“جميع المدن العظيمة لديها شوارع أو مبانٍ مثالية ، وأماكن مثالية – وكلهم يسعون جاهدين لتحقيق الكمال عندما يقومون بعمل المشاريع الضخمة، ويأخذنا “جو بيريدج” أحد المخططين الحضريين الرائدين في العالم، في جولة داخلية لأكبر مدن العالم وأكثرها تنوعًا، من نيويورك إلى لندن، ومن شنغهاي إلى سنغافورة، ومن تورنتو إلى سيدني، وفحص ما ينجح وما لا ينجح، وما هو واعد وما يجب إصلاحه في المدن الكبرى المعاصرة؛ سلسلة من الابتكارات الحضرية تترك رؤية للمستقبل الحضري المذهل الذي ينتظر الجميع”.
– ريتشارد فلوريدا ، جامعة تورنتو
المدينة المثالية.. تبدو هدفاً وهمياً، أليس كذلك؟
كتاب (“المدينة المثالية Perfect City“: البحث عن السحر الحضري)، لخبير تخطيط المدن والمخطط الحضري “جو بيرج Joe Berridge” [1] ، يتناول فيه المؤلف ثماني مدن حول العالم في محاولةلمعرفة ما يجعل هذه المدن متشابهة، وما يجعلها مختلفة عن بعضها البعض، وما يميزها عن غيرها من المدن الأخرى في جميع أنحاء العالم.
الكتاب عبارة عن سرد للتجارب الشخصية ذات العلاقة بنظرية التخطيط، فهو يتخذ المنحى المعتاد من أعلى إلى أسفل، وهو مليء بالحكايات الشخصية، بدلاً من الطريقة الأخرى، من أسفل إلى أعلى التي اتبعها كل من جين جاكوبس Jane Jacobs وروبرت موزيس Robert Moses ، وكوني [أندرو جونسون] من العاملين في مجال التخطيط (وبالرغم من أن تجربتي وخبرتي أقل بكثير من تجربة المستر بيرج)، يمكنني بالتأكيد أن أفهم وأقدر كثيراً فلسفة التخطيط التي تدعم وجهات نظر المؤلف كمحترف في هذا المجال، وبصورة أعم كأحد سكان المناطق الحضرية.
أسلوب المضاهاة analogy الذي اتبعه “بيرج”، دقيق جداً، هو أن المخططين الحضريين هم مجرد ميكانيكيون، يقومون بضبط وتعديل الآلة المعقدة في المدينة الحديثة.
لقد اخترت أيضًا تفسير ما جاء في هذا الكتاب من زاوية: “كيف تدير المدن الأخرى أمورها، وكيف يمكن لهذا أن يساعد مدينة تورونتو؟”، وبينما يشير بيرج بصورة مباشرة ومتكررة إلى مدينة تورنتو في جميع فصول الكتاب، فهذه هي تورنتو الحضرية Urban Toronto في نهاية المطاف ، إلا أن العديد من المراجع الأخرى متروكة للقارئ لتفسيرها ومقارنتها.
ولد بيرج وترعرع في بلدة ريفية إنجليزية، وانتقل إلى مدينة تورنتو للالتحاق بمدرسة غراد Grad في عام 1968. في عهد تورنتو الجميلة “Toronto the Good”، كان أكثر شيء أثار اعجابه وذهوله هو الطابع الريفي للمدينة، ولم يكتشف الأمر إلا بعد أن ابتعد عنها، ولم يعد إليها إلا بعد بضع سنوات، فقد اكتشف مدى التغير الذي شهدته المدينة، حيث عبر عن ذلك بأسلوب بليغ للغاية حين قال: “بذور التجديد لم تكن محلية، حملتها إليها الرياح من أماكن بعيدة، بالرغم من أنها تحتاج إلى هذه التربة الحضرية السليمة لكي تنمو وتزدهر“. كانت لدى تورونتو بالتأكيد هذه التربة الحضرية الصحية، وكانت موجودة في شوارع مثل سبادينا Spadina Avenue، وبدأت هذه البذور تؤتي ثمارها، ووجد أنه بين الوقت الذي غادر فيه والوقت الذي عاد فيه، كان الشارع قد تغير من شارع تورنتو البريطاني الأمريكي الشمالي التقليدي إلى شارع يضم مجموعة واسعة من المتاجر والمطاعم الأوروبية الشرقية، ولا يوجد أي من هذه المتاجر نفسها اليوم، وقد وصف شارع سبادينا Spadina بأنه “فوضى رائعة في شارع استطاع أن يظل كما هو في كل مرة يتغير فيها بالكامل“، وهو وصف مثالي على ما يبدو.
