«خواطر حول الهوية الاقتصادية»

  • — السبت ديسمبر 17, 2022

 اللغة مطية الهوية بمخزونها الثقافي والقيمي تُستخدم لتبرير فرض الرسوم والضرائب و قبول السياسات الاقتصادية و المالية و النقدية و تدجين المجتمعات لتحقيق المكاسب و الاهداف الاقتصادية التي لا تفيد بالضرورة المجتمعات التي يتم التلاعب بهوياتها و لغاتها حتى ارتبكت بوصلتها و اختلطت عليها المفاهيم.

م. عبدالله بن ابراهيم الرخيص (عضو مجلس التنمية الدولية في جامعة هارفارد)

 هذان المقالان للأستاذ خالد السليمان ( تكلموا عربي!) و معالي الاستاذ تركي الدخيل (غريب الوجه و اليد و اللسان) مثال جلي للطريقة التي يمكن من خلالها ان يساهم التعامل المضطرب مع اللغة الى ضياع الهوية، لا سيما الهوية الاقتصادية التي ترسم الصورة الذهنية للأسس النظرية التي ترتكز عليها الاقتصادات الوطنية لتحقيق الاهداف العامة و تطوير السياسات التي تدير من خلالها البرامج الاقتصادية و التنموية بما في ذلك ادارة الموارد و الميزانية العامة و الدخل و المصروفات و المحافظة على البيئة الاقتصادية الممكنة لتحقيق الرفاه و الازدهار الاقتصادي و مواجهة الازمات و التحديات التي تؤثر على تحقيق الاهداف الاقتصادية و الاستقرار المالي و السلم الاجتماعي مثل ارتفاع تكاليف المعيشة و البطالة و نقص الخدمات الضرورية مثل الخدمات الصحية و التعليم و السكن و التنقل او ارتفاع تكلفتها و تحديات العجز المالي للموازنة العامة و ميزان المدفوعات و خلل تنافسية الاقتصاد و استدامته.

تمثل الهوية الاقتصادية المعياريةَ المرجعية في سياقها التاريخي والتأصيلي بينما يمثل وصف الهوية ربطها بالمدارس المنهجية المعيارية من جهة و ربطها بالسياق العام و المخزون الثقافي و الفكري لمدلولات الوصف اللغوي و هو وصف يتمحور حول الاساس الثقافي المترتب على مصطلح الهوية التي تنال من عقل ووجدان وروح الشعوب. كتب الدكتور عبدالله البريدي حول اهمية الهوية من منظور تعريفي جديد يمزج اللغة بالهوية والحياة مثلما يكشف ايضا عن براهين ودلائل تثبت اهمية اللغة في الحفاظ على مقومات الحضارة و تنافسيتها. ويستعرض الدكتور البريدي في كتابه “اللغة، هوية ناطقة” يمضي الكتاب “في تحليل بلاغي أبرز التحديات التي تواجه اللغة العربية في سياقات عديدة مع بلورة بعض الحلول العملية واختار ان يكون بحثه العميق مزيجا بين الطرح الأكاديمي والفكري، ومن هذا المنطلق استعان بعدد وفير من المراجع والابحاث النظرية والمعرفية والدراسات التطبيقية في معاينة العديد من الاساليب التي تنهض على طروحات التناول لأسئلة موضوعاته. يتوزع الكتاب على اربعة عناوين رئيسة هي: نحو مزيج من اللغة بالهوية، انتهاكات هويتنا الناطقة، معيقات هويتنا الناطقة وتعزيز هويتنا الناطقة في مسارات مختارة. ويلفت في سائر عناوينه الى ضرورة التعاطي العلمي مع مسألة (اللغة والهوية) والذي يقتضي منها امورا عدة من بينها ابتكار وتبني منظومة اصطلاحية متكاملة متماسكة، والافادة الجادة من المنهجية العلمية كما في العلوم الاجتماعية والانسانية والإغتراف من الحقول المعرفية التي عالجت جوانب عديدة في قضايا اللغة والهوية وفي مقدمتها علم النفس الاجتماعي. تأتي اهمية الكتاب انه يؤشر الى فاعلية اللغة العربية داعيا الى تعزيزها في سائر مفاصل الحقول العلمية والتكنولوجية الحديثة ضمن اطار المشروع الحضاري العربي الاسلامي”.  

