||الشيطان رجل الساعة||

  • — الأربعاء فبراير 05, 2025

بني العالم على أساس أن الخير فيه ممزوج بالشر مزجاً تاماً، فلا تكاد تجد خيراً محضاً ولا شراً محضاً.

فالنار التي تنضج تحرق، والماء الذي يروي يغرق، والسكين التي تقطع تذبح، وهكذا.

وكل شيء في العالم فيه خير وشر، حتى الكائنات الحية والجمادات .. فالزهر الناضر والربيع المنعش والشمس المدفئة والنجوم الزاهرة كلها خير ، ولكن بجانبها الصواعق والزلازل والبراكين ونحو ذلك .

فإذا انتقلنا إلى النبات، وجدنا الدواء النافع والسم الناقع . وفي الحيوانات الحمل الوديع والأسد الضاري .

فإذا وصلنا إلى الإنسان كان ذلك أوضح، فالشرير والمجرم والشهواني بجانبه الزاهد والعابد والعالم، ولكن الرجل الصالح في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، حتى لا يستطيع الرجل الطيب مهما بلغت طيبته أن يعيش هادئاً مطمئناً .

وانظر من جهة أخرى كيف أن الإنسان لم تكفه آلات الشر التي اخترعها في الحروب لسفك الدماء وتخريب المدن من طائرات وغواصات ودبابات، حتى اخترعت القنابل الذرية والنووية والجرثومية التي لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم ، ولا يدري إلا الله ماذا سيكون من اختراعات لم تخطر بعد على بال.

وبجانب ذلك كله رأسمالية تمتص الفقراء، وأقول معسولة لا شيء وراءها إلا الشر، وسياسة تحتوي أنواعاً عديدة من الفساد.

حتى العلم حوله الإنسان من خير إلى شر، فسخرته الحكومات لاختراع آلات الهلاك، وسخر الساسة التاريخ لخدمة الأغراض حتى قلبوا الحقائق وجعلوها محشوة بالأباطيل .. فإلى أي جهة ننظر نرى الشيطان باسطاً جناحيه، يغزو الخير دائماً، والناس عادة يقولون : لا بد أن الحق ينتصر، ولكن أين ذلك، ونحن نرى دائماً الحق للقوة وقلما نرى خيراً في القوة؟

إن كان ذلك حقاً فصبراً جميل حتى يخمد صوت الشيطان وتضعف سلطته، وهيهات أن يكون ذلك.

إن في استطاعة الإنسان أن يحول كل خير إلى شر، فهو يحول السكين إلى قتل، والقلم إلى سب وهجو، والنار إلى تدمير وحرق، والدين إلى تدجيل.

وأي شيء في الوجود لم يفسده الإنسان؟ وآية ذلك أنك لا تستطيع إن سألتك أن تدلني في العالم على خير محض. بل كان من شرور عالم اليوم أنه في كثير من الأحوال لا ينال الإنسان الخير إلا بالشر، كما قال معاوية رضي الله عنه : إنا لا نستطيع الوصول إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل .

ألا ترانا في هذه الأيام لا نستطيع الحصول على حرياتنا إلا بضحايا كثيرة : من سفك دماء وتخريب وضياع أنفس وأموال واستمرار في ذلك عهداً طويلاً وأمداً بعيداً؟

وحتى الظالم الذي يظلم، والمستبد الذي لا يرحم، والمستعمر الظالم لا يتأنى له الوصول إلى غرضه إلا بقتل وتخريب وتعذيب فهو أيضاً عرضة للقتل كالذي يدافع عن حريته.

ونتيجة ذلك أن المطالب بحريته _ وهي خير _ لابد له من شر، والكابت للحرية _ والكبت شر _ لا بد أن يكبتها بالشر، فالشر لا بد منه في الحالين .

والإنسان دائماً تتعارك في نفسه دواعي الخير ودواعي الشر سواء كان خِّيراً أو شريراً .. غاية الأمر أن الرجل الخيّر من أجاب دواعي الخير أكثر مما يجيب دواعي الشر، والرجل الشرير من أجاب دواعي الشر أكثر مما يجيب دواعي الخير، فليس الإنسان ملَكاً كريماً ولا شيطاناً رجيماً بل أحياناً يتصف، بصفات الملائكة وأحياناً يتصف بصفات الشياطين، ودواعي الشر هذه هي نوع مما اصطلح الناس على تسميتها بالشياطين، وهي أكثر أنواع تلعب على الإنسان في كل حين وتضل العابد وتذل الراهب .

ولذلك عمل الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – والمصلحين دائماً على أن يقوّوا في الإنسان دوافع الخير ويضعفوا فيه دوافع الشر.

وكما في الجن شياطين ففي الإنس شياطين، وعلى رأس هؤلاء الشياطين رجال السياسة في أمم الغرب… فقد لبستهم شياطين الجن، فكانوا إنساً في الظاهر شياطين في الباطن، وبذلك كانوا أسوأ من شياطين الجن، لا بأس عندهم أن يسخروا أفراد أمتهم للعسف والقتل ويزهقوا أرواحهم في التنكيل بالأمم الأخرى، وهم متربعون على كراسيهم غارقون في ترفهم ومتعهم.. فحفنة قليلة من قادة الساسة تلعب بملايين البشر وتضحك على عقولهم وأحياناًُ ما يسمونه الوطنية، وقد قدروا بذلك التنكيل بالناس أكثر مما قدر شياطين الجن، والناس بعدُ لم يفهموا أن قادتهم السياسيين يضلونهم ويسمِّمونهم بالأفكار الباطلة ولو عقلوا لالتفوا إليهم، فينكلوا بهم ويطيحوا برؤوسهم ويستريحوا منهم.

ونحن سننتظر في هذه الحالة أن يحل محلهم ساسة تتقمصهم الملائكة فيدعون إلى الإنسانية لا إلى الوطنية، ويستخدمون الذرة في العمران لا في التخريب، ولكن مع الأسف قد يطول انتظارنا طويلاً وطويلاً جداً.

وليس عصرنا هذا ببدع، فالعالم دائماً تتنازعه هاتان القوتان.

•••

كم أتمنى أن يبعث إلى الأرض نبي الله سليمان -عليه السلام- من جديد فيحبس الشياطين في القماقم، ويسخرهم في الأعمال الشاقة، ويطلق الملائكة من عقالها فتسرح في الأرض وتمرح، وتميت دوافع الشر وتحيي دوافع الخير، وتهدم الاستعمار من أساسه، وتقضي على الرأسمالية ومفاسدها وتدعو دعوات جديدة ليست بهذه ولا بتلك.

إن الناس المتفائلين قد أملوا ذلك ورجوا أن يأتي يوم يغلب فيه الخير على الشر، ولكن هل يتحقق أملهم، ويسود ظنهم إن قريباً وإن بعيداً ؟

علم ذلك عند الله … !


[من فيض الخاطر | أحمد أمين (رحمه الله)]