كانت عودته أيضًا خلال فترة المعركة حول طريق سبادينا Spadina السريع، ولا يمكنك أن تشارك بعمق في ذلك دون عبور المسارات مع جين جاكوبس. وبينما يقدم بيرج خلفية جميلة عن نظريتي بناء المدينة المتناقضتين تمامًا لكل من جين جاكوبس وروبرت موزيس.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى نيويورك، حيث يعرض تفاصيل مشاركته في حي باتري بارك سيتي Battery Park City في مانهاتن داون تاون، كما يصف مشروع كورنيل تك Cornell Tech في جزيرة روزفلت Roosevelt Island في إيست ريفر East River ، والذي يقول إنه يوفر عنصرًا أساسيًا لنجاح المدينة: وهو أنه يشكل مصدر الجاذبية للجيل القادم من المواهب والقادة، وحتى تنجح أي مدينة، “يجب أن يوكل كل العمل الشاق إلى كوادر شبابية في الثلاثينيات من العمر، ويجب بعد ذلك دفعهم وبسرعة إلى مواقع السلطة والنفوذ، ثم إعادة تنشيطهم في وقت لاحق من خلال اندفاع المواهب الجديدة.” المؤسسات التعليمية تعد عنصرا أساسيا في جذب هذه الكوادر، وسوق الإسكان الذي يمكن أن يكونوا بالفعل جزءا منه أمر بالغ الأهمية للحفاظ عليهم، وهي مشكلة تواجهها العديد من المدن في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك نيويورك وتورونتو.
ثم يعرج بعد ذلك إلى سنغافورة، وهي دولة في شكل مدينة، ويقدم صورة عنها تختلف كلياً عن الطريقة التي تدار بها تورونتو، والتي يشير إليها على أنها “دورة متحركة وناطقة في العلوم السياسية“. في سنغافورة، تعتبر “الحرب على السيارة” أمرًا حقيقيًا (على عكس تورونتو، حيث لا يوجد أكثر من مجرد شعار مناسب سياسياً في أي وقت يجرؤ فيه شخص ما على تحدي سيادة السيارة).
تمتلك سنغافورة أحد أقل معدلات ملكية السيارات في العالم، حيث تشترط الحكومة على السائقين المحتملين شراء شهادة لشراء سيارة، مثل اللوحات المميزة لسيارات الأجرة في تورنتو، يتم التحكم في توريد هذه الشهادات بإحكام، مع زيادة بنسبة 1٪ فقط في العدد الإجمالي المسموح به كل عام، وقد أدى هذا إلى رفع سعر السوق لهذه الشهادة إلى أكثر من 75000 دولار في السنة، على أن تكون الشهادة سارية فقط لمدة عشر سنوات. وبعد حصولك على هذه الشهادة فقط، يمكنك شراء سيارة بالفعل.
ويبدو أن سنغافورة شهدت تطوراً واسع النطاق، حيث أعيد تطوير منطقة ميناء قديم جنوب وسط المدينة مباشرة خلال بضع سنوات فقط. فإن بدا لك هذا مألوفًا، فهو لأنه كذلك.
