القيمة الخفية لتبني النهج الاستراتيجي للامتثال بالشكل الصحيح يسهم – خاصة في أوقات الأزمات وعند التعافي منها- في بناء الثقة ودفع الكفاءة إلى الأمام وتوليد قيمة للمستفيدين وأصحاب المصلحة وللمجتمع بشكل عام.
الامتثال هو الجزء الهام في الهيكل التنظيمي الذي يمكنه المساعدة في بناء الثقة ودفع الكفاءة إلى الأمام، ويعتبر عامل الثقة عنصراً حاسماً وأمراً بالغ الأهمية بالنسبة للمؤسسات، حيث إنه من الأهمية بمكان أن يشعر الموظفون والزبائن بأن من يتولون دفة القيادة قادرين على توجيههم في الظروف المضطربة التي يعمها حالة عدم اليقين، واتخاذ أفضل القرارات الممكنة، كما يحتاج القادة إلى الشعور بأن المعنيين بتنفيذ قراراتهم، يفعلون ذلك بجدية، وبامتثال للنظام بشكل صحيح.
بيد أن أهمية الامتثال في حد ذاته ليس بالأمر الجديد، ففي العالم الذي يقوم على الثقة، والخدمات والعلامات التجارية والمنتجات التي يُنظر إليها على أنها جديرة بالثقة، تعتبر فعالة للغاية في جذب الزبائن والاحتفاظ بهم، وفي حال الأزمات كما هو في مرحلة ما بعد الأزمات يظل عامل الثقة أمراً حاسماً، وتحتاج الكفاءات إلى الامتثال لدعم التعافي منها.
لقد أدرك العديد من القادة أيضًا أن الثغرات الرئيسية يمكن أن تكون مكلفًا للغاية، سواء بالنسبة لأرباح مؤسساتهم أو لسمعتها في السوق، كما أنهم يدركون تماماً المشهد التنظيمي المعقد الذي يواجهونه؛ فقد خلصت دراسة استطلاعية سنوية أجرتها شركة برايس ووترهاوس PwC -قبل تنفشي وباء كورونا- إلى أن : “36 % من الرؤساء التنفيذيين في مجموعة من مجالات مختلفة من الأعمال تبين أنهم قلقون للغاية بشأن ضوابط التنظيم المفرطة overregulation ، وصنفوا ذلك على أنه أكبر تهديدا لنمو مؤسساتهم”.
ومع ذلك، قد لا يزال يتعين على هؤلاء القادة أنفسهم الربط بين النقاط، حيث أن هناك ميلا كبير وعلى نطاق واسع لردة الفعل وبشكل دفاعي لتلبية الحد الأدنى من المتطلبات النظامية – لقبول وجهة النظر التقليدية للامتثال كتكلفة لممارسة الأعمال.
لكن الارتقاء بالامتثال إلى موقع ذي قيمة استراتيجية يمكن أن يغير قواعد اللعبة في عالم اليوم، ويمكن أن يزيد ليس فقط الحد الأعلى بجذب الزبائن من خلال الثقة، ولكن يمكنه أيضًا أن يزيد من الحد الأدنى، فبعض المؤسسات في الواقع، اكتسبت قدراً كبيراً من التنافسية، ومزايا خفض التكلفة من خلال تبني التقنيات والأساليب الجديدة في كل مجال تحتاج فيه إلى اتباع اللوائح والأنظمة .
في الفترات التي يسودها التعقيد وعدم اليقين Complexity and uncertainty، تصبح الثقة ذات قيمة أعلى للمستفيدين والهيئات التنظيمية والموظفين على حد سواء، فإن المؤسسات التي تبني الثقة في علامتها التجارية ومنتجاتها وخدماتها يمكنها أن تحقق مستوى مقدراً من الولاء ، وستتمكن من تعزيز سمعتها ومرونتها وستكون أكثر قدرة على الوفاء بالالتزامات تجاه المجتمع بشكل عام وعلى نطاق واسع.
لو ألقينا نظرة فاحصة على بيانات الدراسة الاستطلاعية الخاصة بالرؤساء التنفيذيين، سنجد أن الرؤساء التنفيذيين الذين شملهم الاستطلاع ، والذين كانوا قلقين للغاية بشأن الضوابط والتنظيم المفرط، منهم 58 % قالوا إن التنظيم الخاص بالصنعة كان في مقدمة أولوياتهم، ثم يليه قواعد الامتثال لخصوصية البيانات والأمن السيبراني، وسلامة العمل ومكان العمل، ثم تشريعات البيئة والتغير المناخي، والامتثال الضريبي.
