“الحكيمَ قد يقول كلمةَ الضلالةِ، والمنافقَ قد يقول كلمةَ الحقِّ”
روى أبو داود عن يزيد بن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أنه قال: (كان لا يجلس مجلسا للذِّكْر، إلا قال حين يجلس: الله حَكَم قِسْط، هلَكَ المرتابون، فقال معاذُ بن جبل يوما: إن وراءكم فِتَنا يَكْثُرُ فيها المال، ويُفتَح فيها القرآنُ حتى يأخذَه المؤمنُ والمنافقُ، والرجلُ والمرأةُ، والعبدُ والحرُّ، والصغيرُ، فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني، وقد قرأتُ القرآن؟ ما هم بمتَّبعي حتى أبتدعَ لهم غيرَه، فإياكم وما ابتدعَ، فإنَّما ابتدع ضلالةٌ، وأحذركم زيغةَ الحكيمِ؛ فإنِّ الشيطانَ قد يقول كلمة الضلالةِ على لسانِ الحكيمِ، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحقِّ.
قال: قلت لمعاذٍ: ما يدريني – رحمك اللهُ – أن الحكيمَ قد يقول كلمةَ الضلالةِ، وأن المنافقَ قد يقول كلمةَ الحقِّ؟ قال: بلى! اجتنبْ من كلام الحكيمِ المشتهراتِ، التي يقال: ما هذه؟ ! ولا يثنينك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعتَه، فإنَّ على الحق نورًا ) ا.هـ. [إسناده صحيح موقفا صحيح أبي داود 4611].
كان الصحابة رضي الله عنهم يدعون الناس إلى الخير، ويحذرونهم من الشر، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر.
وفي هذا الأثر يقول يزيد بن عميرة- وكان من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه-: “كان لا يجلس مجلسا”، أي: معاذ بن جبل رضي الله عنه، “للذكر حين يجلس”، أي: للتذكير والوعظ، “إلا قال” هذه العبارة، ويكررها في مجالسه: “الله حكم قسط”، أي: الحكم العادل في حكمه، “هلك المرتابون”، أي: الذين يشكون، فقال معاذ بن جبل يوما: “إن من ورائكم”، أي: أمامكم، “فتنا”، أي: ابتلاءات واختبارات، “يكثر فيها المال”، أي: يفيض فيها المال، “ويفتح فيها القرآن”، أي: تكثر تلاوته وقراءته، “حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر”، أي: كلهم يقرأ القرآن، “فيوشك قائل أن يقول”، أي: في نفسه، “ما للناس لا يتبعوني، وقد قرأت القرآن؟ “، أي: إنه يدعوهم إلى القرآن، وإلى ما فيه فلا يستجيبون له، “ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره”، أي: آتي لهم بشيء آخر غير القرآن حتى يتبعوني؛ وذلك لعلمه أنهم يتبعون البدع ويتركون القرآن.
ثم قال معاذ رضي الله عنه: “فإياكم وما ابتدع”، أي: احذروا، واجتنبوا ما ابتدعه المبتدع ودعاكم إليه؛ “فإن ما ابتدع ضلالة”؛ لأن كل بدعة ضلالة يضل بها صاحبها، “وأحذركم”، أي: أخوفكم، “زيغة الحكيم”، أي: العالم؛ وذلك بانحرافه عن الحق؛ “فإن الشيطان قد يقول”، أي: يجري، “كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق”، أي: يجري على لسانه الحق.
قال يزيد بن عميرة لمعاذ بن جبل: “ما يدريني”، أي: ما يعلمني، “رحمك الله”، وهو دعاء له بالرحمة، “إنَّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ “، أي: كيف أعرف ذلك، “قال”؛ معاذ، “بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات”، أي: احذر من كلام الحكيم المشهور بالباطل أو الشبهة، “التي يقال: ما هذه؟!”، أي: التي تجعل الناس يقولون في شأنها إنكارا لها هذه الكلمة، “ولا يثنينك ذلك عنه”، أي: لا يصدنك زيغة الحكيم هذا عن الحكيم، فلا تجعل خطأه هذا سببا في تركك إياه وابتعادك عنه؛ “فإنه لعله أن يراجع”، أي: يرجع إلى الحق، ويترك المشتهرات والشبهات، “وتلق الحق إذا سمعته”، أي: خذ الحق من أي أحد تسمعه منه حتى لو كان الذي قاله منافقا؛ فإذا كان كلاما حسنا وصحيحا، فهو مقبول، والحق ضالة المؤمن يأخذه حيث وجده؛ “فإن على الحق نورا”، أي: إن الحق لا يخفى، ولا يلتبس؛ لأن عليه نورا وضياء بما يتوافق فيه مع كتاب الله وصحيح سنة رسول الله -ﷺ-، وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
رحم الله أبا عبد الرحمن، معاذ ابن جبل، ما أشبه الخبر بالزمان، فكأن قد رأينا تأويله.
إنها والله الفتن يرقق بعضها بعضا، كثر فينا المال، وظهر الشبع والسمن… وفتح القرآن فانتسخه بالوَرَق والحاسِب مَن لم يثبت الإيمان في قلبه، أخذه الرجل والمرأة والحر، والعبد، والصغير والكبير، وكلٌّ تحرى فيه فهما ليس ببالغه، وكم من مستشرف في الناس بعلم لم يحصّله، ومُحْدِث في الدين ما لم يأذن به الله.
وإن على كل بدعة زينة وبهجة، لذلك تَغُر الغِّر، وتُحسب شرعا… ثم هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
فرضيَ الله عن معاذ إذ أعطانا معيارًا ومنهاجًا في التعامل مع أهل العلم ومن تشبه بهم ممن ليس منهم، حالَ صواب الجميع أو خطئهم.
اتقوا زيغة الحكيم… هو والله العالم الوارث، وارث الحكمة سنة النبي -ﷺ-؛ أفنخلع أيدينا منه في زيغته؟
كلا، ما جَعَلَه أبا عبدالرحمن، -رضي الله عنه- كحال من حذرنا من بدعهم من قبل، بل نتقيها منه اتقاء، وننصفه إنصافا… لكن من قلّ علمه ضاق صدره، ومن لم يأخذ العلم عن معاذ وأصحابه لم يدرك من الحسنيين (العلم والصبر) غير الدعوى… فهذه وصية في “المنهاج” لمن تحرى “المنهاج”، فيا ليت يعلمون من زهدوا في الآثار، فساروا على غير الآثار، ونسوا حظا مما ذكروا به، فدبت العداوة والبغضاء بينهم شهوات وشبهات، وإنما الجماعة باتباع الجماعة، سنةِ السابقين الأولين.
فاللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك-ﷺ-، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، وأجمع كلمتهم على الحق والدين، وأيد بالحق أئمتنا وولاة أمرنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، وصل اللهم، وسلم على إمام المتٌّقين، وقائد الغرّ المحجّلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.