تأثرت الهويات الاقتصادية في الدول تبعاً لتوجهاتها الاقتصادية وظروفها واحوالها وتفاعلاتها الاقتصادية والجيوسياسية مع التطورات العالمية والتحالفات والتكتلات القائمة على اسس اقتصادية عقدية مثل الاشتراكية والرأسمالية

تمثل التغيرات المتتابعة التي نتجت عن النشاط الاقتصادي الانساني المتراكم على مدى قرون لا سيما التوجهات الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية و انبرت الرأسمالية باعتبارها الهوية الاقتصادية للعالم المنتصر الذي تبنى نظرياتها و مقارباتها الاقتصادية و المالية و النقدية، ظهرت الولايات المتحدة بصفتها اللاعب الاقتصادي الذي حصد ثمار الحرب العالمية الثانية و عزز مكاسبه بعد تبني العملة الامريكية الدولار عملةً رئيسةً للنظام النقدي العالمي و التبادل التجاري و تسعير السلع الاساسية، و تعززت بناءً على ذلك مكاسب الدولار التي اعقبت اتفاقية “بريتون وودز Bretton Woods ” الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من صيف عام 1944 م في “بريتون وودز” في ولاية “نيوهامبشر” بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد حضر المؤتمر ممثلون لأربع وأربعين دولة. وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. وتمنى الممثلون إزالة العقبات على المدى الطويل بشأن الإقراض والتجارة الدولية والمدفوعات. وقد نتج عن مؤتمر “بريتون وودز” انشاء منظمتين دوليتين هما: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وقد عمل الصندوق على تشجيع الاستقرار المالي الدولي وذلك من خلال توفير المساعدات قصيرة الأجل لمساعدة الأعضاء الذين يواجهون عجزًا في ميزان المدفوعات، وقد أعطى البنك قروضًا دولية ذات آجال طويلة خاصة للدول ذات النمو المتدني، و في أوائل السبعينيات الميلادية قامت الولايات المتحدة بالتخلي عن اهم مخرجات برتون وودز بحيث لم يعد الدولار مغطىً بالذهب. وبحلول عام 1973 سيطرت قوة العرض والطلب على الدولار وعملات الدول الصناعية الكبرى وباتت العملات الرئيسة لا سيما الدولار ملجأ لربط العملات الاقل قوة.

تطل الهوية برأسها في الازمات حيث تحرص الاقتصادات على العودة الى الجذور والاسس لمعالجة الاضطرابات الاقتصادية والنقدية كما هو الحال في تأثير الهوية الاقتصادية في الارتباط بالقواعد المنظمة للبنوك المركزية و لا سيما بنك الاحتياط الفدرالي الامريكي من العودة الى القواعد المعيارية و الاسس النظرية عند كل ازمة كما هو الحال في التعاطي مع ازمات التضخم و الركود و المديونيات التي تنوء بها الاقتصادات ذوات القوة والظواهر المرتبطة بها.

منذ استقرار الاقتصادات الوطنية الغربية قبل اكثر من سبعين عاماً ارتبطت تحديات المديونية المتزايدة بمسوغات ساهمت اللغة و الهوية الاقتصادية في تبرير وجودها و دورها الاقتصادي و التقليل من شأن اثر المديونية الاجتماعي، و يرتبط مثل هذا الايحاء الذي تتنازعه تشكلات الهوية بالمقترض الفرد او المؤسسي الذي يقترض من البنك و الذي يفترض هو الآخر اما من ودائع العملاء و الاقتراض من أحد البنوك الاخرى، و هكذا يتيح القبول المبدئي لمعضلة الربا التي هي الاخرى اتكأت على تصنيف الهوية و تسويغها الاخلاقي لإبدال الفائدة محل الربا في عملية ذاتية التعزيز يرتفع فيها دين المقترض الفرد او المقترض المؤسسي مقابل دخله و أصوله. و مع استمرار تسويغ الثقافة المجتمعية التي تقبلت الوجه المغشوش للهوية الربوية و دلالاتها اللغوية لفترة طويلة لمدة زادت عن 75 عامًا عبر التاريخ الحديث من الدورات الاقتصادية التي انتجت تلك الديون التريليونية إلى نقطة لا يمكن بعدها الحصول على المزيد من الديون فتبدأ العملية في التغيير، حيث لا يمكن المقترضين الاستفادة من الدورة الجديدة لنفاذ قدرتهم على الاقتراض، فيرتفع بذلك الانفاق الخاص و شراء الاصول عن طريق الدين، حتى نرفع الاقتراض الى الحد الأقصى الممكن، و قد وصل الاقتصاد الامريكي مثلاً إلى نقطة في عام 2007 حيث كانت لديهم فقاعة ديون تم قبولها باستخدام نفس التسويغ المرتكز على الهوية و القبول المتدرج للتبريرات المستندة على الاعراف الثقافية، و هي نفس الآلية و لكن بوجه آخر و هوية ثقافية أخرى تم خلالها تبرير نفس نوع الفقاعة التي حدثت في اليابان، ونفس النوع من الفقاعة التي حدثت في الكساد الكبير في العشرينيات، مما يعني أن تلك الاقتصادات امتطت هوياتها الثقافية لتبرير وصول ديونها الى حدودها القصوى التي أحدثت تلك الازمات.