لكن هذا كان مختلف كلياً عن إعادة تطوير ميناء بورت لاند في تورنتو، والذي تطلب في الأصل أكثر من 350 تقييمًا بيئيًا (قلصت في النهاية إلى حوالي200 تقييم)، فإن إعادة التطوير في سنغافورة لم يتطلب أي شيء، حيث شحنت الحاويات والرافعات مرة واحدة، والآن يقف خليج مارينا، امتدادا نابضاً بالحياة في قلب المدينة.
ثم ينتقل بنا بيرج إلى لندن، حيث يعرض تفاصيل مشاركته في مشروع إعادة إعمار كناري وارف Canary Wharf ، الذي يعتبره الكثيرون الآن بمثابة المحفز لإعادة تطوير شرق لندن، وهو يشرح تفاصيل البلدة التي تُعرف باسم باركينغ Barking ، وهو مجتمع متعدد الثقافات في الضواحي، كان يفتقر إلى وسائل النقل المناسبة التي تربطه ببقية أنحاء المدينة حتى إجراء التحسينات على وسائل النقل مثل خط اليوبيل الذي كان يدفعه كناري وارف Canary Wharf. لا يسع المرء إلا أن يفكر بالمقابل في مناطق في تورنتو مثل سكاربورو Scarborough أو نورثرن إيتوبيكوك Northern Etobicoke.
وفي معرض شرحه لمشروع Detrael Crossrail للسكك الحديدية الضخمة الذي يشق طريقه حاليًا داخل لندن وعبرها، لكيفية نجاح إدارة مدينة لندن في جعل مثل هذا المشروع ممكنًا. حيث تشرف سلطة لندن الكبرى على البنود “باهظة التكلفة”، في حين تهتم حكومات المناطق البالغ عددها 33 حكومة بالبنود ذات التكلفة الأقل، إنه هيكل الإدارة الذي كان من المفترض أن يتم تبنيه في مترو تورنتو، قبل أن يتم إلغاؤه في نهاية المطاف في التسعينيات لصالح حكومة أحادية في تورونتو، وحيث يقدم مشروع النقل لمدينة لندن Transport for London (TfL) خدمة النقل عبر المنطقة، من الصعب لمن ينظر إلى هكذا مشروع ألا يحسدهم عليه.
ثم يقدم بيرج شرحا مفصلاً عن الجهود الجبارة التي بذلتها مدينتي مانشستر وبلفاست للتغلب على إزالة المناطق الصناعية، وهي جهود لا تنطبق على مدينة تورونتو، لكنها مع ذلك تقدم بعض الأفكار المثيرة للاهتمام حول تلك المدن وكيف تحاول إعادة اكتشاف نفسها.
مدينة سيدني الأسترالية هي المدينة الأكثر تشابها مع تورنتو في هذا الكتاب، حيث أن كلا المدينتين تشتركان في تاريخهما المرتبط بالاستعمار البريطاني، وقد حبسهما في مبارزة مع مدينة مماثلة في معظم تاريخهما (مونتريال مع تورونتو وملبورن مع سيدني) ، وكلاهما يقعان في مركز منطقة تقريبًا بنفس الحجم، حيث أن مدينة سيدني لديها نفس الطقس الذي يحبه الكثيرين من سكان تورنتو.
المدينة الأخيرة التي يتناولها بيرج في كتابه هي مدينة شنغهاي الصينية، والتي يسميها “عاصمة المستقبل“. حيث تشهد شانغهاي انفجارًا هائلاً في عدد السكان منذ الثمانينيات، ويتراوح معدل زيادة عدد السكان فيها حاليًا بين 700000 و 800000 نسمة سنويًا. وبالمقارنة، فإن تورونتو، أسرع المناطق الحضرية نموًا في أمريكا الشمالية أو أوروبا، حيث تنمو بمعدل يتراوح بين 100000 و125000 فقط سنويًا. ومن المتوقع لشنغهاي بعدد سكانها الحالي البالغ 24 مليون نسمة، أن تصل بعدد سكانها إلى ما بين 35 و 45 مليون بحلول العام 2050، ومن المتوقع أن تصل منطقة دلتا نهر اليانغتسي إلى 200 مليون بحلول ذلك الوقت.
