المقصود بتنازع الاختصاصات هو “تداخل وتشابك المهام والمسئوليات بين مؤسسات الدولة”
والحديث على الاختصاصات يعني الحديث عن جوهر الإدارة وآليات اتخاذ القرار، وأن تحديدها وتعريفها التعريف الواضح والدقيق يقود إلى:
(1) تحديد من هو متخذ القرار،
(2) عدم استطاعة مُتخد القرار التهرب من مسؤولياته،
(3) إمكانية مساءلة ومحاسبة المخالفين ومحاربة الفساد،
(4) ضمان نجاح العمل المؤسسي وتسهيل مهام المؤسسات المستقبلية.
أنواع الاختصاصات
يمكن القول إن الاختصاصات هي المحرك الرئيس لأي قرار في مؤسسات الدولة، وهذا يتطلب من كل مؤسسة تعريف وتحديد نوع المهام المطلوب إنجازها واتخاذ القرارات تبعاً لكل مستوى وظيفي من مستوياتها. ومن هذا الفهم يمكن تقسيم الاختصاصات إلى خمس أنواع رئيسية هي:
أولا: الاختصاصات الحصرية
وهي الاختصاصات التي يُحددها قانون دولة ما [نظام حكم أو دستور] وهذا يعني حصر وتحديد وتعريف وتوزيع المهام التي يجب أن يقوم بها كل مستوى من مستويات النظام السياسي.
ثانيا: الاختصاصات المُقيدة (أو المشروطة)
يقصد بهذه الاختصاصات أنَّ المسؤول يكون ملزما بما يضعه له القانون [النظام] من شروط وضوابط لاتخاذ قرار معين او القيام بعمل ما، وفي هذا الوضع لا يمتلك المسؤول إلاَّ صلاحية التثبت من توفر هذه الشروط والضوابط وتنفيدها. بمعنى آخر، أن النظام يفرض على المسؤول آليات وأساليب محددة لاتخاذ قراراته، ولا يترك له حرية التقدير، ويشترط عليه استيفاء الشروط التي نص عليها النظام، وأحيانا لا يكون للمسؤول الحرية في الامتناع عن اتخاذ القرار أو اتخاذ قرار آخر.
ثالثا: الاختصاصات المشتركة
وهي الاختصاصات المتاحة لكل الجهات او المستويات الحكومية المختلفة في الدولة. وهذا النوع من الاختصاصات يوجد بكثرة في الانظمة اللامركزية للحكم وخصوصا الانظمة الاتحادية. فعلي سبيل المثال، تجد الحكومة المركزية لها حق فرض الضرائب، وفي نفس الوقت، يعطي الدستور نفس الحق للحكومات الاقليمية والمحلية، ومن جهة أخرى، ينص دستور العديد من الدول على أن تكون السلطات المتعلقة باعتماد الميزانية مشتركة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
رابعا: الاختصاصات التقديرية
بمعنى إلى جانب الاختصاصات الحصرية والمقيدة والمشتركة للسلطات هناك اختصاصات تقديرية أيضا، إذ لا تخلو أغلب القرارات في إصدارها من عنصر التقدير. وفي هذه المهام يُعطي للمسؤولين حرية اتخاذ إجراءات قانونية في الأحوال التي لا يفرض عليهم النظام قيود مُسبقة، بشرط أن يكون للسلطات الرقابية والقضائية حق المراقبة والمساءلة القانونية لهذه القرارات والتصرفات الصادرة عن المسؤولين. وبمعني آخر، ان المهام التقديرية هي سلطات تُترك للمسؤولين خلال تنفيد اعمالهم، وتسمح لهم باتخاذ أية إجراءات أخرى يرونها مناسبة بشرط إلا تتعارض مع النص الصريح للنظام، وهي مهام يتمتع بها المسؤولين في حال غياب نص قانوني واضح وصريح يعالج قضية ما، سواءً في الظروف الاعتيادية أو الاستثنائية.
وهنا يجب التذكير بإن الإدارة، من حيث المبدأ، لا معنى لها دون وجود مهام تقديرية، إلا أن الخطورة في غياب النص القانوني [النظامي] للحالات المستجدة والطارئة قد يُتيح فرص للمصالح الشخصية على حساب المصلح العامة، وعليه فلابد أن تكون المهام التقديرية خاضعة دائما للشفافية والرقابة والمحاسبة.
الخامسة: الاختصاصات الممنوعة (أو المحظورة)
وهي الاختصاصات التي يُمنع المسؤولين من ممارستها. وعليه فلابد أن تحصر وتعرف بكل دقة في القوانين الأنظمة الأساسية للدولة. فعلى سبيل المثال، تمنع دساتير الدول الحديثة، السلطات المحلية والإقليمية من تأسيس جهاز للشرطة، أو تكوين حلف أو معاهدة لأن ذلك من الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية.
