قال الله ﷻ: ﴿وَالَّذي أَوحَينا إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبيرٌ بَصيرٌ﴾٣١﴿ثُمَّ أَورَثنَا الكِتابَ الَّذينَ اصطَفَينا مِن عِبادِنا فَمِنهُم ظالِمٌ لِنَفسِهِ وَمِنهُم مُقتَصِدٌ وَمِنهُم سابِقٌ بِالخَيراتِ بِإِذنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبيرُ﴾٣٢﴿جَنّاتُ عَدنٍ يَدخُلونَها يُحَلَّونَ فيها مِن أَساوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤلُؤًا وَلِباسُهُم فيها حَريرٌ﴾٣٣ ﴿وَقالُوا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفورٌ شَكورٌ﴾٣٤﴿الَّذي أَحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ﴾ ٣٥ [سورة فاطر].
يذكر تعالى أنَّ الكتابَ الذي أوحاه إلى رسوله ﷺ ﴿هو الحقُّ﴾: من كثرةِ ما اشتمل عليه من الحقِّ، كأنَّ الحقَّ منحصرٌ فيه؛ فلا يكنْ في قلوبكم حرجٌ منه ولا تتبرَّموا منه ولا تستهينوا به؛ فإذا كان هو الحقَّ؛ لزم أنَّ كلَّ ما دلَّ عليه من المسائل الإلهيَّة والغيبيَّة وغيرها مطابقٌ لما في الواقع؛ فلا يجوز أن يُرادَ به ما يخالفُ ظاهرَه وما دلَّ عليه.
﴿مصدِّقًا لما بينَ يديهِ﴾: من الكتب والرسل؛ لأنَّها أخبرتْ به، فلما وُجِدَ وظهرَ؛ ظهرَ به صدقُها؛ فهي بشرتْ به وأخبرتْ، وهو صدَّقها، ولهذا لا يمكن أحدًا أن يؤمنَ بالكتب السابقة وهو كافرٌ بالقرآن أبدًا؛ لأنَّ كفره به ينقضُ إيمانه بها؛ لأنَّ من جملة أخبارِها الخبرَ عن القرآن، ولأنَّ أخبارها مطابقةٌ لأخبار القرآن.
﴿إنَّ الله بعبادِهِ لخبيرٌ بصيرٌ﴾: فيعطي كلَّ أمةٍ وكلَّ شخص ما هو اللائقُ بحالِهِ، ومن ذلك أنَّ الشرائع السابقة لا تَليق إلاَّ بوقتها وزمانها، ولهذا ما زال الله يرسلُ الرسلَ رسولًا بعد رسول حتى خَتَمَهم بمحمدٍ ﷺ، فجاء بهذا الشرع الذي يَصْلُحُ لمصالح الخلق إلى يوم القيامةِ، ويتكفَّل بما هو الخير في كل وقت، ولهذا لمَّا كانت هذه الأمةُ أكملَ الأمم عقولًا وأحسنهم أفكارًا وأرقَّهم قلوبًا وأزكاهم أنفسًا؛ اصطفاهم تعالى واصطفى لهم دينَ الإسلام وأورثهم الكتابَ المهيمنَ على سائر الكتب.
ولهذا قال ﷻ: ﴿ثم أوْرَثْنا الكتاب الذين اصْطَفَيْنا من عبادِنا﴾: وهم هذه الأمة. ﴿فمنهم ظالمٌ لنفسِهِ﴾: بالمعاصي التي هي دون الكفرِ، ﴿ومنهم مقتصدٌ﴾: مقتصرٌ على ما يجب عليه، تاركٌ للمحرَّم، ﴿ومنهم سابقٌ بالخيرات﴾؛ أي: سَارَعَ فيها، واجْتَهَدَ فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه؛ فكلهم اصطفاه الله تعالى لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتتْ مراتِبُهم وتميَّزت أحوالُهم؛ فلكل منهم قسطٌ من وراثتِهِ، حتى الظالم لنفسه؛ فإنَّ ما معه من أصل الإيمان وعلوم الإيمان وأعمال الإيمان من وراثة الكتاب؛ لأنَّ المراد بوراثة الكتاب وراثةُ علمِهِ وعمله ودراسةُ ألفاظِهِ واستخراج معانيه، وقوله: ﴿بإذن الله﴾: راجعٌ إلى السابق إلى الخيرات؛ لئلاَّ يغترَّ بعمله، بل ما سَبَقَ إلى الخيرات إلاَّ بتوفيق الله تعالى ومعونته؛ فينبغي له أن يشتغلَ بشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه.
