عندما نرى إغلاق سلاسل الإمداد العالمية، وتخفيض شركات الطيران لرحلاتها الجوية، وإغلاق الحدود بين الدول، وأسواق الأوراق المالية تتلاشى ويعصف بها الخوف، والركود يلوح في الأفق في العديد من الاقتصاديات من الصين وألمانيا، وأستراليا إلى الولايات المتحدة، لا يساورنا شك قط بأننا اليوم نعيش في أوقات غير عادية.
بيد أن ما بات اليوم على المحك، هو مدى قدرتنا على فهم هذه الأحداث التي تجري الآن من حولنا باستخدام مفردات مستمدة من عقود مضت، عندما بدت العولمة globalization وكأنها واحدة من الحقائق الطبيعة، مثل الهواء والرياح.
هذا الانتشار لفيروس كورونا الجديد، يشير إلى حدوث تحول جذري، من النوع الذي يحدث مرة واحدة في القرن، محطماً كل الافتراضات التي سبقته.
لقد شهد العالم قبل ما يقرب من قرن من الزمان حدث آخر، يشبه هذا الضجيج الذي نعيشه اليوم، وقد غير ذلك الحدث العالم بشكل كبير لدرجة أن العالم أطلق الثورات في الفنون والعلوم والفلسفة، ناهيك عن علم الاقتصاد، لفهم تداعياته.
السنوات الأولى للقرن العشرين، والتي اتسمت أيضاً بالسوق العالمية الحرة للسلع ورؤوس الأموال والعمل، حيث كان الوضع كما يتذكره جون ماينارد كينز John Maynard Keynes، عندما “كان بمقدور الشخص المقيم في لندن أن يطلب المنتجات من جميع أنحاء المعمورة عبر الهاتف، وهو يحتسي شاي الصباح في سريره”.
ويمكن لهذا المصنّع، وأيضاً المستهلك للرأسمالية العالمية، أن يستثمر “ثروته في الموارد الطبيعية والمشاريع الجديدة في أي جزء من العالم”. ويمكنه أيضًا أن “يؤمّن فورًا ، إذا رغب في ذلك، وسائل نقل مريحة ورخيصة إلى أي بلد أو مناخ بدون جواز سفر أو أي شكل آخر من المتطلبات”.
ويبدو أن مثل هذا العالم المتشابك اقتصادياً للكثيرين التأمين المثالي ضد الحرب، ولعل النسخة المعاصرة من هذا التفاؤل هي نظرية “الأقواس الذهبية Golden Arches” التي وضعها توماس فريدمان، والتي تقول بأنه لا حرب بين دولتين تستضيفان مطاعم ماكدونالدز في أراضيهما.
الحرب العالمية الأولى لم تقم فقط بوضع النهاية المأساوية لفترة العولمة الخالية من الاحتكاك. بل كشفت بوحشية عن المثقفين الذين كانوا يؤمنون بتقدم لا رجعة فيه، وقد اضطروا الآن إلى الاعتراف، كما كتب هنري جيمس Henry James وهو يشعر بالمرارة في أغسطس 1914: “إن المد الذي كان يحملنا طوال ذلك الوقت، كان يسير بنا إلى هذا نياجرا الكبرى”.
إن الانهيارات الكبرى التي حدثت في القرن العشرين، كان من الصعب فهمها، كما هو الحال في أزمتنا الحالية – فالحرب العالمية الأولى التي أعقبها الكساد الكبير – لأن مسبباتها الرئيسية كانت قد بدأت قبل عقود من الزمن، ولكن تم تجاهلها إلى حد كبير من قبل السياسيين والمحللين.
وقد أصبحت الديمقراطية، سواء كانت وسيلة مثالية عاطفية للمساواة أو كمؤسسات تمثيلية تقوم على حق الاقتراع المتزايد للذكور البالغين، اصبحت وبشكل متزايد المبدأ المركزي للعالم الحديث، خاصة وأن النمو الصناعي ولّد تفاوتات جديدة.
وقد ساعد التطلع إلى الديمقراطية، وبسبب الإحباط المتكرر، في تعزيز صعود الحركات السياسية اليسارية واليمينية المتطرفة، مما وضعهم في مواجهة مع النخب الحاكمة الراسخة.
