الكاتب : كولين ماسِلْوين
لقد دَرَجَ رؤساء أبرز الجامعات حول العالم على تَبَنِّي شعور بالشك الصحي تجاه جداول ترتيب الجامعات حسب الأفضلية، وعناصر القياس التي تستند إليها تلك الجداول، لكن المسؤولين حاليًا بالمؤسسات التي تُحْسِن صنعًا وتَرْقَى في تلك التقييمات ـ جزئيًّا، استنادًا إلى استحقاقها، ولأنها تستخدم اللغة الإنجليزية، أو تتمتع بغير ذلك من المميزات التاريخية ـ صاروا في حيرة من أمرهم، بسبب القياسات الكميَّة المستخدَمة لتصنيف أداء أعضاء الهيئات التدريسية. إن الذين يكترثون للجودة الحقيقية للأبحاث والتعليم بحاجة إلى مقاومة هذا التحول.
لقد تطورت الجامعات بوصفها هيئات مستقلة من الأكاديميين. وفي الأساس، كان لرئيس الجامعة أو نائبه دور ثانوي، وحسب وصف الأمريكان.. فهو المسؤول عن تأمين أماكن انتظار سيارات أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، ومعالجة أمور علاقات الطلاب العاطفية، وتنظيم شؤون الرياضة للخريجين.
ومؤخرًا ـ وليس آخرًا في بريطانيا، حيث أصبحت بعض البرامج، مثل «تمرين تقييم الأبحاث» سائدةً في الحياة الأكاديمية ـ انقلبت موازين القوى؛ وانتقلت من أقسام الجامعة إلى نائب رئيس الجامعة. إن رؤساء الجامعات الذين يحيط بهم مديرو الأبحاث وغيرهم من التابعين لهم يرغبون في استخدام عناصر القياس؛ لتحويل كفة التوازن أكثر وأكثر.
وحاليًا، هناك ثماني جامعات رائدة، منخرطة بحماس في تطوير مشترك لأداة حوسبية قوية، تسمح لها بالمقارنة بين أداء باحثي هذه الجامعات وأقسامهم ومنافسيهم، وفقًا لحجم المِنَح المقدَّمة وعدد براءات الاختراع التي تم التقدم إليها، أو أي معايير أخرى تقريبًا يقع اختيارهم عليها. تُعرَف تلك الأداة باسم «كرة الثلج» Snowball www.snowballmetrics.com، ومن بين المؤسسات التي سجلت فيها: جامعة أكسفورد، وجامعة كمبريدج، وإمبريال كوليدج لندن، وجامعة كوليدج لندن.
وكأيّ نظام لعناصر القياس، يمكن نظريًّا استخدام «كرة الثلج» في الخير والشر على حد سواء. وأعتقد أنه سينتهي بها الأمر إلى استخدامها في الأساس وبشكل عملي لممارسة المزيد من السيطرة على أعضاء هيئة التدريس، حيث سيتم اقتفاء أثر كل جانب من جوانب الحياة المهنية لهؤلاء الأعضاء على النظام.
بالرغم من أن أداة «كرة الثلج» تم تطويرها من قِبَل أناس مخلصين وحَسَنِي النية، يرغبون في ترسيخ فهم أكثر شمولاً لأداء الأبحاث، إلا أنها تشترك في نقيصة أساسية مع غيرها من أدوات تقييم الأبحاث الكمِّيَّة؛ ألا وهي أنها مبنيّة دون أسس. فهي لا تستطيع قياس جودة الأبحاث مباشرةً، ناهيك عن التعليم. ولذا.. فبدلاً من ذلك، فهي تستخدِم بدائل ضعيفة، مثل مؤشرات اقتباس الأفراد.
وقد واجهت مؤشرات الاقتباس ـ التي تصنِّف الأبحاث استنادًا إلى متوسط عدد الاقتباسات المستشهَد بها فيها ـ طعنًا شديدًا في فعاليتها في العام الحالي، إذ وقَّعت المنظمات التي تقودها الجمعية الأمريكية لبيولوجيا الخلايا على «إعلان سان فرانسيسكو لتقييم الأبحاث» DORA، متعهِّدةً بتَبَنِّي موقف ضد التفشي الذي لا زال يستخدم عناصر القياس المعتمدة على النشر في الدوريّات العلمية.