﴿ذلك هو الفضلُ الكبيرُ﴾؛ أي: وراثة الكتاب الجليل لمن اصطفى تعالى من عباده هو الفضلُ الكبيرُ الذي جميع النعم بالنسبة إليه كالعدم، فأجلُّ النعم على الإطلاق وأكبرُ الفضل وراثةُ هذا الكتاب.
ثم ذكر جزاء الذين أوْرَثَهم كتابَه، ﴿جناتُ عدنٍ يَدْخُلونها﴾؛ أي: جناتٌ مشتملاتٌ على الأشجار والظلِّ والظليل والحدائق الحسنة والأنهار المتدفِّقة والقصور العالية والمنازلِ المزخرفةِ في أبدٍ لا يزول وعيش لا يَنْفَدُ. والعَدْنُ: الإقامة؛ فجنات عدنٍ؛ أي: جنات إقامة، أضافها للإقامة لأنَّ الإقامةَ والخلودَ وصفُها ووصفُ أهلها، ﴿يُحَلَّوْنَ فيها من أساورَ من ذهبٍ﴾: وهو الحُلِيُّ الذي يُجعل في اليدين على ما يحبُّون ويرونَ أنَّه أحسنُ من غيره، الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء.
﴿و﴾ يحلَّوْن فيها ﴿لؤلؤًا﴾: يُنْظَمُ في ثيابهم وأجسادهم، ﴿ولباسُهُم فيها حريرٌ﴾: من سندس ومن إستبرقٍ أخضر.
﴿و﴾ لمَّا تمَّ نعيمُهم وكَمُلَتْ لَذَّتُهم؛ ﴿قالوا الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنَّا الحَزَنَ﴾: وهذا يشملُ كلَّ حزنٍ؛ فلا حزنَ يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم ولا في طعامهم وشرابهم ولا في لذَّاتهم ولا في أجسادهم ولا في دوام لَبْثِهم؛ فهم في نعيمٍ ما يرونَ عليه مزيدًا، وهو في تزايدٍ أبدَ الآباد.
﴿إنَّ ربَّنا لَغفورٌ﴾: حيث غَفَرَ لنا الزلاتِ.
﴿شكورٌ﴾: حيث قَبِلَ منَّا الحسناتِ وضاعَفَها، وأعطانا من فضلِهِ ما لم تَبْلُغْهُ أعمالُنا ولا أمانينا. فبمغفرتِهِ؛ نَجَوْا من كلِّ مكروه ومرهوبٍ، وبشكرِهِ وفضلِهِ؛ حصل لهم كلُّ مرغوبٍ محبوبٍ.
﴿الذي أحَلَّنا﴾؛ أي: أنزلنا نزول حلول واستقرارٍ، لا نزول معبرٍ واعتبار ﴿دار المُقامةِ﴾؛ أي: الدار التي تدوم فيها الإقامةُ، والدار التي يُرغب في المقام فيها؛ لكثرة خيراتها وتوالي مسرَّاتها وزوال كدوراتها، وذلك الإحلال بفضلِهِ علينا وكرمِهِ، لا بأعمالنا؛ فلولا فضلُهُ؛ لما وَصَلْنا إلى ما وَصَلْنا إليه، ﴿لا يَمَسُّنا فيها نَصبٌ ولا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ﴾؛ أي: لا تعبٌ في الأبدان ولا في القلبِ والقُوى ولا في كثرة التمتُّع.
وهذا يدلُّ على أن الله تعالى يَجْعَلُ أبدانَهم في نشأةٍ كاملةٍ ويُهَيِّئُ لهم من أسباب الراحة على الدَّوام ما يكونون بهذه الصفة؛ بحيث لا يمسُّهم نصبٌ ولا لغوبٌ ولا همٌّ ولا حزنٌ.
ويدلُّ على أنهم لا ينامون في الجنة؛ لأنَّ النوم فائدتُه زوالُ التعب وحصولُ الراحة به، وأهل الجنةِ بخلافِ ذلك، ولأنَّه موتٌ أصغر، وأهل الجنة لا يموتون.
جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
[العلامة ابن سعدي (رحمه الله)]