وفيما يتعلق بالتغير المناخي، 30 % منهم وافقوا وبشدة على أن استجابة مؤسساتهم ستحسن من سمعتها في السوق، ولكن 17 % فقط وافقوا بشدة على أن منظمتهم قامت بتقييم المخاطر المحتملة، مثل تنظيم الكربون، واختلفت آراء الرؤساء التنفيذيين فيما يتعلق بالإنترنت؛ حيث إن 51 % منهم يعتقدون أنها يمكن أن تسهم في تعزيز التواصل بين الناس، لكن 71 % توقعوا زيادة في تنظيمات المحتوى .
من المؤكد هناك تزايد في المتطلبات التي تفرضها القوانين واللوائح على المنظمات، ومعظم المنظمات تنفق على الامتثال أكثر مما تنفقه على جهود مواجهة المخاطر البارزة كالهجوم “السيبراني” مثلاً، ووفقًا لدراسة مسحية أجرتها وكالة “تومسون رويترز” عام 2019 حول تكلفة الامتثال، فانه من المتوقع أن تزداد ميزانيات الامتثال للمنظمات، حيث أن 65 % من الذين استجابوا للدراسة المسحية توقعوا أن ترتفع أيضًا تكلفة كبار موظفي الامتثال.
وعلاوة على ذلك، تتوزع هذه التكاليف في جميع أنحاء المؤسسة، ولا سيما الأقسام التي تواجه الزبائن مثل المبيعات، ووظائف مكتب الدعم، وقسم تقنية المعلومات. وهي ليست مجرد نفقات يتم توزيعها على نطاق واسع، كما أن فرق العمل التي تدير التزامات الامتثال العديدة لا تجلس في مكان واحد داخل الهيكل التنظيمي، ونادراً ما يوجد “مالك” واحد له نظرة شاملة لأنشطة الامتثال للمؤسسة، ونتيجة لذلك، كان من الصعب تقليل تأثير الامتثال على تجربة العملاء (الزبائن-المستفيدين) وثقافتهم وتكلفتهم.
وعندما تُجمع هذه العوامل كلها معاً، فغالبًا ما يشير ذلك أن المؤسسات تعاني من فشل في الامتثال من وقت لآخر، وقد يأتي هذا الفشل في شكل حوادث كبيرة، حيث يؤثر فشل الامتثال بشكل كبير على سمعة المؤسسة، أو في شكل عمليات الامتثال المرهقة للغاية وغالبًا ما تكون يدوية تقيد تجربة المستفيد، وتزيد من تكاليف الامتثال، وتضر بالثقافة الداخلية للمنظمة، من خلال العمل كعائق أمام الابتكار على سبيل المثال.
الامتثال الجديد The new compliance
مع استيعاب الرؤساء التنفيذيين (المديرين) لهذا المشهد التنظيمي المعقد، والتفكير في كيفية إعداد وتهيئة منظماتهم للتعاطي معه، فقد حان الوقت لإعادة النظر في الموقف السائد تجاه الامتثال، وعلى أولئك المثقلون بالأساليب المنتشرة والمكلفة وغير الفعالة للامتثال أن يعتمدوا خمس سمات تصميم رئيسية تنفذها بعض المنظمات الرائدة تؤدي إلى خفض تكلفة الامتثال وتزيد أيضًا من فعاليته وستعمل على تعزيز مرونة المنظمة، وتقلل من احتمالية حدوث الأزمات، وتساعد في بناء الثقة بين الزبائن والمتعاملين والمستفيدين (تسهم في نهاية المطاف في النمو)، وتسمح للموظفين بتحمل المخاطر الذكية والابتكار ضمن معايير المخاطر المناسبة.
فما هي هذه السمات التصميمية الخمسة للامتثال الجديد؟
1- الامتثال يتوافق مع الاستراتيجية والقيم والأهداف .
البدء بفهم “الأسباب”. فإذا فهم الموظفون والزبائن وأصحاب المصلحة عبر سلسلة القيمة بأكملها الغرض من نشاط الامتثال، ولماذا هو مهم بالنسبة لهم، فيكونون أكثر إقبالاً على الانخراط بفعالية في العمليات، وأقل احتمالا في خرق القواعد والأنظمة.