مبادئ أساسية لتحديد الاختصاصات
لكي يتم حصر وتعريف وتحديد الاختصاصات المطلوبة لمؤسسات الدولة وتوزيعها التوزيع المناسب وبالأسلوب العلمي، لابد أن تنطلق هذه الاختصاصات من مجموعة مبادئ إدارية أساسية لعل من أهمها:
- مبدأ تقسيم العمل
بمعنى لابد من تجميع الوظائف والمهام المتشابه والمرتبطة مع بعضها البعض على أسس المعرفة والتخصص والكفاءة والمقدرة.
- مبدأ وحدة القيادة
بمعنى لابد أن يكون لكل مسؤول رئيس واحد يتلقى منه الأوامر والتوجيهات، ويرفع له التقارير والاقتراحات، ويكون هو المشرف الوحيد على أعماله. ولكي يتحقق هذا مبدأ، لا يجوز السماح بتجاوز صلاحيات المسؤول الأعلى من قبل الأدنى، لان ذلك يُسبب خلل خطير في النظام المؤسسي، ويُولّد الفوضى والارباك، ويقود الي التصادم والمشاحنات بين المسؤولين.
- مبدأ السلطة والمسؤولية
بمعني لابد أن يدرك كل المسؤولين الارتباط الضروري والوثيق بين السلطة والمسؤولية، وهذا يعني أن ممارسة المهام يقترن دائماً بتحمّل المسؤولية، وإن عدم اقتران ممارسة المهام بتحمّل المسؤولية يقود إلى صعوبة تحديد من هو المُقصّر والمُخطئ بشكل واضح عند ظهور فشل أو خلل ما في مراحل العمل التي تظهر فيها إشكالية تنازع الاختصاصات.
- مبدأ الفصل بين المهام
هذا يعني، الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن جهة أخرى الفصل بين السلطات المركزية والسلطات المحلية. ويعني في شركات الأعمال الكبرى، الفصل بين الرئيس التنفيذي والرئيس الإداري للعمليات، بحيث يصبح لكل سلطة من هذه السلطات المسؤولية الكاملة عن جزء من عملها ويتم منحها كل الاختصاصات اللازمة للقيام بالعمل الذي طُلب منها.
- مبدأ الرقابة والتوازن
لكي يتم تطبيق مبدأ الفصل بين المهام علي اكمل وجه، لابد ان يرافقه مبدأ “الرقابة والتوازن” بمعني ان يتم توزيع الاختصاصات، في النظام بين السلطات الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) على نحو لا يسمح لأي منها بالانفراد بصنع القرارات، ومن جهة آخري، الا تكون العلاقة بينهم على اساس الفصل الكامل بينها، وإنما هي علاقة مؤسساتية متمايزة وتتقاسم فيما بينها مهام مشتركة علي اسس التخصص والتكامل والمسئولية.
- مبدأ الوظائف لا الاشخاص
بمعنى أن يقوم التنظيم الإداري في مؤسسات الدولة على أساس الوظائف وليس الأشخاص الذين يؤدون هذه الوظائف. فالمسؤول يقوم بممارسة أعماله التي مُنحت له بسبب وظيفته، وذلك لأن توزيع الاختصاصات حتما سيفشل إذا رُبط بالأشخاص وليس بالخطط والبرامج والمشاريع.
وعلى المسؤولين أن يعوا بإن أحد الأسباب الرئيسية لتنازع الاختصاصات حول العديد من القضايا الإدارية والتنموية هو ارتباط هذه الاختصاصات بمصالح الأفراد الذين يقودون ويتصرفون وكأنهم هم المؤسسة.
- مبدأ الشفافية
بمعنى الالتزام بالوضوح والمصداقية عند تواصل المسؤولين مع الآخرين حول الأمور والقضايا المتعلقة بأعمالهم، واستعدادهم للمساءلة والمحاسبة.
وأن ممارسة هذا المبدأ يقود إلى زيادة ثقة المواطنين في مسؤوليهم، وإظهارهم بأن ليس لديهم ما يخفوه، وأنهم قادرون على القيام بمهامهم. وعليه لكي يكون المسؤول شفافا لابد أن يتحدث بصدق ووضوح وأن يشرح ما يشعر به وما يفكر فيه بأساليب بسيطة واضحة.
الخلاصة
يمكن القول، إنه من الضروري حصر وتعريف وتحديد اختصاصات كل مؤسسة عامة لكي يتم تفادي التنازع والتضارب والازدواجية في المهام. وذلك لأن تنازع الاختصاصات يقود دائما إلى صراعات وآثار سلبية، وسهولة التهرب من المسؤولية، ويشير إلى وجود خلل جوهري في التنظيم الإداري وتوزيع الأدوار، وسيقود حتما إلى فشل العمل المؤسسي الذي يعتبر أحد اهم ركائز الدولة.
وعليه، فإن الحل الأساسي والضروري لهذه الإشكالية هو الاهتمام بصياغة النصوص النظامية والقانونية؛ صياغة تُعرف وتوزع وتُحدد الاختصاصات بشكل بسيط وواضح لا يحتمل التأويل ولا التفسير، وقبل كل هذا، لابد أن تنطلق هذه الاختصاصات من المبادئ الأساسية للإدارة العلمية وخصوصا السبع التي ذكرت أعلاه.
والله الموفق.
[ا.د. محمد بالروين]