لا شك في أن المنصب يعطي صاحبه هيبة وسلطة وقوة، ولكن لا يعني أنه من أجل المنصب الذي لا يدوم ينسلخ المرء من مبادئه وأخلاقه، فإذا وثق المرء بالكرسي الدوار، فعليه ألا يثق بالأرض التي تحمل هذا الكرسي، فالمتغيرات كثيرة، ويمكن أن تخلع صاحب المنصب من كرسيه كما يخلع المسمار من الخشب، والأمثلة من حولنا كثيرة، نراها لأصحاب المناصب؛ فهناك من عزل عن منصبه بسبب أو من دون سبب، وهناك من تقاعد عن العمل بحكم عمره، وهناك من فارق الحياة وترك منصبه، وتمر بنا الأيام ونشاهد جميع هذه الأمثلة رأي العين لأشخاص عملنا معهم أو تعاملنا معهم أو عشنا معهم، لذلك هناك أشخاص معدنهم مثل الذهب لا يتغيرون ولا تتبدل أخلاقهم بل تزداد طيبة ومروءة وحسن معاملة.
لكن المتلون في المناصب يتلون حسبما يهوى غيره معه وأحياناً ضده، أما الأصيل الثابت من الداخل والخارج بأخلاقه وبتعامله فهو بالتأكيد سيكون طريقه ثابتاً وواضحاً في المنصب؛ فهو عنده تكليف وليس تشريفاً، كما أنه أمانة، وهو وظيفة كسائر الوظائف، فعلى كل مسؤول أن يعي بأنه يتقاضى أجره من عمله ووظيفته فلا يتكبر ولا يتلون ولا ينافق ، ولا ضير من أن يسعى الإنسان ويكافح من أجل الارتقاء في المنصب لكن الحذر الحذر بأن يكون الوصول إلى هذه الغاية بالكيد للآخرين أو على حساب غيره (زملاءه ومجتمعة)، والكذب والتلوي والتملق والتمثيل بأعرف العارفين، فمن يتخذ ذلك طريقاً فلربما سيصل إلى مبتغاه، ولكن لن يدوم طويلاً؛ فالسيرة الحسنة كما الروائح الجميلة يشمها المجتمع، فكذلك السيرة السيئة كالروائح القبيحة لها رائحة كريهة لن يتحملها المجتمع طويلاً، وسيعمل على طردها، ولن يبقى إلا الصحيح وان طال المكوث على الكرسي.
دخل رجل على زميل له وقد أصبح مسؤولا ذا منصب فلم يلتفت له ولم يقض حاجته، فقال :
إنَّ المناصِبَ لا تدومُ لواحِدٍ.. إنْ كُنْتَ تُنْكِرُ ذا فأينَ الأوَّلُ؟
فاغْرِس من الفعلِ الجميلِ.. فضائِلاً فإذا عُزِلتَ فإِنَّها لا تُعْزلُ.
المسؤول المزيف تتبدل أخلاقه مع المنصب، أما الذي لديه قناعاته الخاصة بأن الأخلاق والمعاملة الطيبة وإنكار الذات والأثر الجميل الذي يتركه صاحبه هو الحكم، وهو المحرك القوي والدافع ليكون من حوله الأفضل والأحسن. وأصحاب المعادن الأصيلة يجذبونهم القيادات العليا لتنصيبهم في مناصب عالية ومرموقة.
عندما يقال «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك» فتلك حقيقة، وكل شيء في هذه الحياة لا يدوم، لا العمر ولا الجمال ولا الصحة ولا المنصب، فلا يغتر الإنسان بنفسه كثيراً ولا يتفاخر أمام من لا يملك إلا القليل، فما دامت حياة المرء قصيرة يبقى الأثر الطيب والعمل الصالح والأخلاق الحميدة والجمائل ترفع من مقامه وشأنه في الحياة وبعد الممات.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.