“الكيفية” مهمة أيضا لتقديم قيمة أكبر، حيث يجب تنفيذ الامتثال بطريقة لا تلبي المتطلبات التنظيمية أو التشريعية فحسب، بل تتماشى أيضًا مع الأهداف والقيم العامة للمؤسسة، ويتطلع الموظفون والزبائن وأصحاب المصلحة لمعرفة ما تقدره المنظمة وكيف تتصرف، سواء في أوقات النجاح أو عندما تكون في ظروف قاهرة أو غير ملاءمة.
2- تُصمم عمليات الامتثال مع مراعاة الزبائن.
تعتبر الثقة عنصراً أساسياً بالنسبة للمنظمات التي ترغب في المنافسة بشكل فعال، فالثقة تتعزز من خلال الامتثال الموثوق (وتتضرر بكثرة الخروقات) وعلاوة على ذلك، فغالبًا ما ينخرط الزبائن في عمليات الامتثال للمؤسسة أثناء القيام بأعمال تجارية معها، ومن أجل الحصول على أفضل نتيجة عند اتخاذ الخيارات المتعلقة بكيفية الامتثال للقوانين واللوائح، يحتاج القادة إلى فهم واضح لكيفية تأثير هذه القرارات على زبائنهم وتجربتهم الشاملة في التعامل مع المؤسسة، وبهذه الطريقة، يمكنهم توفير مستويات عالية من الثقة فضلاً عن تجربة مختلفة للزبائن، وقد أصبح هذا أمراً مُهِمًّا بشكل متزايد في مجال اقتصاد المنصة platform economy. حيث إن استخدام نظام تقييم التجزئة الرقمي القائم على السحابة، يساعد في تحديد أداء التسويق في عمليات البيع بالتجزئة والتحكم في المخاطر المحتملة التي تنشأ في التنفيذ، والتحقق من سلوكيات تجار التجزئة وبياناتهم وتحليلها لضمان التزامهم ليس فقط بالقوانين واللوائح، ولكن أيضًا بالسوق واستراتيجية المبيعات.
وتدعم منصة إدارة التسويق والاتصالات مشاركة البيانات عبر مستويات الإدارة المختلفة، وقد زادت الأدوات الذكية والتلقائية من الكفاءة/ وبهذه الأدوات يمكن تعزيز العلامة التجارية، وتمكين شبكة تجار التجزئة، وتلبية احتياجات المحلية للعملاء.
3- تمكين عمليات الامتثال من خلال التقنية والبيانات.
الامتثال المدعوم بالتقنية يزيد من الحد الأدنى بطريقتين: من خلال تقليل إخفاقات الامتثال باهظة التكلفة، ومن خلال تقليل تكلفة عمليات الامتثال، كما يتيح استخدام التقنية لدفع عمليات الامتثال باستخدام مجموعات بيانات غنية (داخلية وخارجية) يمكنها رفع مستويات الموثوقية والكفاءة في الامتثال، وسواء في الجيل التالي من أنظمة الحوكمة أو المخاطر والامتثال أو التعرف على اللغة التقليدية أو التحليلات المتقدمة، تقوم المؤسسات بنشر مجموعة واسعة من التقنيات لتعزيز وأتمتة عمليات الامتثال الخاصة بها، مما يجعلها أكثر فعالية من حيث التكلفة.
4- بناء عمليات الامتثال باستخدام مبادئ تصميم تركز على السلوك البشري.
يمكن لتصميم الامتثال، كغيره من الجوانب الأخرى للأعمال، أن يتأثر بشكل إيجابي من خلال الاستفادة من الفهم القوي للسلوكيات البشرية عند تصميم العمليات، ويمكن تطبيق هذا الفهم على العملية نفسها عندما تجري عمليات مراجعة الامتثال، لتقليل أو إزالة خطر عدم الامتثال غير المقصود، حيث يقوم المدقق بتقييم سلوك أعضاء الفريق ولكن أيضًا لمواءمة الرغبات الفردية للأفراد مع رغبات المنظمة، ويمكن للتقنيات المستمدة من الاقتصاد السلوكي أن تساعد القادة أيضًا على تحسين فعالية عمليات الامتثال.
