اللقاء الثالث لأقسام التخطيط الحضري والإقليمي في الجامعات السعودية الذي عُقد أخيراً في رحاب كلية العمارة والتخطيط في جامعة الملك سعود ارتكز على بحث تفعيل دور التخصص في تطوير المدن والأقاليم في المملكة العربية السعودية.
فعلى الرغم من أن أقسام التخطيط الحضري والإقليمي مضى على إنشائها ما يقارب العقود الثلاثة إلا أن إسهام هذه الأقسام ظل في غالب الأحيان يدور في فلك النشاط الأكاديمي دون التأثير في تشكيل واقع المدن وتطويرها. فهناك الكثير من الظواهر والشواهد التي تشير إلى أن ثمة قصوراً واضحاً في عملية التخطيط. وقد لا يكون مبالغة في أن ظواهر سلبية مثل الإرهاب والتلوث والفقر والجرائم والمخدرات والحوادث المرورية جميعها نتاج سلبية التخطيط.
وإذا كان التخطيط الحضري والإقليمي أو كما يطلق عليه كمسميات رديفة تخطيط المدن أو التخطيط العمراني يهتم بتوزيع وتخصيص استخدامات الأراضي في المقام الأول داخل المدن والأقاليم إلا أن جوانب السياسات العامة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية أخذت تحتل أهمية كبيرة في إدارة المدن. يأتي هذا التحول نتيجة معطيات ومستجدات جديدة طرأت على المدن، فقد تحولت من كونها صغيرة الحجم قليلة السكان وعلاقات اجتماعية بسيطة ونظام مواصلات غاية في البساطة، إلى مجتمعات أكثر تعقيدا وأكثر حراكا وتفاعلا وطفت على السطح مشكلات لم تكن معهودة من قبل. طبيعة المشكلات الحضرية يتداخل فيها عدة أطراف وتتشابك فيها المصالح ولها تأثيرات جانبية تصل إلى جميع السكان نتيجة الكثافة السكانية العالية.
لقد قطعت أقسام التخطيط الحضري والإقليمي أشواطا كبيرة في تطوير برامجها الأكاديمية وأنشطتها البحثية. فقد أصبح هناك برامج للدراسات العليا ذات مستويات عالية تشمل الماجستير وبرامج لدرجة الدكتوراة مثل برنامج قسم التخطيط الحضري والإقليمي في جامعة الملك فيصل في الدمام الذي بدأ بقبول أول دفعة عام 1426هـ، وبرنامج الدكتوراة في قسم التخطيط العمراني في جامعة الملك سعود الذي قارب الانتهاء من إعداده. إن هناك مسألة في غاية الأهمية ونحن بصدد الحديث عن البرامج الأكاديمية، وهي أن خريجي أقسام تخطيط المدن والأقاليم يجدون صعوبة في التوظيف، بينما كان من المفترض أن يتزايد الطلب على توظيفهم للمساعدة على حل المشكلات الحضرية ووضع الاستراتيجيات للأقاليم وللإسهام في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمحليات، بدلا من تركهم يسيحون في الأرض يستجدون من يوظفهم في وظائف وأعمال أخرى غير تخطيطية.
صحيح أن التخطيط كتخصص وحقل معرفي يطور مهارات التفكير الإبداعي والبحث عن البدائل وتحليل وفهم المتغيرات والتنبؤ بها وبالتالي يؤهل المخططين في أداء الكثير من الأعمال، إلا أن أفضل ما يؤديه المخططون هو معالجة المشكلات والقضايا الحضرية التي يعانيها سكان المدن والتنبؤ بالمتغيرات المستقبلية. إن المشكل هو عندما تقلب المعادلة ويصرح بمقولة غير صحيحة يرددها الكثيرون وهو في واقع الأمر تهرب من المسؤولية وإخفاق في التخطيط مثل قولهم “مواءمة مخرجات التعليم العالي لاحتياجات السوق!” والحق، إن مكان العمل هو ما يحتاج إلى التطوير وتحسين الأداء وتطبيق المعايير المهنية حتى يكون قادرا على استيعاب هذه الكفاءات المؤهلة تأهيلا عاليا. إن خريجي أقسام التخطيط الحضري والإقليمي أشبه ما يكونون بمن يريد استخدام سيارة دون تهيئة الطريق أولا!
لقد أبلى الطلاب بلاء حسنا ونحن نستعرض مشاريع تخرجهم في المعرض الذي أقيم لهذا الغرض. لقد كانت متميزة، حوت الكثير من الأفكار الإبداعية وطرحت معالجات وحلولاً لكثير من القضايا والمشكلات التخطيطية على المستويين الحضري والإقليمي. إن جودة المشاريع تعكس عمق اهتمامات الطلاب والمهارات المعرفية التي اكتسبوها أثناء دراستهم ونجاحهم في توظيفها لفهم وتحليل ووضع البدائل المناسبة لمواجهة المشكلات الحالية والمستقبلية.
