ لأنه يُسلِّينا“. ويرى “هيور” -بصفته عالم اجتماع، كما في فصل «أمة شبحية»- أنه لا يوجد آثار إيجابية لمُنتجات الترفيه على الإطلاق، سواءً لصالح الفرد أو مُجتمعه. ويضيف: ”وحتى كصناعةٍ توفِّر العمل والنفع المادي لنفسها وللقطاع الاقتصادي، فإنَّ الأذى الذي تَخلقه في حياتِنا الاجتماعية والأجيال القادمة هو أكبر بكثيرٍ من أن تُنافسه أي إحصاءاتٍ للتوظيف أو حقائب للأرباح“.
ويقرِّر المؤلف؛ أن الانكباب بلهفةٍ على النشاطات الترفيهية دليل على خواءٍ داخلي، فيقول:” وهكذا، فإن حجم البذخ والنفقات المبذولة لأجلِ نشاطاتنا الترفيهية -علوم وفنون الترفيه العظيمة- مُساوٍ تمامًا لفراغ وتفاهة حياتنا الخاصة!“.
وفي فصل «الفردوس عن كثب» تحدَّث عن الشهوة الاستهلاكية، وذكر المحرك الرئيس لآلة الحضارة الأمريكية وهو المال. ويقول في جملةٍ فاصلة معبِّرة:” المال هو إله أمريكا وأمُّها وكل شيء فيها“. وذكر أنه المعيار الذي يقاس عليه كل خير ونقاء في أي يوم تقليدي في أمريكا.
ثم أوضح كيف يتم إغواء المستهلك، وأن كل شيء يتم تقديمه مصحوباً بحلاوة وأمل في الاستمتاع. كاشفنا هيور بأن غالب ما يدرّس في مدارس أمريكا هو منهج التضليل الشيطاني، وتعمد إلى تدريب مبتكري الإغواء المستقبليين وصانعي الإعلانات، وتقوم بتنظير وتبرير عقيدة الحياة منعدمة الروح. نعم؛ هذا ما يتواءم مع أهداف الاستهلاك الأمريكي. وذكر «عيد الكريسمس»” أكثر المواسم إثما وشرّا لما يسوده من سلوك سيئ واستهلاك كارثي“.
ويسأل “هيور” ويجيب: لماذا يعشق كل أمريكي هذا العيد؟” لأنه موسم الهدر والإلهاء البالغين، والابتعاد التام عن الواقع، وفساده لا يمت بصلة إلى الرب“.
وفي آخر فصلٍ في الكتاب «العيش والموت بالسيف» يجهر “هيور” بكل جرأة بالكلماتِ الآتية:
باعتبار تحليلنا النهائي للمجتمع الأمريكي، دعونا نلقي نظرة أخيرة على أقوى مظاهر نبوغه وشهرته: «مجتمع السوق»، و«قوّته العسكرية» التي تمنحنا موقعنا المهيمن على أنحاءِ العالم؛ اليوم تُعرف أمتنا -داخليّاً وخارجيّاً- من خلال قوّتنا الاقتصادية وتفوّقنا العسكري؛ هذان هما حدَّا سيفنا اللذان نُخضع بهما أعداءنا وخصومنا ونوفر لأنفسنا راحة البال؛ لكنَّهُ أيضاً ذات السيف الذي -في أقصى مفارقة- نوشك أن نذبح به أنفسنا؛ فالحد الاقتصادي للسيف هو ما يقطع الحبل الذي يربط بيننا أناسًا وجيرانًا وغرباء، ويتركنا جميعاً حذرين، مُرتابين، ووحيدين في وجودنا الأمريكي المنعزل، والحد الثاني هو قوّتنا العسكرية التي أصابتنا بالغطرسة والفساد، وهي علاماتٌ طبيعية لقوّة عالمية على وشك الانهيار على محورها القائم على المصلحة الذاتية والظلم.
