العودة إلى نظام الحكومة الكبيرة التي ستجلب الكثير من الخير والشر
The comeback of big government brings the potential for greater good and evil
التاريخ: 23 مارس 2020م
نيويورك. نظام الحكومات الكبيرة الذي عانى الكثير من الانتقادات في السنوات الأخيرة، سيعود ومعه إمكانية تحقيق الخير والشر على حد سواء.
فيروس كورونا الذي يهدد هذا العالم اليوم بالركود الطويل، سيفتتح على ما يبدو حقبة سياسية واقتصادية جديدة يسودها الاضطراب، وسوف تظهر اتجاهاتها الرئيسية خلال الأشهر والسنوات القادمة، بيد أن التحول الأكثر ثورية أصبح الآن يلوح في الأفق.
لقد عادت الدولة اليوم وعاد معها دورها الأساسي: سيعود عهد الطاغوت (Leviathan)، مانع الفوضى، وصمام الأمان النهائي ضد الحالة الإنسانية التي لا تطاق، والتي تكون الحياة فيها “انفرادية، وبائسة، وبذيئة، ووحشية وقصيرة”.
في جميع البلدان التي انتشر فيها فيروس كورونا لأول مرة – الصين وكوريا الجنوبية وإيران وسنغافورة وتايلاند وتايوان وهونغ كونغ وإيطاليا – تقود الدولة الحرب ضد الفيروس، وتقوم بفرض حالات الإغلاق الصارمة على جميع السكان، وتضحي بلا رحمة بالحرية الشخصية من أجل الأمن.
ولم يتبين بعدُ حتى الآن ما إذا كانت مثل هذه التدخلات الثقيلة ستنجح في نهاية المطاف – بيد أنها الآن تحقق نجاحاً ملحوظاً في سنغافورة والصين على ما يبدو، وهي الدول التي تتمتع فيها الدولة الضخمة بسلطة هائلة.
ومع ذلك، تدرك النخب السياسية الحاكمة في كثير من البلدان الأخرى، أنه سيتم الحكم عليها من خلال قدرتها الإدارية على التحكم في انتشار الفيروس.
إن الاستجابة المتعثرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الأحداث، وهي تدل إلى حد كبير على عدم قدرة الدولة الأمريكية على هذا الامتحان الشامل، هذا بالإضافة إلى أوجه القصور الشخصية التي يعاني منها الرئيس نفسه، وهي بادية للعيان على نحو واضح.
كما أن حكومة المحافظين البريطانية أعلنت مؤخرًا عن ترقية هائلة للخدمات العامة، وتخلت جذريًا عن العقيدة الليبرالية الأنجلو أمريكية في العقود الأخيرة.
إيطاليا طلبت من الاتحاد الأوروبي مهلة أكبر، بينما تستعد لتجاهل القواعد المالية الأخيرة من أجل حماية سكانها المسنين من الفيروس.
وحتى ألمانيا، وهي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي التي تفرض التقشف بمرونة، تبدو مستعدة للتخلص من عقيدة الحفاظ على التوازن في الميزانية، حيث يواجه أكثر من ثلثي سكانها خطر الإصابة بفيروس كورونا.
لقد كانت الدول في حاجة إلى هذه الكارثة حتى تتحمل مسؤوليتها الأصلية التي تتمثل في حماية المواطنين.
لقد آن الأوان لنتذكر أن ثمة مصيبة أخرى، وتعد الأكبر خلال القرنين الماضيين، هي التي أسهمت في تأسيس الدولة الحديثة القوية القادرة على حماية السكان.
وبعد الحرب العالمية الثانية، الحكومات التي حاولت إصلاح الظروف الاقتصادية والمعيشية ومحاربة البطالة الجماعية، اتجهت إلى تعزيز تدخلها في الاقتصاد وسارعت إلى بناء نظم التأمين الاجتماعي والخدمات العامة في الصحة والتعليم والإسكان.
لقد تم تعزيز القدرة التخطيطية للدولة أثناء ذلك النزاع واسع النطاق.
وبعد ذلك، أعيد توجيه هذه القوى المطورة حديثًا من صناعة الحرب إلى عالم الضمان الاجتماعي، وإلى بناء أنظمة الإغاثة والتعويضات واسعة النطاق، حيث عانت الأسواق الحرة من فقدان مصداقيتها على نطاق أوسع بعد الكساد الكبير، وتحولت دولة الحرب بين عشية وضحاها إلى دولة الرفاهية في الدول الأوروبية، ومن الطرفين المتحاربين.