الهدف من المراجعة هو البحث عن الاتجاهات في البيانات، ولتحديد المجالات التي يجب أن تجتهد فيها الفرق أكثر من غيرها، وتسمح دقة البيانات التي يتم جمعها لفريق المراجعة باستخلاص الدروس والعبر والتعرف على علاقات الارتباط بين المشكلات الشائعة، ويمكن للفريق بعد ذلك تقديم هذه الرؤى أو الدروس والعبر إلى فريق ضمان الجودة الخاص بطريقة يمكن توصيلها إلى المعنيين بعمليات التشغيل من أجل إحداث التغيير اللازم في السلوكيات والنتائج.
5- أنشطة الامتثال بطبيعتها تنبئية ووقائية واستباقية
إن بناء الثقة يستغرق عدة سنوات، ولكن يمكن فقدانها خلال لحظات، وعليه، ومن الأهمية بمكان منع فشل الامتثال، وتتمثل أحد الطرق الأكثر شيوعًا لفشل الامتثال في عدم الاستعداد للتطورات التنظيمية الناشئة، ففي الشركات متعددة الجنسيات وذات التركيبة المعقدة، قد يكون تحقيق التأهب على مستوى النظام أمرًا صعبًا بشكل خاص، ولكن بعضا من المنظمات بدأت بالفعل في استخدام أدوات لمسح الأفق التنظيمي، والاستفادة من قواعد بيانات الجهات الخارجية التي تتبع اللوائح والتغييرات المقترحة عليها، لتقديم إشعار مسبق بالمتطلبات الجديدة للامتثال.
وبشكل عام، فإن توفر البيانات واستخدام التقنية في جميع جوانب المنظمة يجعل منع خروقات الامتثال أو اكتشافها وتصحيحها في الوقت الفعلي أكثر واقعية، كما أن المؤسسات التي لديها إمكانية الوصول إلى مجموعات بيانات غنية يمكنها الاستفادة من القدرات التنبئية التي توفرها البيانات لفهم النقاط أو الأجزاء التي قد تتزايد فيها الضغوط والمخاطر على الامتثال، وتعمل أدوات تحريك العمليات والتحليلات المتقدمة أيضًا على خلق فرص لمراقبة أنماط السلوك والتحديات الناشئة المحتملة في العمليات واكتشاف النقطة التي تقترب فيها المنظمة من حدود الامتثال.
المؤسسات والمنظمات الكبيرة التي تعمل في مناطق ومجالات عمل متعددة، على وجه الخصوص، تواجه تحديًا مُسْتَمِرًّا في تلبية المتطلبات التنظيمية المعقدة- والتي يمكن أن تؤدي إلى نهج أكثر تفاعلية، وتقضي الفرق القانونية لهذه الشركات قدرا كبيرا من الوقت في فك رموز هذه المتطلبات ومساعدة فرق العمل على فهمها والامتثال لها. وتمثل أنظمة الامتثال المتغيرة باستمرار في الاقتصادات الناشئة تحديًا إِضَافِيًّا، وقد نفذت إحدى المنظمات في الهند والتي تواجه مثل هذه القضايا حلاً يعتمد على التقنية لتعزيز قدراتها على مراقبة الامتثال، وتستطيع الآن سرد التزامات الامتثال بوضوح، وتتبع التحديثات، وتحديد أدوار ومسؤوليات أصحاب المصلحة المعنيين في ضمان الامتثال، وتحديد التحديات في الوقت المناسب.
الخلاصة .. الامتثال ليس شيئًا مجردًا أو مرهقًا أو خانقًا، بل على العكس تمامًا: فمن خلال تبني الامتثال بطريقة سليمة؛ أكثر تركيزًا على المخاطر، وأكثر اعتماداً على التقنية والبيانات، ودعمها بتصميم يركز على الكوادر البشرية، فيمكن للمؤسسات أن تنمو وتصبح أكثر ابتكارًا، وأن تكون واثقة في قدرتها على توفير الحماية التي يحتاجها موظفوها وزبائنها وأصحاب المصلحة والمجتمع بشكل عام، وربما يكون هذا الامتثال أكثر أهمية من أي وقت مضى في بناء الثقة في عالم اليوم، وهي العملة القوية في عالم الأعمال.
( www.strategy-business.com)