تنبيه: هذا ليس تلخيصاً للكتاب، فمن الصعب بسط قرابة ٥٠٠ صفحة في هذه المساحة الضيّقة، وإنما أحب كاتبها خَلق بعض الإثارة والتشويق لقراءة كتابٍ استمتع برفقته، وختمه بالقول الذي ختمَ فيه المؤلف الفصل الثاني عشر، ويرجو أن يطيل القارئ الكريم التأمُّل فيه:” عمومًا -والأكثر إثارةً للدهشة بالنسبةِ لنا- تبقى حقيقة أننا الأمة الوحيدة في التاريخ التي تستطيع «التحكم بواقعها» وملاءمته من خلال تعديل طريقة عرضه. وذلك عن طريق إعطاء ثقل لبعض القضايا وتهميش أخرى بحسب الحاجة. وكمُصنِّعين ومستهلكين ومستفيدين من واقعنا، فإننا كأفراد نظن أنفسنا بنائين أحرار لأوهامنا وسادةً لخداعاتنا، نلفقها وننقحها كما نشاء. هذا بالفعل تطوُّرٌ رائعٌ وغير مسبوقٍ ولم يشهد التاريخ مثيلاً له من قبل، فهو يُبقي العالَم المُشاهِد لأمريكا مشدوهاً مُعْجَبا. لم نرَ مثيلاً لهذا سوى في أنظمةٍ وهميةٍ فقط كما في رواية «أورويل» المعنونة «1984»؛ مجتمعٌ يقوم بـ«فبركة» واقعه بمحضِ إرادته“.
وفي الختام الصلاة والسلام على خير الأنام ومن اهتدى بهداه إلى قيام الساعة.
(*) إيراد آراء بعض قرّاء كتاب «الفردوس الأمريكي»، وهؤلاء القرّاء هم طلبة المستوى الأول بالكلية الملحقة بجامعة ميريلاند، فقد طُلب منهم خلال دورة دراسية على الإنترنت اسمها «المجتمع الأمريكي» أن يقرأوا الكتاب ويقارنوه بكتاب آخر هو كتاب ” Habits of the Heart عادات القلب”
يقول Dewey Baugh :
”إن رافالكو -اسم مستعار لجون هيور- يعترض طريقك، ويثير غضبك. يدفعك إلى إدراك عيوبك ونقاط ضعفك، ليس لأنه يمتلك نافذة سرية يلج منها إلى روحك، إنما لأنه يوجه النقد لنفسه كعضو في المجتمع“.
ويكتب Stephanie D. Lee :
”يمسك [الكتاب] بخناق المجتمع الأمريكي وجميع الادعاءات الكاذبة السائدة فيه. [إنه] يفرض على القارئ (المنفتح لقبول النقد المعروض بين صفحاته) اختبار جميع أوجه قصوره، والحقائق الزائفة التي يتم زجّها باستمرار في عقولنا من قبل المجتمع، وأنفسنا، ووسائل الإعلام“.
أما William Holmes فيقول:
”الكاتب رافالكو صريح ومباشر. والكتاب عدواني (كحال أمريكا اليوم)، وتمت كتابته بأسلوب الصدمة والرعب. [إنه] أحد أكثر المناهج الواصفة لـ«أمريكانا» واقعيةً على الإطلاق. فإن أخذت في قراءته بذهنٍ متفتح فستعثر على الكثير من الحقيقة والفهم في كلماته“.
وكان انطباع Valerie Hughes بعد قراءته:
”.. يا للهول، لقد كنتُ أعيش في فقاعة طوال السنوات الأربع والعشرين المنصرمة من عمري! كنت أعلم أن ثقافتنا مختلفة، لكني لم أدرك مدى الفساد الأخلاقي الذي أصبحنا عليه، وكم هي عديدة التناقضات التي نشهدها يومياً لكننا لا نبصرها فعلاً“.
ونختم بـFe Soriano :
”إن الفردوس الأمريكي يستخدم أشياء مألوفة في مجتمعنا الحالي (أوبرا، الترفيه، السلطة..إلخ). فأسلوبه صريح للغاية، فلم يكن رافالكو يعبث، بل يدخل صلب الموضوع مباشرة. فمن السهل جدّاً أن تتعلق به وهو ذو عونٍ كبير في التفسير الذاتي الاجتماعي“.