لقد صاحب تلك الظروف تحولاً فكرياً وعقائدياً، وأفضل من عبر عن هذا التحول هو الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز John Maynard Keynes. والمتحيز السابق للأسواق الحرة في عام 1933: إن “الرأسمالية الدولية المنحطة، وهي في واقع الأمر انفرادية” موروثة من الماضي وهي “ليست ذكية، وليست جميلة، وليست عادلة، وليست فاضلة – فضلا عن أنها لا تقدم منتجات وبضائع، ونحن باختصار، نكرهها، وقد بدأنا في احتقارها”.
حتى في الولايات المتحدة، كان العداء لتدخل الدولة كما عبر عنه Keynes متأصلاً بشكل عميق، فالسياسات الاجتماعية التي تمت صياغتها خلال الحرب وضعت الأسس التي قامت عليها الصفقة الجديدة لحماية القوى العاملة.
وفي عصرنا الحاضر، ظللنا نتعثر من أزمة إلى أخرى ونحن نبحث عن دور أفضل تتقمصه الدولة لإنقاذ الموقف.
وبالعودة إلى تسعينات القرن الماضي، بدا أن الجدل حول الدور والحجم المناسب للدولة قد تمت تسويته، ولم يبتعد القادة الوسطيون مثل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير بشكل أساسي عن قناعة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان بأن الحكومة تمثل “مشكلة” وليست حلًا لأنها تمت خصخصتها وتحررت من النظام والقانون.
لقد كان من السهل أيضًا في ذلك الوقت الوثوق بحكمة الأسواق، حيث حددت مواقع أجزاء مختلفة من عملية الإنتاج بطريقة مبتكرة، والمكاسب الناتجة عنها، بين مواطني العديد من البلدان المختلفة، واتخاذ قرارات سريعة على أساس الحسابات المالية، فبدت السوق أكثر ذكاءً ، وأكثر رشاقة وأكثر حيلة من الدولة التداولية القديمة.
لقد قامت بعض الكوارث غير المتوقعة كما حدث من قبل، بتقويض هيمنة الدولة، حيث تزعم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش توسعاً هائلاً في البيروقراطية الحكومية رداً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
وعندما انهارت الأسواق العالمية، في عام 2008، قامت الولايات المتحدة، وكذلك الصين التي تخضع للحكم الشيوعي، بضخ السيولة النقدية في الاقتصادات الوطنية على نطاق غير مسبوق، حيث تمكنت الحكومة الأمريكية من السيطرة، وإن كان لفترة وجيزة، على الشركات مثل جنرال موتورز وكرايسلر.
ثم بعد الأزمة المالية، بدأت الشكوك المشابهة لتلك التي ذكرها Keynes حول الأممية الاقتصادية تطفو على السطح حتى بين مهندسي العولمة مثل لاري سامرز Larry Summers، الذين حثوا السياسيين على الاعتراف بأن “المسؤولية الأساسية للحكومة هي تعظيم رفاهية المواطنين، وليس السعي لتحقيق المفهوم المجرد للصالح العالمي”.
بيد أن فيروس كورونا قام اليوم برفع مستوى تلك المسؤولية إلى حتمية الحياة أو الموت، وكما حدث في حقبة ما بين الحربين العالميتين، من المحتمل أن يستمر الاختراق العميق للدولة للحياة الاقتصادية والاجتماعية بحجة مواجهة الكارثة.
وبالنسبة للميل الشعبي الذي يجب مراعاته، في أوقات الضعف الشديد، فإن الدولة لن تختفي وتتخلى عن دورها كمنقذ في الأوقات الأقل خطورة، كما أن السياسيون لن ينسوا بناء جاذبيتهم على الوعد بتحقيق الأمن الجماعي.
ولكن يجب ألا تكون هناك أوهام حول المخاطر في التحولات العميقة القادمة.
خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تولت الدولة سلطات واسعة وغير مسبوقة على مواطنيها، وتحولت في بعض البلدان إلى فاشية صريحة، ويخبرنا تاريخ الحرب والإبادة الجماعية في النصف الأول من القرن العشرين أن تراكم “السلطة على الحياة” bio power – وتكنولوجيا التحكم والتلاعب في مجموعات كبيرة من البشر – يمكن أن يسمح بارتكاب جرائم مروعة.
ومما لا شك فيه أن تقنيات المراقبة المتاحة للدولة المعاصرة، والتي أصبحت واضحة اليوم بشكل صارخ في الصين، لا يمكن إلا أن تزيد من تقييد حقوق الإنسان وحرياته.
لقد عاد الطاغوت، في ثورة مذهلة لم تكن في حسبان أي أحد منا، وبالرغم من أنه موضع ترحيب بلا شك في هذه الظروف، على المدى القصير، لكن يجب علينا أن نشعر بالقلق لما قد تجره علينا هذه الهيمنة على المدى الطويل.
الكاتب: بانكاج ميشرا Pankaj Mishra – وكالة بلومبرج Bloomberg