 يمكن تقسيم العالم إلى قسمين، فهناك العالم المتقدم المدين الذي وصل إلى حدود ديونه القصوى ويمر بمرحلة تخفيض المديونية. ثم هناك العالم الدائن الناشئ، دول مثل الصين قادرة على المنافسة والتي بدأت في الحصول على تلك الفوائض الكبيرة من النشاط الاقتصادي الصناعي وفوائض ميزان المدفوعات على مدى ثلاثة عقود وهم الآن يقرضون المال للولايات المتحدة بالرغم من اختلاف المدارس المرجعية الا ان الهويات الاقتصادية بأبعادها الثقافية و سياقاتها التاريخية ساهمت في تسريع قبول تسويغ هذا الخلل الكبير في العالم.

و في الوقت الذي تمر به الدول بخفض المديونية، تواجه مشكلة مع قدرة السياسات النقدية والمالية على الاستجابة للازمات اذ أوشكت السياسات ان تنفد ذخيرتها و فاعليتها

 اللغة مطية الهوية بمخزونها الثقافي والقيمي تُستخدم لتبرير فرض الرسوم والضرائب و قبول السياسات الاقتصادية و المالية و النقدية و تدجين المجتمعات لتحقيق المكاسب و الاهداف الاقتصادية التي لا تفيد بالضرورة المجتمعات التي يتم التلاعب بهوياتها و لغاتها حتى ارتبكت بوصلتها و اختلطت عليها المفاهيم.

أحد الامثلة التي سوغت خلالها الهوية الحدية بوجهها العنصري نشوء دَين جديد من لا شيء حتى امسى بعد نحو خمسين عاماً يثقل أعباء نحو نصف الاسر الامريكية، ألا و هو دين الطلاب في الجامعات الامريكية و الذي يناهز تريليون و ثمانمائة مليار دولار امريكي من ديون قروض الطلاب، هذه الديون ينوء بحملها حوالي 48 مليون مقترض، و لتخيل ضخامة عبء هذا الدين فهو يزيد بنحو 412 مليار دولار عن إجمالي ديون قروض السيارات الأمريكية. و للإيضاح أكثر فمن بين خريجي عام 2020 ، حصل 55٪ من الخريجين في درجة البكالوريوس على قروض طلابية، وتخرجوا بمتوسط ​​28400 دولار من الديون الفيدرالية والخاصة التي تثقل كواهل اسرهم و احد من تقدمهم في مسارهم المهني و الوظيفي

الواقع المؤلم انه تم تبرير واقع استثنائي ساهم في صورة من الاقصاء للطلاب الفقراء الذين لديهم الجدارة و القدرات و لكنهم لا يملكون المال للدراسة حيث أضحى التعليم العالي   متاح أكثر للأغنياء على حساب الفقراء الذين ستتأثر مسيرتهم المهنية و دخلهم و قيمتهم التي ستكون أقل أثراً من أقرانهم الاغنياء ، وهذه نكسة حقيقية لأسس المساواة التي بُنيت عليها المجتمعات و لها عواقب وخيمة على العدالة الاجتماعية و توزيع الموارد و السلم و الامن الاجتماعي.

ما حدث قبل نصف قرن من احد المتطرفين اليمينيين الذي سعى لإلغاء مجانية التعليم الجامعي الامريكي الذي كان حقاً دستورياً للجميع و حشد موارد اليمين المسيطر على الكونجرس بمجلسيه حينذاك لكي يلغي مجانية التعليم الجامعي بحجة ان ابناء الفقراء البروليتاريين يحب ان لا تتاح لهم فرص التعليم الجامعي حتى لا ينشروا الاشتراكية في المجتمعات الامريكية في حين ان اهدافه و اهداف مناصريه في هذا التوجه كانت مصالح خاصة للمرابين و العنصريين الذين عزفوا لحن الهوية الوطنية لتسويغ تحميل نصف الاسر الامريكية هذه الديون الثقيلة.

هذا التحدي الذي أشرت اليه والذي يستخدم الهوية و موروثها الثقافي في صناعة السياسات المؤثرة على السلم الاجتماعي وفق الواقع الذي نشهد تحولاته يتطلب المزيد من الدراسة و البحث المنهجي لتحاشي الاجتهادات التي تضر الفقراء و هم اغلبية في المجتمعات.

ما أشرت اليه في التجربة الامريكية كان احد التجارب التاريخية التي استغلت ثغرات في التحولات التي يشهدها المجتمع الامريكي في عز المكارثيته العنصرية و سعيها الى الغاء مجانية التعليم الجامعي التي كانت حقاً دستورياً للجمبع، هذه القرارات التي تُتخذ في الطريق الى المنزل و في الغالب هي نتاج مقترح من استشاري او صاحب مصلحة منبت عن القضايا المصيرية و الوجودية للمجتمعات. مثل هذه القرارات تتطلب الصبر و الحكمة و الدراسات المنهجية القائمة على البيانات الصحيحة و الدقيقة و من ثم السياسات المستنيرة بالأدلة و البراهين.