لقد أصبحت التقنية اليوم أمراً أساسياً لابد منه حتى تتمكن المؤسسات من التنافس فيما بينها، فالتطورات الحديثة التي تستشرف المستقبل، مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية، لم تعد مجرد مقترحات جذابة، ولكنها باتت خيارات لابد منها لمبادرات مهمة يتسابق الرؤساء في تنفيذها.
بيد أن معظم هذه المبادرات لا يحالفها _للأسف الشديد_ النجاح ، حيث ذكرت شركة ماكينزي الاستشارية أن الذي ينجح هو أقل من ثلث التحولات التنظيمية التي تسعى المؤسسات لتطبيقها، وهذه حقيقة صادمة، ولك أن تتخيل أي مبادرة أخرى وبهذا المستوى المتوقع لنجاحها لحصولها عادة على تمويل ثابت، وبما يُنظر إليها بحماس على أنها رهان ذكي على المستقبل ثم تفشل.
التحول الرقمي يجب ألا يكون رهانًا خاسراً، إذ أن التحول الرقمي في الحقيقة هو تحول بشري في المقام الأول، ومن هنا يجب أن يكون المنطلق، فالكثير من المبادرات لا يحالفها النجاح نظرًا لأن المؤسسات عادة ما يصيبها الاعجاب إلى حد التعامي بسبب الجوانب المذهلة للتقنية، فتتغافل عن التركيز على أهدافها الواضحة، فتقوم بتوسيع نطاقها بسرعة كبيرة، ثم تعلن عن تحقيق النجاح مبكر جدًا وهي لم تحققه.
وهناك اربع نقاط أساسية يجب معرفتها:
1.التركيز على الكوادر البشرية أولاً، ثم على التقنية ثانياً
يبدو التحول الرقمي في بادئ الأمر واضحًا إلى حد ما، فهناك العديد من الشركات المؤهلة التي يمكنها تطبيق التقنية السحابية والأتمتة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي أو أي شيء آخر تبحث عنه بكفاءة عالية، وبالتالي، من الناحية النظرية على الأقل، ينبغي أن تكون عملية الشراء فعالة في تحديد مصادر وتنفيذ المشروع.
ومع ذلك، تأمل حجم وتيرة التغير الذي طرأ في طبيعة العمل خلال العقود القليلة الماضية بسبب التحولات التقنية، حيث أننا نقضي وقتًا أقل بكثير في العمل بهدوء في مكاتبنا، وأصبحنا أكثر تفاعلًا مع الآخرين، حيث جزءً كبيراً من القيمة التي نسعى إلى توليدها قد تحول من المهارات المعرفية إلى المهارات الاجتماعية، وأصبح التعاون ميزة تنافسية بشكل متزايد، والتقنيات الحديثة مثل السحابة والذكاء الاصطناعي سوف تسهم في تعزيز وتسريع هذه الاتجاهات.
والحقيقة هي أن القيمة بطبيعتها لا تختفي أبدًا أو تتلاشى بل تنتقل إلى مكان آخر، فمثلاً، تأمل في وضع الصرافين في البنوك الآن، حيث أن عدد الصرافين الذين نراهم اليوم هو أقل من نصف عدد الصرافين في البنوك قبل إدخال أجهزة الصراف الآلي في الخدمة، لكن العمل الذي يقومون به الآن مختلف إلى حد كبير، حيث أنهم ليسوا هناك لتنفيذ المعاملات التي يمكن تقديمها عبر أجهزة الصراف الآلي، ولكنهم يقومون بتقديم الاستشارات وحل المشكلات والتسويق، وهي مهام تتطلب مهارات مختلفة جدا.
لذا فإن الخطوة الأولى نحو التحول الرقمي الناجح ليست هي التقنية نفسها، ولكن التفكير في كيفية تمكين الكوادر البشرية من خلال هذه التقنية.
إلى أين تتوقع أن تتحول القيمة؟ ما هي المهارات الجديدة التي سيحتاج موظفيك إلى تعلمها لتحقيق النجاح؟ كيف يمكن أن تساعدهم التقنية في الوصول إلى المستوى الذي يطمحون إليه لخدمة المتعاملين بشكل جيد؟
2.حدد النتائج التي تريد تحقيقها بوضوح
هناك خطأ شائع آخر يرتكبه المسؤولون التنفيذيون عند تطبيق أي تقنية جديدة، وهو أنهم يركزون فقط على إمكانات التقنية نفسها، بدلاً من نتائج الأعمال التي يريدون تحقيقها، هل تحاول زيادة عدد المعاملات وتحسين مستوى الخدمة وتجربة المتعاملين أو أي شيء آخر؟ يجب أن تحدد ما تريد أولاً حتى قبل التفكير في تبني أي أسلوب تقني.
ولذلك، أي جهود للتحول يجب أن يشارك فيها منذ البداية مديرو العمليات والشركاء وموظفي الصفوف الأمامية، ويجب أيضًا التواصل مع المتعاملين ومعرفة ما يريده فعليًا، بدلاً من ما يمكن أن يساعد ببساطة في تشغيل العمليات بطريقة أكثر سلاسة. ومن بعد ذلك، يمكنك البدء في تطوير رؤيتك لكيفية إدارة أعمالك بشكل مختلف.
