يقول ربُّنا – تبارك وتعالى -: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ سورة المطففين: 1 – 6].
قال العلامة السَّعديُّ -رحمه الله- في تفسير هذه السورة: “دلَّت الآية الكريمة على أنَّ الإنسان كما يأخُذ من النَّاس الذي له، يجب عليْه أن يُعطيهم كلَّ ما لَهم من الأموال والمعاملات، بل يدخُل في عموم هذا: الحُجَج والمقالات، فإنَّه كما أنَّ المتناظرين قد جرت العادة أنَّ كلَّ واحد منهما يحرص على ما لَه من الحجج، فيجب عليه أيضًا أن يبيِّن ما لخصمه من الحُجَج التي لا يعلمها، وأن ينظُر في أدلَّة خصمه كما ينظر في أدلَّته هو، وفي هذا الموضع يعْرف إنصاف الإنسان من تعصُّبِه واعتسافه، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه، نسأل الله التَّوفيق لكلِّ خير”.اهـ.
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: “يُقال: لكل شيء وفاءٌ وتطفيفٌ”.
فالتَّطفيف ليس خاصًّا بالكيْل والوزْن والذَّرع، بل هو عامٌّ يدخُل فيه كلُّ بخس، سواء كان بخسًا حسيًّا أو معنويًّا، وإعطاء المرء أقلَّ من حقِّه تطفيف.
وإليكم فيما يلي بعض صور التطفيف -من غير الكيل والميزان- مع شرح مختصر لكل منها : (تطْفيف المعلِّم والمعلِّمة، تطْفيف الموظَّف والموظفة في عملِه، تطْفيف الرئيس في حقوق المرؤوسين، التطْفيف في بخس حق الأجير (العمال والمستخدمين)، وتطفيف المستشار):
1- تطْفيف المعلِّم والمعلِّمة، ومن ذلك التأخُّر في دخول الحصَّة والخروج في أثنائِها من غير حاجة، أو الانشِغال بأشياء خارجة عن الدَّرس كالاتِّصال بالهاتف، أو الانشغال بأعمال مكتبيَّة تُنجز خارج الحصَّة، فوقت المعلِّم والمعلِّمة أثناء الحصَّة خاصٌّ بالطلاب والطَّالبات، فالواجب أن يصرف الوقت في ما فيه مصلحتُهم.
ومِن تطْفيف المعلِّم والمعلِّمة عدم الاستِعْداد الذِّهْني للدَّرس، ومن تَطْفيف المعلِّم والمعلِّمة عدم متابعة أعمال الطُّلاب من تصْحيح وتصْويب أخطاء، وغير ذلك.
2- تطفيف الموظَّف في عملِه، سواءٌ كان حكوميًّا أو خاصًّا، فيتأخَّر في الحضور ويخرج مبكِّرًا، يجعل ذلك عادة له. ومن التَّطفيف تأخير العمل والتَّسويف، خصوصًا ما يتعلَّق بالمراجعين ممَّا يشق عليهِم بتكرار المراجعة أو بالبحث عن شفاعة لينجز له عمله. ومن التَّطفيف أن يطالب الموظَّف بكلِّ ما له، ولا يرضى أن يُنْتَقص شيء من حقوقه، مع إخلاله بواجبه الوظيفي.
3- تطفيف الرئيس (المسؤول) في حقوق مرؤوسيه، ومن التطفيف حينما يتعامل بعض الرُّؤساء وفق العلاقات الشخصيَّة بعيدًا عن الكفاءة، فيرفع مَن حقُّه أن يُخفض، ويَخفض من حقُّه أن يرفع، تقاريره لها دور في حجْب مكافأة عن مستحقِّها، أو تعطى مَن لا يستحقها، ربَّما نُقِل موظف وحقُّه أن لا ينقل، أو بَقِي مَن حقُّه أن ينقل؛ بسبب التَّطفيف في كتابة التَّقارير، وغيرها.
4- تطفيف حق الأجير، ومن صور التطفيف ما يقوم به البعض مِن استئجار عامل يعمل عنده، ثمَّ يبخَسُه حقَّه كلَّه أو بعضه، فخاب وخسِر مَن هذا فعلُه؛ قال رسول الله -ﷺ-:«قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه.»، ومن خصمه الله فقد هلك لا محالة.
5- تطفيف المُسْتَشَار، فمَن استشارَه غيرُه وسأله عن شيء في بيعٍ أو شراءٍ أو نكاحٍ، أو توليةِ عمَلٍ أو غير ذلك، وجبَ عليْه أن يبيِّن ما يعرفه وما يعتقدُه، ويَحرُم عليْه أن يكتم مستشيرَه مواطنَ العيْب والخلَل، أو يُظْهِر المحاسنَ فقط، أو يثني بما ليس فيه، وقد صحَّ عن النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال:« إنَّ المستشارَ مؤتمنٌ»، ومن لم ينصح لمَنِ استشاره فقد خان الأمانة، وخيانتُها من صفات النِّفاق العملي، فلا تمنعْك أخي خشْية عتب النَّاس وذمّهم مِن بذل النُّصح والصِّدْق مع منِ استشارك؛ فاللَّه أحقُّ أن تخشاه.
6- ومن التَّطفيف؛ التطفيف في العبادات، وتطفيفُ الأب مع أولادِه (ذكورًا وإناثًا)، والزوج مع زوجته، والزوجة معه زوجها وتطفيف الأولاد مع الوالدين، وغيرها من الصور لعلنا نتحدث عنها في مقال آخر بإذن الله تعالى.
تذكير .. حينما تمرُّ بنا سورة المطفِّفين لنقِف مع آياتها وقفة تدبُّر ومحاسبة، وليمتثل لتحذيرها من وقع في أي صورة من صور التطفيف في المعاملات بصفة عامة؛ وكيف لا يرْعوي مسلم وهو يسمع وعيدَ ربِّه له بقوله تعالى: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ سورة المطففين: 4 – 6]؟!
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.