هذا الانفجار السكاني أدى إلى التوسع غير المسبوق في البنية التحتية للنقل، حيث افتتاح أول خط مترو بشنغهاي في عام 1993، ويحتوي حاليًا على أكبر نظام مترو في العالم. ولديها حاليًا 12 خطًا، مدد خمسة منها، وهناك أربعة خطوط إضافية قيد الإنشاء، ولأنني قادم من مدينة دار فيها نقاش لا نهاية له حول تمديد مترو أنفاق يتكون من ثلاث محطات فقط استمر لأكثر من عشر سنوات، فإن هذه الإحصائيات تصيبني بمزيج من الرهبة والإحراج.
ومع ذلك، يجب على المرء أن يشير إلى الهياكل الحكومية المختلفة بشكل كبير التي تعمل في شنغهاي وفي كل مدينة أخرى تناولها بيرج في كتابه هذا. في حين أن بقية القائمة يجب أن تعمل في شكل ما من أشكال الديمقراطية التمثيلية، فإن شنغهاي ليست مثقلة بأمور تافهة مثل الرأي العام وحقوق الفرد أو الملكية وقوانين العمل الحديثة، فالحكومة المركزية حرة في تنفيذ أي مشاريع ترى أنها مناسبة للمضي قدماً، وهذا هو الحال. وفي ظل نظام كهذا، فإنه من غير المفاجئ إلى حد ما النطاق الذي تستطيع شنغهاي بناءه، بالرغم من تدفع الشخص إلى أن يحسدها فيما وصلت إليه.
وبالعودة إلى تورونتو، يتناول بيرج أحد أغرب المجمعات التي يمتلكها سكان مدينة تورنتو؛ مزيج غريب من الشعور بالتفوق على المسرح الكندي، ولكنه غير كافٍ على المسرح العالمي. في واقع الأمر، من بين المدن الأكثر أهمية في العالم، يقع ترتيب تورونتو بين المرتبتين السادسة والسادسة عشر (حسب الدراسة). لم يكن هناك سوى مدينتين لم تكن لهما أهمية اقتصادية منذ قرن مضى ومنذ انضمامهما إلى المنافسة العالمية الأولى: وهما سنغافورة وتورونتو.
واحدة من أكبر نقاط القوة في تورونتو هي جاذبيتها كقبلة للمهاجرين، لقد كان هذا عنصرا أساسيا في صعود تورونتو إلى الصدارة العالمية، كما يشير بيرج، “في كل مرة يعاني فيها العالم من الاضطرابات والحروب، يظهر عشرات الآلاف من القادمين الجدد في شوارع تورونتو”.
تعتبر تورونتو (وكندا) من حيث النمو، متواضعة للغاية، إحصاءات كندا تشير إلى أن منطقة تورنتو الكبرى يبلغ عدد سكانها 6.5 مليون نسمة، ومع ذلك، فإن استخدام المنهجية الإحصائية لمكتب الإحصاء الأمريكي، فستكون تورونتو قريبة من 13 مليون نسمة، مما يجعل تورونتو ثالث أكبر منطقة حضرية بعد نيويورك ولوس أنجلوس، وبمعدلات النمو الحالية، ستتجاوز لوس أنجلوس بحلول منتصف القرن الحالي.
الكتاب يقدم تجربة ثرية جداً تستحق القراءة، وستتمكن عندما تقرؤه من اكتشاف ما الذي يجعل المدينة مثالية؟
المصدر: http://urbantoronto.ca
——
[1] جو بيرج Joe Berridge ، وهو شريك في مؤسسة Urban Strategies ، ومخطط حضري ومن بناة المدن، كان له دور كبير في تطوير الكثير من مشاريع التخطيط والتجديد الحضري المعقدة في كندا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا وآسيا. وهو أيضاً محاضر بجامعة تورنتو وأيضاً من كبار الباحثين في كلية مونك Munk School للشؤون الدولية والسياسة العامة.