عبد القادر مصطفى عبد القادر
أعتقد أن الطريق السديد نحو تفجير طاقات الروح الكامنة في زوايا النفس، قد تاه من العرب والمسلمين في العقود الأخيرة، ذلك لأن الطرق التربوية والتعليمية والتثقيفية والتوعوية المُتبعة لديهم تهملُ تنمية عمل الروح، بل تُذهبها في سباتٍ عميق، رغم امتلاكهم – دون سواهم – لوسائل ربّانية ذات تأثير إيجابي هائل على جهاز الروح، وهو أمر حرمهم من إنتاج خارق للعادة على مستوى المعتقدات والأفكار والأخلاق والمعاملات والفاعليات، ومن ثم حدَّ كثيراً من سموهم ورقيهم وتحضرهم وتقدمهم في ميادين الحياة كافة.
في ليلةٍ ذاتِ برد شديد، أخذ صلاح الدين الأيوبي يتفقد خِيامَ جُنده، فوجد بعضهم يتسامر في غير معصية، وقيل هربوا من سوط البرد إلى النوم والاستدفاء، وربما هربوا من التعب ليستردوا قوة تعينهم على مواجهة قريبة من الأعداء، وهي أمور عادية لا شيء فيها، إلا أنه أشار إلى تلك الخيام وقال: «من هنا تأتي الهزيمة»، ثم وجد آخرين قد شقوا ظلام الليل وكافحوا شهوة النوم وهزموا أعراض التعب، حين أوقدوا السُّرجَ وأمسكوا بكتاب الله العزيز يرتلون آياته في خشوع وتدبر وخضوع، فأشار إلى سُكّان تلك الخيام وقال قولته الشهيرة: «من هنا يأتي النصر»، وكان الجيش إذ ذاك على شفا مواجهة ضارية مع الصليبيين الغاصبين.
فأيُّ دُرر قد انتثرتْ من ثغرك أيها القائدُ المُظفر فانتظمت على رأس الزمان تاجاً، يُرسل إلى الخلق إشارات الهُدى ماداموا إلى العلا ناظرين؟!.. هي كلماتٌ غير عادية خاصة وقد صدرت من رجل غير عادي، فلقد عَرف أن النصر على الأعداء هدية الله لمن نصروه في أنفسهم أولاً، فأقاموها على منهجه، ووطَّنوها على طاعته، وطوََّعوها لخدمته، لأنها معادلة لا تتحول ولا تتبدل، مُدخلاتها طاعة مُخلصة لله ورسوله، ومخرجاتها نصر من الله – أكيد – تسعد به قلوب قوم مؤمنين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) سورة محمد.
لا غرو أنّ العرب والمسلمين الآن في أمسِّ الحاجة إلى تفعيل هذا النظرة الإيمانية في شئون حياتهم جميعها، فهم لا يحتاجون مالاً ولا يحتاجون عيالاً ولا يحتاجون عتاداً، بقدر ما يحتاجون إلى أرواح تتعلق بمن خلقها وسوّاها، بحسن الاتصال به وجميل التقرب إليه، وهو أمر وجب النظر فيه بعين المسئولية عن هذه الأمة التي ما عرفت العزة والرّيادة إلا يوم أن وجهت وجهها للذي فطر السموات والأرض، فسخّر لها بقدرته كل أسباب النجاح، والتاريخ يشهد ويخطب من فوق منبر الأحداث في كل لحظة.. ولكن من يستمع؟!.
أحسبُ أننا قد جربنا مفاتيح كثيرة، بعضها غربي وبعضها شرقي، فلم تفلح كلها في فك طلاسم الشخصية العربية، بل وفشلت في معرفة ما وراء أبواب عقولها وقلوبها من كنوز في مختلف شئون الحياة، ذلك لأن أجناس البشر كالأقفال، ولكل قفل مفتاحه الذي لا ينبسط إلا به، ولقد أثبتت التجارب الإنسانية الموثقة في كتب التاريخ أن مفتاح الشخصية العربية هو الدين القويم، فمتى فهم العربي دينه حق الفهم تألقت مواهبه وتفجرت طاقاته وانبجست ملكاته، فتفوق في مضمار الحياة والتعمير على من سواه، ولذا عكف العالمون بهذه الحقيقة من خصوم في الشرق وفي الغرب على حياكة الخطة تلو الخطة حتى لا يتمكن العربي من دينه، تارة بتصدير الانحلال المُغلف بأغلفة الحرية، وتارة بتصدير الفهم السطحي أو المتطرف للدين، فتفسخ عن ذلك فريقان، فريق يدّعي محبة الدنيا ولكن بتسيّب، وفريق يدّعي محبة الدين ولكن بسطحية أو تطرف، وكلاهما قد انشغل في تعرية الآخر وتسفيهه.. فنجحت الخطة بامتياز!.
في الحقيقة، لا يحتاج الواقع العربي والإسلامي إلى الفريق الأول ولا إلى الفريق الثاني، ولكن يحتاج بشدة إلى جيل يؤمن بأن الدنيا هي طريق الآخرة ولا وصول للآخرة إلا من خلاله.. إلى جيل يؤمن بأن العمل والبحث وطلب العلم وتطوير الحياة عبادة لا تقل درجة عن الصلاة والصيام.. إلى جيل يؤمن بأن الدنيا حق للمسلم وجب عليه طلبه بما يرضي الله واستعماله في غير معصية الله.. إجمالاً إلى جيل يؤمن بأن صناعة الحياة طاعة لله!.
هذا الجيل الأمل.. لابد من إعداده كماً وكيفاً، أي روحاً ومادة، أي تربيته وتخريجه ودفعه إلى المجتمع بفهم المسلم الحق الذي يعتقد بأن محرابه الذي يتعبد فيه إلى الله هو الحياة بكامل هيئتها وتفاصيلها، وهذا يستوجب إعادة النظر في طرق التربية الدينية، وطرق التعليم والتدريب، وطرق التثقيف..الخ، بما يخلق جيلاً عصرياً متطوراً يؤمن بحتمية قوانين الحياة كما يؤمن يقيناً بوجود الله.
المصدر : صحيفة الإقتصادية
http://www.aleqt.com/2013/01/23/article_726964.html