لقد بدا الحماس والتركيز على الخريجين واضحا جليا وهم يدافعون عن أفكارهم ومقترحاتهم ليس بتعصب أعمى وتجاهل أو تسطيح لآراء الآخرين، ولكن بمبررات عقلانية وإحصاءات ميدانية وحقائق واقعية قاموا بجمعها وتصنيفها وتحليلها حتى اتضحت الصورة وتبلورت الفكرة فانطلقوا يستخدمون جميع وسائل الشرح والإيضاح الحاسوبية فتفننوا في العرض وشدوا الانتباه بمخططاتهم يبينون العلاقات بين المتغيرات بعضها ببعض بحركات متداخلة بين خرائط استخدامات الأراضي تارة والرسوم الإحصائية تارة أخرى.
لقد حان الوقت لنواجه حقيقة أن المدن اتسعت مساحاتها وزاد عدد سكانها وتفاقمت مشكلاتها وعظمت التحديات، خاصة بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ولم يعد بالإمكان أن نعمل دون تخطيط، بل إن ذلك يستدعي تهيئة المدن لتكون في وضع تنافسي أفضل يحقق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية لقاطنيها. هذه الحقيقة مغيبة، بل لا نود مواجهتها وكأن شيئا لم يكن، فمدننا لم يعد باستطاعتها مواجهة حتى زخات خفيفة من مطر الشتاء، فضلا عن أن يكون بمقدورها معالجة قضايا ومشكلات أكثر تعقيدا وتأثيرا في السكان مثل: السطو المسلح وتعاطي المخدرات والاتجار بها والفقر والتلوث والإسكان وتخطيط الأحياء السكنية وتقديم الخدمات العامة. وهذه بلا شك مشكلات محلية تتطلب حلولاً ومعالجات محلية ولن نستطيع التغلب عليها واقتلاعها من جذورها دون إدراك هذه الحقيقة.
صحيح أن مواجهة هذه المشكلات تحتل أولوية على الصعيد الوطني إلا أنها تحدث داخل المدن، ومن بين سكانها من أجل ذلك كان هناك حاجة إلى تدخل الإدارات المحلية على مستوى التخطيط ووضع استراتيجيات تحد من هذه الظواهر السلبية.
إلا أن إشكالية الإدارات المحلية تكمن في عدم وجود هيئة محلية تتولى إدارة شؤون المدينة بجميع قطاعاتها، وبالتالي يكون من الصعب صياغة استراتيجيات وخطط محلية تتناول جميع القضايا وتنسق الجهود في تنفيذها.
إن المشكل الرئيس أننا لا نتعامل مع أصل المشكلة، ولكن ظواهرها، فطالما بحثنا عن حلول آنية لا تعدو كونها مسكنات تخفف من وطأة المشكلة، ولكن لا تعالجها. وهكذا ينشغل الجميع بإطفاء الحرائق هنا وهناك دون العمل على منع حدوثها والتحسب لها في المقام الأول. إن السبيل لمواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية هو إحداث وإدارة وتوجيه وضبط التغيير بدلا من الانتظار لحين تفاقم الأمور لتتحول المشكلات إلى أزمات وتفرض نفسها علينا دون أن يكون لنا حول ولا قوة.
إن المدينة أشبه ما تكون بالبيت الكبير وبالتالي تحتاج إلى مخططين يرسمون تفاصيل مستقبلها والتحسب للمستجدات وتحقيق تطلعات سكانها وطموحاتهم، بل إنهم الوحيدون القادرون على التعرف على ما ستكون عليه المدينة في المستقبل من حيث المساحة وكثافة السكان ونوعية النشاط الاقتصادي ومستوى الدخل وذلك من خلال توزيع استخدامات الأراضي وتخطيط المجاورات السكنية ووضع السياسات والضوابط والاشتراطات للتنمية المحلية.
لقد أصبح هناك اعتقاد أن القضايا التخطيطية يتصدى لها كل أحد ولا تستدعي مخططين! وهذه هي الطامة الكبرى وسبب جميع المشكلات التي نواجهها في المدن.
إن ما يجب إدراكه هو أن المستقبل يبدأ في الحاضر، لذلك يلزم أن نعلم أولا، ماذا نريد؟ وثانيا، ما المتغيرات المستقبلية؟ وثالثا، أن نبدأ بالعمل الآن، وهذا ما يجيد المخططون عمله فهلا قمنا بتوظيف الخريجين من أقسام التخطيط ومنحناهم الفرصة لإصلاح العطب الحضري وتهيئة المدن لتكون مكانا مريحا ومنتجا وآمنا؟
الاقتصادية || د. عدنان بن عبد الله الشيحة || aashiha@psu.edu.sa