لقد وجد القادة الثوريون أنصارهم الأكثر التزامًا بين السكان الذين كان يتم استغلالهم في المدن التي كانت تنمو بسرعة، وكانت المدن الكبرى في العالم مليئة بالناس الذين تم اقتلاعهم من الأرياف، وتشردوا بسبب سبل العيش التقليدية وأُجبروا على العيش في الأحياء العشوائية حول المراكز الحضرية، ثم بدأت هذه العشوائيات تتحول إلى بؤر للاستياء في أواخر القرن التاسع عشر.
المشكلات التي تتعلق بكيفية تلبية التطلعات المتزايدة للمساواة من خلال الاقتصادات التي تولد عدم المساواة، كانت حادة بشكل خاص للدول القومية مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان، التي كانت تحاول اللحاق بركب الدول الغربية المتقدمة اقتصاديًا.
وبمجرد أن وصلت سلسلة الصدمات الاقتصادية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر إلى ذروتها في الكساد الكبير، بدأ صعود اليمين المتطرف إلى السلطة، والصراعات المكثفة بين الدول باتت من الأمور المؤكدة تمامًا.
وفي هذا الظرف الذي نعيشه في عالمنا اليوم، جميع المكونات الكارثية التي حدثت في تلك الحقبة التي أشرنا إليها أعلاه متوفرة كلها اليوم لدينا، ولو تشاءمنا سنقول، أن هذه المكونات متوفرة على نطاق لم يسبق له مثيل.
لقد أدى انحسار التصنيع de-industrialization ، والاستعانة بمصادر خارجية للوظائف ثم الأتمتة، إلى حرمان العديد من العاملين من أمنهم الوظيفي وكرامتهم، مما تسبب في إضعاف المتضررين أمام الغوغائيين، وفي الوقت نفسه، التحديث الاقتصادي المتعثر الذي تشهده القوى التي تحاول “اللحاق بالركب” مثل الهند وروسيا، بطريقة الكتب الدراسية تقريبًا، أوجد القاعدة السياسية التي تنطلق منها الشخصيات والحركات اليمينية المتطرفة.
قد تكون الأزمة المالية لعام 2008، التي تسببت في أضرار أعمق وأطول من الكساد الكبير أفقدت النخبة المعولمة التي وعدت بالازدهار للجميع مصداقيتها، وخلقت مجالًا واسعًا للغوغائيين الانتهازيين .
ومع ذلك، لم يتعلم الناس الكثير من الدروس من انهيار الأسواق العالمية حيث انتقل المد بشكل أسرع إلى الهاوية، ولعل هذا هو السبب في أن أزمة عصرنا هذا هي فكرية كما أنها سياسية واقتصادية وبيئية.
ومن علامات الخواء التحليلي analytic deficiency، أن الوصفات التي طرحت للعديد من الاعتلالات السابقة ظلت كما هي في الكثير من السياسات والصحافة السائدة: والمزيد من “الإصلاحات” الاقتصادية، وهي إلى حد كبير في اتجاه الأسواق الحرة العالمية، وأعادت إطلاق شعارات الحرب الباردة حول تفوق “الديمقراطية الليبرالية” على “الاستبداد” والتطلعات للعودة إلى “التأدب” و”القيادة العالمية”.
هذه الآمال بالعودة إلى الوضع السياسي والأيديولوجي السابق لعام 2008 مع تزايد القلق بشأن تغير المناخ، وإن كان غير قابل للتأثير.
سيصبح عدم كفاءتهم أكثر وضوحًا في الأشهر المقبلة عندما تميل الدول المنكوبة إلى العزلة الذاتية كما تفعل اليوم بمواطنيها بالعزل الذاتي، والتضحية بالعديد من الأبقار المقدسة في محاولات محمومة من أجل البقاء، وقد يثبت فيروس كورونا التاجي المدمر بذاته، أنه ليس سوى أول الصدمات من بين صدمات كثيرة قادمة تنتظر العالم.
الكاتب: بانكاج ميشرا Pankaj Mishra ناقد أدبي ومؤلف وصحفي وكاتب هندي
المصدر: www.japantimes.co.jp