ومن أفضل أفكار «إعلان سان فرانسيسكو لتقييم الأبحاث»: المطالبة بإتاحة بنوك بيانات الاقتباسات على الملأ، بحيث يستخدمها جميع الباحثين. ونحن نتمنى لهم حظًّا سعيدًا في مسعاهم هذا. إنّ رؤساء الجامعات يعلمون أن المعلومات قوةٌ لا يُستهان بها. وهم لا يريدون البيانات فحسب، بل يسعون إلى إملاء طريقة استغلالها أيضًا.
القياسات الواهية “للجودة العلمية” يمكن أن تهدِّد نظام التحكيـم العلـمي.
من المشكلات الرئيسة التي تشوب عناصر القياس.. مَيْل الناس المنهجي إلى تحريف سلوكهم؛ بغية تعظيم قيمة الشيء الجاري قياسه أيًّا كان، مثل المواد المنشورة في الدوريات والمجلات الأكثر استشهادًا واقتباسًا، على حساب ما لا يجري تقييمه، كممارسة الدقة في عملية التدريس. ومن المفترض أن تتجاوز أداة «كرة الثلج» هذه المشكلة بواسطة قياس جوانب أخرى كثيرة ومختلفة في الوقت نفسه، لكنها لا تستطيع تحديد قيمة السمات التي يقدِّرها المجتمع أكثر من غيرها لدى الباحث الجامعي؛ ألا وهي أصالة التفكير، والقدرة على تحفيز الطلاب، وهو ما لا يشبه بأي حال من الأحوال حَصْد تقدير عالٍ في استبيانات الطلاب الشمولية.
لقد أدرك كبار العلماء ـ منذ فترة طويلة ـ أن القياسات الواهية «للجودة العلمية» يمكن أن تهدِّد نظام التحكيم العلمي، الذي تم ابتكاره بعد مشقة وجهد جهيد في أغلب المجتمعات العلمية الرائدة؛ بغية توزيع التمويلات على أساس الأَحَقِّيَّة والجدارة.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1993 تحديدًا، سَنَّ الكونجرس الأمريكي قانون «الأداء والنتائج الحكومية»، الذي أجبر الهيئات الفيدرالية على البدء في قياس النتائج التي تتوصل إليها، لكن المؤسسة العلمية الأمريكية كانت قوية وواثقة من ذاتها آنذاك؛ فنجحت في إحباط المساعي الهادفة إلى حَمْل هيئات مثل المؤسسة العلمية الوطنية على الشروع في تلفيق أرقام؛ «لقياس» عمل مُسْتَحِقِّي المِنَح التابعين لها. وبدلاً من ذلك، تلتزم المؤسسة العلمية الوطنية بقياس أشياء أخرى.. كوَقْت استحقاق المنح.
إن الشعوب ذات المجتمعات العلمية الأوهن هي الأكثر عرضةً لهيمنة سَيْل عناصر القياس. وتتجلى المخاطر أيّما تَجَلٍّ في مناطق كإيطاليا، حيث لم يبسط نظام التحكيم العلمي للمنح هيمنته بعد، وفي الصين حيث يندر حتى استخدام هذا النظام. وهناك نزعة تبعث على القلق في الدول النامية، وخاصةً لدى هيئات الأبحاث، حيث يشيع تجاوز مسألة التحكيم العلمي المزعجة، والانتقال مباشرة إلى التخصيص البحت للتمويل على أساس الأداء الذي يتم تقييمه. وهذا من شأنه تجاوُز الجودة، وفتح الباب على مصراعيه للفساد.
إنني أرى ثمة مشكلات تلوح في الأفق بالجامعات الرائدة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية أيضًا. فقد اشتهرت تلك الجامعات على أيدي أكاديميين مستقلين، يدرِّسون بصبر وأناة للطلاب. وإذا تحَّول اسم اللعبة إلى «الأداء القوي المُقَاس بالأرقام» ـ وهي رغبة نائبي رؤساء الجامعات، كما هو واضح ـ فسوف تموت الدجاجة التي تبيض بيضًا من ذهب.
يقول أنصار أداة «كرة الثلج» إنهم متحيِّرون، لأن العلماء ـ بالنظر إلى طبيعة عملهم ـ ما زالوا يشككون في عناصر قياس أداء الأبحاث، لكن العِلْم يسعى إلى الوقوف على بدائل جيدة، وقياسها، واختبار الفرضيات الجائز تفنيدها. وبالنظر إلى التقييم الكمي للأبحاث؛ نجد أنه لا يفي بالغرض. ومع ذلك.. بدأت أداة «كرة الثلج» في الانتشار، ومن الصعب أن نتنبأ بكيفية تعطيل زخمها.
Nature