أورد الامام النووي -رحمه الله- في كتاب رياض الصالحين في باب ذكر الموت وقصر الأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «خط النبي ﷺ خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خُططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط-، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا»، رواه البخاري.
كان النبي ﷺ أحسن الناس تعليما، وكان يعلم أصحابه من المواقف التي تمر عليهم، ويضرب لهم فيها الأمثال بما تدركه الأبصار من وسائل الايضاح؛ ليوضح لهم طريق الهداية، وليرشدهم إلى ما يصلحهم في الدنيا والآخرة.
وكما جاء في الحديث فقد رسم النبي ﷺ على الأرض شكلا له أربعة أضلاع مستوية الزوايا، ثم رسم خطا في الوسط خارجا من المربع، ثم خط ورسم خطوطا صغارا داخل الشكل المربع تتجه إلى الخط الذي في الوسط، وقال ﷺ: «هذا الإنسان»، أي: هذا الخط الذي في الوسط هو الإنسان، على سبيل التمثيل، «وهذا أجله محيط به -أو: قد أحاط به-»، إشارة إلى المربع، ثم أشار إلى الخط الطويل المنفرد الذي هو خارج من وسط المربع، وأخبر أنه أمله؛ إشارة إلى أن أمل الإنسان مما يرجوه من نعيم الدنيا أطول وأكبر من عمره، وهذه الخطوط الصغار التي في الخط الخارج من وسط المربع من أسفله، أو من أسفله وأعلاه، هي «الأعراض»، أي: الآفات العارضة له؛ كمرض أو فقد مال ونحوهما من الابتلاءات، والمراد بالخطوط المثال، لا عدد مخصوص معين، «فإن أخطأه» وتجاوز عنه هذا العرض وسلم منه «نهشه» وأصابه وأخذه «هذا» العرض الآخر، والنهش: لدغ ذوات السم، عبر به مبالغة في الأخذ، وإن أخطأه هذا العرض نهشه هذا العرض الآخر، وهو الموت، فمن لم يمت بالسبب مات بالأجل، والحاصل أن الإنسان يتعاطى الأمل، ولكن الأجل ينزعه ويخطفه قبل أن يحقق أمله.
ويستفاد من الحديث: التنبيه على أن الأجل مقسوم معلوم لا يتجاوزه متجاوز.
وفيه: أن الدنيا مدارها على طول الأمل، وهو الذي يثمر التسويف بأعمال الخير، والصبر على أعمال الشر؛ فعلى العاقل أن يحتاط لنفسه.
وفيه: أن الأجل لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه من الغيب ؛ ولذلك تجاوزته الآمال، وبعدته الأطماع.
فالمقصود أن الآمال -أيها الأحبة- طويلة، والآجال دونها، كل إنسان آماله أبعد من أجله، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعمل وألا يتعلق بهذه الآمال كأنه سيحققها، وإنما إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك.
فيبادر الإنسان إلى الأعمال الصالحة، فيكون على حالة مرضية، فإذا لقي الله يكون له رصيد، له أعمال، له حسنات، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.