فعلى سبيل المثال، عندما وصل المستر باري ليبنسون Barry Libenson لأول مرة إلى شركة Experian عملاق البيانات في وظيفة كبير المسؤولين المعلوماتيين عام 2015، أمضى الأشهر الأولى في التحدث مع المتعاملين ووحدات الأعمال التي تقدم لهم الخدمات، حيث وجد نفس الشيء في جميع الوحدات التي ذهب إليها: أكثر ما يطمح إليه المستفيدين هو الوصول إلى البيانات في الوقت الفعلي real-time data، وهي الخدمة التي لا تستطيع البنية التحتية الحالية للشركة توفيرها.
من هنا، كان الطريق إلى الأمام سهلاً إلى حد ما، لكنه ليس بهذه البساطة، فالأمر يتطلب تحويل الشركة من بنية الخادم التقليدية في الموقع، إلى السحابة، استغرق هذا الأمر ثلاث سنوات لإنجازه، لكنه استطاع أن يحدث تحولاً في أعمال شركة Experian، وقام بتمكين نماذج أعمال جديدة وساهم في تحقيق تدفقات لإيرادات جديدة.
3.حدد التغيير الرئيسي الذي يمكن تحقيقه على المدى القصير
بمجرد أن تتمكن من تحديد الرؤية، فإن الميول ستتجه في أغلب الأحيان نحو الشروع في “مسيرة مدتها خمس سنوات” لتحقيق هذه الرؤية، وفي نهاية المطاف، ينتهي الجميع إلى الإحباط والغضب، وقد يتضح أنه بحلول موعد تحقيق الرؤية، أن تلك التقنية أصبحت ضرباً من الماضي.
وعليه، بدلاً من محاولة استيعاب الرؤية بالكامل، من الأفضل أن تبدأ بتغيير رئيسي، فكر في هدف واضح وملموس يمكنك تحقيقه على المدى القريب يتطلب مشاركة أطراف متعددة من الجهات المعنية لتمهيد الطريق أمام مبادرات أكثر تعقيدًا في المستقبل.
هناك طريقة للقيام بذلك، وهي اختيار الحل الذي يمكن أن يساعد الموظفين الذين لديهم مهام متعبة وشاقة بدلاً من إنشاء قدرات جديدة، فمن الأسهل تحفيز الموظفين عن طريق تقليل الوقت والجهد الذي يتعين عليهم قضاؤه على شيء لا يرتاحون إليه، ثم دفعهم إلى تبني شيء جديد، يجب أن تسعى دائمًا إلى التحفيز والتمكين، بدلاً من افساده أو الإكراه.
على سبيل المثال، في حالة شركة Experian، بدأ المستر ليبنسون بإنشاء واجهة برمجة تطبيقات داخلية بدلاً من بناء الميزات الخاصة بمواجهة المتعاملين، لم تتسبب تلك الخطوات في تأثير هائل، لكنها أظهرت ما هو ممكن، وساهمت في بناء الزخم اللازم للرؤية الأكبر.
4.تعامل مع التحول على أنه رحلة، وليس وجهة
لعل الجزء الأكثر خطورة في أي تحول هو عندما يتم تحقيق الأهداف الأولية، وعندها يبدأ الحافز في التناقص ويتراجع الرضا عن الذات، في كتابي بعنوان: المتتاليات Cascades، أسميت هذه المشكلة بالمحافظة على النصر (النجاح) وهي عنصر حاسم في أي جهد تحولي.
مفتاح المحافظة على النجاح هو التخطيط له من البداية، ففي حالة شركة Experian، لم تكن الرحلة إلى للتحول للسحابة في حد ذاتها، أبدًا، كانت تلك مجرد وجهة، كانت الرؤية دائمًا تقديم خدمة أفضل للمستفيدين، وتطوير نماذج أعمال جديدة، ولذلك قام المستر ليبنسون بالتركيز ليس فقط على تطبيق التقنية، ولكن أيضًا على نشر وتعليم القيم والمعتقدات الجديدة.
وقد ذكر المستر ليبنسون “بعد أن مررنا بهذه العملية التحويلية على مدار السنوات الثلاث الماضية وشهدنا نتائج أعمال ملموسة، أصبحنا في وضع أفضل بكثير لتبني هذه التقنيات، لقد أجرينا تغييرات في ثقافة الشركة وفي هيكلها التنظيمي وفي مهاراتنا حتى نتمكن من اعتماد تقنيات جديدة بشكل سريع ومتكامل وبتعاون أفضل مع المستفيدين.”
هذا التركيز على القيم أمر أساسي، لأن تغيير السلوكيات الأساسية يجب أن يسبقه أولاً تغيير المعتقدات الأساسية، فالتحول الرقمي يتمحور دائمًا حول تمكين العمل، حاول أن تهتم بهذه الجزئية بالذات، لعلك أن تنجح حيث يفشل الكثيرين.
الكاتب : جريج ساتيل مؤلف شهير ومتحدث رئيسي ومستشار معروف، وله كتاب المتتاليات Cascades: كيفية إنشاء حركة تحفز التغيير التحولي – دار ماكجرو هيل في أبريل 2019.
المصدر: www.innovationexcellence.com